قراءات نقدية في إبداعات لويس عوض
ألف
2020-03-07
يضمّ كتاب (لويس عوض – قراءات نقدية ) الصادر حديثاً عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر مجموعة دراسات وقراءات نقدية، عن الدكتور لويس عوض أحد الشخصيات الثقافية والأدبية البارزة في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد قام بإعدادها وتقديمها نبيل فرج. النقاد والباحثون الذين قرأوا لويس عوض في هذا الكتاب كُثُر وهم من عُمد دولة الأدب، مثل الدكاترة جابر عصفور، وشكري عياد، وعبدالمنعم تليمة، وماهر شفيق فريد، ومحمد إبراهيم أبوسنّة، وكريم مروة، ولطيفة الزيات، ومحمود أمين العالم وسواهم. والكل يجمع على تقدير لويس عوض وينقده في الوقت نفسه، وهذه هي سنّة الحياة والأدب في آن. وفي آدابنا القديمة ترد عبارة جليلة هي «جَلّ من لا يُخطئ» . وقد أصاب لويس عوض كثيراً فيما كتب كما أخطأ كثيراً ، ولعل ميزته الأساسية تمثلت في المعارك الفكرية التي أثارها أو خاضها ونتج عنها إعادة نظر في الكثير من القضايا، وتصويب أخطاء شائعة، أو تحريك للحياة الثقافية بوجه عام.
الدكتور شكري عياد في دراسة له في الكتاب، يقول إن لويس عوض تعرض لكثير من النقد، بعضه جارح ومجرّح، بسبب دراسته في تاريخ الفكر المصري الحديث، ودراساته في اللغة العربية والأدب العربي القديم، ولكنه في هذه الدراسات الأخيرة لم يكن منظّرا بل حاول أن يكون مؤرخاً. ولكل مؤرخ وجهة نظره التي تسيطر على اختياره للأحداث وتفسيره لها. ولويس عوض رجل عالمي النزعة في فكره وشخصيته وأسلوب حياته. وقد التقى إيمانه بشخصية مصر ودورها الحضاري بنزعته العالمية فكان منهما مزيج حدّد وجهة نظره وأوقعه في بعض الأخطاء التاريخية. هذا المزيج، على قيمته، كان ينقصه عنصر مهم، وهو المعرفة الوثيقة بالتراث العربي الإسلامي الذي ظل لويس عوض ينظر إليه نظرة الهاوي رغم محاولاته المستمرة لاستيعابه. على أن مثل تلك الأخطاء لا ينبغي أن تكون سبباً لتجريح الرجل. والآن وقد انطوت صفحة حياته، وبقيت لنا أعماله، يجب أن نتمثل بقول شاعرنا:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
إني أخاف عليكم أن تلتقوا
أهم ما خلّفه لنا لويس عوض بنظر الدكتور شكري عياد هو مقالاته ودراساته في النقد الأدبي، وهذا الجانب يعالجه الدكتور جابر عصفور في مقاله الذي يتناول فيه الدكتور لويس عوض والدكتور محمد مندور كناقدين ويقارن بينهما.
يرى جابر عصفور أن الفارق بين محمد مندور ولويس عوض فارق كمّي تمامًا.. كلاهما لم يكن ماركسيًا بالمعنى الدقيق أو العلمي في أي مرحلة من مراحل كتاباته، وكلاهما كان راديكالياً بالمعنى الذي لا يتطابق مع الماركسة بالضرورة. وإذا كان أول كتاب نشره لويس عوض، وهو «في الأدب الإنجليزي»، يشي بتأثره الشديد بأفكار الناقد الماركسي الإنجليزي كريستوفر كودويل، فإن هذا التأثر بأكثر النقاد الإنكليز مثالية ورومانسية، له دلالته الواضحة، فضلاً عن أنه يظل في منطقة التأثر التي لا تجعل من كتابات لويس عوض نقداً ماركسياً.
وأهم من ذلك أن أي متابع مدقق لن يجد في التحليل النهائي فارقاً جذرياً بين المقولات النظرية التي انبنى عليها كتاب «في الأدب الإنجليزي» في منتصف الأربعينيات، وكتاب «الاشتراكية والأدب» في منتصف الستينيات.
فذلك الكتاب الذي عدّه بعض النقاد الماركسيين تراجعاً، لم يكن في حقيقة الأمر سوى استمرار متصل لمقولات «الإنسانية الجديدة» التي صاغها لويس عوض صياغة حاسمة في مطلع الخمسينيات، في مبادئ تؤكد أن الإنسانية الجديدة تحرر دلفن من المذهبية الضيقة، وأنها تؤمن بجوهر واحد هو الحب، وأن ليس في الفن مادة وصورة، ولكن فيه ما في طبيعة الحياة والأحياء.
وجهان لعملة واحدة
وعند جابر عصفور أن لويس عوض ومحمد مندور وجهان لعملة واحدة، أو موقف نقدي واحد. «وإذا كان محمد مندور قد أتاح لي أن أتعرف كتابات لويس عوض في مطلع الصبا، فإن كتابات لويس عوض جعلتني أعاود النظر في كتابات محمد مندور بوعي مختلف، وظل كلاهما يردّني إلى الآخر دون انقطاع. فكلاهما يتكامل مع قرينه على نحو لافت، وكلاهما تعلمت منه الكثير، وكلاهما ظل ملازمًا للآخر ملازمة أجاكس لصديقه آخيل الذي سبقه إلى الموت فظل يذكره بالوفاء والعرفان إلى أن لحق به بعد ربع قرن» .
