هذه الرواية اللبنانية في صعودها الجميل
فيصل درّاج
2020-02-22
قد يعود عنوان هذه السطور، الذي لا يفاجئ الحقيقة، إلى قراءات من زمن الشباب فتنها أدب لبنانيون جمعوا بين جمال الأسلوب ومسؤولية الكتابة. أولهم رئيف خوري الحالم بتطويع أجناس أدبية متعددة وعدالة اجتماعية، وبفلسطين راجعة إلى أهلها ناصرها من مقتبل شبابه إلى رحيل غير عادل وفد قبل الأوان. وثانيهم عمر فاخوري، "أديب في السوق" تفاءل "بنهضة العرب"، ولم يبلغ العشرين، ومارون عبود اللبناني المشتق من المعرفة والحكمة. وقد يكون في العنوان اعتراف بجميل هؤلاء الذين علّموني معنى الكتابة، أكانوا صحافيين انتمى إليهم "آل تويني" وطلال سلمان، أم مؤرخين كالراحل حسين مروة وفواز طرابلسي، المثقف الأخلاقي المتسق البعيد عن الاجتهادات الموسمية. والأكيد أن العنوان آثر الصدق وتوقف أمام أسماء دافئة السلوك عالية الموهبة: ربيع جابر وجبور الدويهي وهدى بركات وإلياس خوري ونجوى بركات ورشيد الضعيف، الذي سخر من اسم عائلته في روايته الأخيرة.
أعطى إلياس خوري، الذي يواجه الهويات المصطنعة بنثر الحياة، عمله الروائي الكبير: "اسمي آدم"، متكئا على المأساة الفلسطينية التي لا تشيخ
تستدعي رواية نجوى بركات الأخيرة "مستر نون" تعبيراً لا ينقصه الجفاف: "صناعة الرواية"، حيث يتكامل النثر البليغ والسخرية السوداء وتنوّع الشخصيات وحس سليم بتغيّر الأزمنة وشكوى الأمكنة. بنت عوالم روائية متعددة الأصوات متوسلة مفارقات متناتجة، فكل ما كان ينفيه حاضر عبث به، ومتواليات من إشارات فنية، تصيّرعلم الإنسان عوالم متناقضة، والمكان المنزاح من موقعه إلى أمكنة مشوهة. وصيّر لغة الفَقْر والأسى إلى لغات من آهات واحتجاج. استولدت شخصيات غادرتها الإلفة وأحالت على غابة بشرية أرضها بيروت، التي كانت، وحرب قديمة ـ جديدة لا يزال حراسها يطلقون الرصاص. لكأن الحرب الظالمة أتت على بيروت، استبقت منها أطلالاً، و"أثمرت" ركاماً من بشر وروائح خانقة وبشراً لم يفقدوا الذاكرة يبحثون عن ملاذ. ارتكنت نجوى بركات في روايتها "مستر نون" إلى بلاغة الإشارات، إذ لغة البشر من أزقّتهم الموحلة، وأسواقها من عفونة و"غرباء" هزمتهم أوطانهم وهزموا بيروت قديمة.
أنجزت نجوى نصاً روائياً مبدعاً تفيض دلالاته على حكايته "البسيطة"، يسائل إنساناً مغترباً، بصيغة الجمع، وينفذ إلى أرواح حشد من المغتربين. أبانت، روائياً، معنى الضياع والاختناق والأسى والقبح، آخذة، بلغة هامسة صارخة متأسية ساخرة. ما وضع في روايتها ثنائيات الحب والكراهية والحنان والاتهام والغضب والحنين، منتهية إلى كون روائي شاسع ـ يرثي بيروت ويدافع عن المدن الجميلة في كل مكان.
أعطى إلياس خوري، الذي يواجه الهويات المصطنعة بنثر الحياة، عمله الروائي الكبير: "اسمي آدم"، متكئا على المأساة الفلسطينية التي لا تشيخ. صاغها من علاقات فلسطينية ضربها الشتات المتكاثر، قوامها الذكريات والمجازر ونصوص الأدباء وحكايات صغيرة وكبيرة، وأسماء كانت شهيرة وقبضها الموت.
تستدعي رواية نجوى بركات "مستر نون" تعبيراً لا ينقصه الجفاف: "صناعة الرواية"، حيث يتكامل النثر البليغ والسخرية السوداء وتنوّع الشخصيات
دا في نصه الكبير روائياً يتأمل التاريخ، ومؤرخاً بليغاً تضجره كتابات المؤرخين. فالروائي ينفذ إلى قلب إنساني صاغته دروب موجعة، والمؤرخ التقليدي يضع الإحساس جانباً ويهوى "الوثائق" المتراكمة. خلق نثراً كأنه شعر، وشعراً من نثر يسرد تفاصيل الحياة، وجمع الشعر والنثر وأحالهما على تأويل طليق. زامل إلياس طموحه وبحث عن "الحقيقة الفلسطينية"، الموزعة على أسئلة جاهزة وإجابات ملتبسة، والتفت إلى حقيقة إسرائيلية تنطق "العدل الإلهي" لصالح القتلة. لكنه في الحالين انتصر "لحقيقة الأدب" المكوّنة من المتخيّل واللغة، ومن تاريخ أدبي يمتد من "وضاح اليمن" إلى غسان كنفاني، ومن أساطير الرواة إلى طه حسين. جمع مواده من اللغة والوقائع ورغبة في توليد المختلف جديرة بالثناء، ومن أرشيف عريض قرأ به "مؤرخاً" تاريخ مدينة "اللد" الفلسطينية في مقدساتها الحقيقية والمفترضة، ومجزرتها "النموذجية" التي سقطت عليها في صيف 1948. وصل خطابه الروائي إلى سؤالين: كيف يحوّل الفنان مجزرة مستمرة إلى عمل روائي؟ وكيف يستولد القتيل الموزّع على شتات متكاثر هوية تشدّه إلى الحياة؟
اصطدمت هدى بركات في روايتها "بريد الليل" وفي "زمن الثورات العربية" بمرحلة "ما بعد الاغتراب"، التي تستدعي مواطناً مفترضاً وتطلق عليه النار
حقّقت هدى بركات في عملها الأخير الصغير الصفحات "بريد الليل" ـ 125 صفحة ـ صيغة: "الرواية كمجاز"، إذ الصامت في الرواية أشد وضوحاً من المعلن والمرئي أقل دلالة من المحتجب والهارب المعذّب أكثر طمأنينة من "المواطن المقيم". عالجت الرواية العربية عند نجيب محفوظ وغالب هلسا وصنع الله إبراهيم موضوع "الإنسان المغترب" الذي تختار له السلطات الحاكمة دربه وتعاقبه على السير فيه. اصطدمت هدى في "زمن الثورات العربية القتيلة" بمرحلة "ما بعد الاغتراب"، التي تستدعي مواطناً مفترضاً وتطلق عليه النار، لا فرق إن لبى النداء أو اعتصم في بيته الفقير. رسمت "الإنسان المقوّض"، الذي يخطئ إن وقف وإن جلس، وإن تكلّم أو صمت معبّراً، في الحالين، عن "إنسان يتضاءل" كلما تقدّم به العمر تساقط جوهره الإنساني. ارتكنت إلى نثرها المقتصد القريب من الراحل المصري البديع محمد البساطي ورثت "الإنسان النافل"، الذي لا ترغب به السلطات المسيطرة ويزهد به العالم، بعد رحيله الكابوسي إلى المنفى. وما إنسان هدى في صوره المتداخلة إلا مرايا "وجود أجوف" يسرد أحوال "عرب" في طريقهم إلى موت أخير. وإذا كان إلياس خوري نفذ، وهو يرسم مجزرة اللد التي أنجزها الإسرائيليون بأسلحة مختلفة، إلى عوالم اليتم والعماء والجوع والروائح الخانقة والجثث المتآكلة، فقد نفذت هدى، وهي ترسم هرب "المواطن" الذي ضاقت به أرضه، إلى عوالم الهرب الكسيح وبؤس "عالم الغرباء"، الذين يتساقطون في أكثر من طريق.
اتكأت هدى، من مطلع روايتها، على بلاغة المفارقات، إذ في المفارقة سخرية وغضب وحزن معاً، وعلى صورة إنسان هشّ قيدته علاقات مجتمعه الواضحة والمحتجبة، بقدر ما صاغت نسيجاً متحاوراً من حكايات صغيرة، ما هي بالصغيرة، تفضح خراب العائلة والتدين الزائف والحب المستحيل، وزيفاً كونياً يمتد من قرى صغيرة إلى مراكز المجتمع الرأسمالي. طرح خطابها الروائي سؤالين لا يحتاجان إلى إجابة: لماذا تموت "الأمم" وتستمر في القتل والعقاب؟ ما هي الحدود الشاسعة التي أنتجت "المتظاهر العربي القتيل"؟
ومع أن عنوان الرواية يقرّر تيهاً وخيبة، أوكلت الروائية إلى بنية روايتها استكمال المعنى وإيضاحه، مكتفية بأربعة عناوين كاشفة متقشفة: بعد كلمات عن المحتضر الذي يلوذ بالبحر يأتي العنوان الأول: "خلف النافذة" حيث يتابع الناظر مشهداً غائم التفاصيل تضيئه الحكايات الصغيرة القادمة، يتلوه "في المطار" الذي يوحي بهرب مقيّد وعودة مستحيلة، فمطار الإنسان غير العربي يختلف عن مطار دفع العربي إليه دفعاً ببطاقة سفر مستعارة. العنوان الثالث هو: خاتمة، لا تعقبها كتابة، فهي قائمة قبل مغادرة الوطن القسرية، يتلوها "موت البوسطجي"، ذلك الذي قبضه الموت قبل أن يوصل الرسالة. كان المصري اللامع يحي حقي قد كتب في زمن مضى قصة قصيرة عنوانها: "البوسطجي"، يموت فيها المرسل إليه ويبقى البوسطجي على قيد الحياة، قبل أن يأتي زمن عربي يحسم حياة المرسل والمستقبل والبوسطجي ومركز البريد.
رشيد الضعيف الذي سخر من صنعة عائلته في روايته الأخيرة "ألواح"، قدّم شكلاً مختلفاً من السيرة الذاتية: سيرة مشتقة من روح الفنان وجماليات الحياة
كل ما ارتكنت إليه هدى انطوى على موضوع صائر إلى التقوّض وإشارة تجلو دلالة زمن تجاوز الاغتراب، كما لو كان في عالم المهزومين أكثر من لغز وأحجية: ما معنى الرسالة عربياً، وما معنى دلالة المطار والبوسطجي، لماذا يموت المرسل والمستقبل وحامل الرسالة؟
كان اللبناني "القديم" رئيف خوري يقول: "ليس الأدب كلمات لها رنين، إنه رسالة". أنجزت هدى بركات في "بريد الليل" شهادة على عالم عربي محتضر مسكون بالأشباح والكوابيس، ولم تبعث برسالة، فالرسائل في زمن الموت لا تصل.
رشيد الضعيف الذي سخر من صنعة عائلته في روايته الأخيرة: "ألواح"، قدّم شكلاً مختلفاً من السيرة الذاتية الروائية: سيرة مشتقة من روح الفنان وجماليات الحياة ومن بساطة متدفقة، لا تحاكي ولا تعبأ بالتقليد. أحال على عائلة من دفء وقناعة و"قلوب من ذهب"، كما يقول الأدباء، ورأى فيها جوهر الإنسان النظيف كما يجب أن يكون. حاذر، ضاحكاً ممازحاً عفوياً، ترصّن الأستاذ الجامعي، الذي يضع لقبه أمامه قبل أن يبدأ الكتابة، وأقصى "الأسلوب المصطنع" الذي يتوسّل المهابة. وإذا كانت ملامسة السيرة الذاتية، روائية كانت أو عارية بلا أقنعة، تدفع الأديب التقليدي إلى اختراع أصوله، آثر رشيد، الذي في اسمه الأول رشاد وحكمة، الاحتفال بالحياة كما يقبل بها وتقبل عليه. قدّم عفوياً صورة الأم الحنون، كما أرادتها الطبيعة أن تكون، وملامح الأب التي يلمحها الإنسان السعيد في آباء يلتقي بهم صدفة، وجمع أطراف العائلة وكساها بحرارة ساخرة تترسّب في الذاكرة.
"الرواية اللبنانية الآن في طليعة الرواية العربية"
أعطت كتابة رشيد درساً فنياً في إلغاء المسافة بين الكاتب والقارئ، جمعت بينهما لغة واحدة، ونثر دال لا زوائد فيه يخاطب الروح ولا يحتاج إلى قواميس. انتهى إلى "صورة الفنان"، الذي تحرره الكتابة ويحرّر الكتابة، يشهد على ما عاشه ويمحو "جلال الصنعة والاختراع". اكتفى بنثر يوحي وبمتخيل قليل التكاليف ينطلق بالحقيقة. لم "يتأستذ" ويتحدث عن "مسؤولية الكاتب"، بل أعطى سرداً سلسلاً يتحدّث همساً عن مسؤولية الصدق في التعامل مع الذات والقارئ.
هذه إشارات عن روايات لبنانية أربع ظهرت خلال العامين الأخيرين تنقصها، وبسبب "استبداد المقالة" إشارات إلى روائيين لبنانيين آخرين: رواية "صنع في بيروت" لجبور الدويهي الذي تخفي روايته ثقافة روائية واسعة، وعلويّة صبح التي أعطت، قبل سنوات، روايتها "دنيا" عن المستبد العاجز، وكذلك الصديق الصامت، بلا سبب؟، ربيع جابر الذي أرهقه طموحه، ولا يزال.
لهذه الأسباب الناقصة تبدو الرواية اللبنانية الآن في طليعة الرواية العربية، ذلك الجنس الأدبي القائم على المواجهة والتجدّد واللايقين.