ويتابع الدكتور ماهر شفيق فريد، وهو ناقد مصري بارز، النظر في «نقد» لويس عوض، فيرى أن لويس عوض هو في المحل الأول ناقد أدبي. «ولكن لا معنى للثناء على لويس عوض الناقد، فهو كالممدوح الذي قال عنه الشاعر العربي:
تجاوز قدر المدح حتى كأنه
بأحسن ما يُقنى عليه يُعاب
والواقع أنه إلى جانب زكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي، من أهم المفكرين المصريين في هذا القرن، وإن مالت كفة اهتمامات هذين الاثنين إلى الفلسفة مع إلمام بالأدب، ومالت كفة لويس عوض إلى الأدب مع إلمام بالفلسفة. إنه ذو رؤية شاملة وقدرة على الربط بين الأدب والحياة على نحو لا يجور على استقلال الفن ولا يغفل تأثير العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيه، في الوقت ذاته.
وقراءاته واسعة تغطي الآداب الأوروبية كلها تقريبًا، منذ الإغريق والرومان، مع تركيز على الأدبين الإنكليزي والفرنسي، واطلّاع طيب على الأدب العربي قديمه وحديثه».
ومن جانب آخر يعرض ماهر شفيق فريد لجوانب أخرى في شخصية لويس عوض منها أنه لم يكن يخلو من تطرف النوابغ. وهذا واضح في بعض انفجاراته بأحكام غريبة كسخريته القاسية من مسرحية ميخائيل رومان «الدخان» ، رغم أنها ليست أسوأ من كثير مما كتب عنه.
أسطورة أوريست
ثم إن كتابه «مقدمة في فقه اللغة العربية» بحاجة إلى نقد علمي يفصل بين الخطأ والصواب فيه، ويكون على مستوى أرقى من سلسلة المقالات التي نشرتها مجلة الإذاعة والتلفزيون في عهد أحمد نشأت. فليست دعواه أن اللغة العربية لغة هندية/ أوروبية بالدعوى المقنعة، والتشابه الصوتي بين عشرات الكلمات العربية والأجنبية التي يوردها قد يكون راجعاً إلى أن الجهاز الصوتي لدى بني الإنسان واحد في كل مكان. ومن ثم كان طبيعياً أن تتشابه الصادرة عن الحنجرة الإنسانية من الصين إلى البيرو.
أما كتابه عن «أسطورة أوريست والملاحم العربية» فربما كان من أسوأ ما كتب. خياله يجمح به ويحلّ محل الدرس العلمي المتأني، بل محل حسن الإدراك العادي. وهو لميوله الموسوعية، يخرج أحيانا عن مجال تخصصه، كما في كتابه عن «رسالة الغفران» حيث ارتكب بضع أخطاء (من أطرفها قراءة «تغصّ بالصليان» ، وهو نبات صحراوي، على أنها «تغصّ بالصلبان» . مما جرّ عليه سفر «أباطيل وأسمار» الضخم لمؤلفه العلامة محمود محمد شاكر (ولا أستطيع أن أشاطر يحيى حقي وزكي نجيب محمود وشكري عياد وعبدالعزيز الدسوقي والحسّاني عبدالله إعجابهم بهذا الأخير. وهو سفر يختلط فيه العلم الغزير بالسباب الغزير).. على أن لويس عوض كان من الشجاعة الأدبية والأمانة العقلية بحيث أقرّ بصواب بعض النقدات، خاصة اللغوي منها، الموجهة إليه في هذا الكتاب. وليس هذا الاستعداد للإقرار بالخطأ، والرجوع إلى الصواب، بالأمر الشائع بين كتابنا.
حياته الفكرية
كذلك تعرض لويس عوض عبر حياته الفكرية الطويلة لاتهامات الغزو الفكري، ومعاداة العروبة ، والعمالة للغرب. وهناك من حاول تجريده من كل مزية كأحمد إبراهيم الشريف، وهو من دراويش العقاد الذين لا يعدو لمعان أستاذهم أن يعكس انطفاء نجمهم. فالشريف في ختام عرضه لكتاب لويس عوض «مقالات في النقد والأدب» ، يقول: «ذلك هو الناقد وذلك هو نقده ومعياره يصيب حيثما استحال عليه أن يخطئ، وينفع حيثما تعذر عليه أن يضرّ أو يضلّل، ويصدق حيثما استعصى عليه أن يكذب أو أن يحرّف، ويمتع كلما امتنع عليه أن يفرّق أو أن يثير».
يمضي هذا كله كما تمضي خلافات المعاصرين وغيرتهم ونميمتهم. ويبقى من لويس عوض خمسون كتابًا ما بين مؤلف ومترجم تضطرم بتلك النار التي وجدها كاتبنا في شيلي، نار الشهوة يحملها صاحبها بين جوانحه لإصلاح العالم. وتحت عنوان «الفارس يترجل» يكتب غالي شكري عن «مشروع» لويس عوض، فعنده أن هذا المشروع قد انتهى قبل أن يبدأ ومأساته أنه لم يتوافق مع الحد الأدنى لاتجاه التاريخ، وهو الأمر المعاكس تماماً لمشروع طه حسين الذي كان لويس عوض امتدادًا له، لكن «الأصل» كان ثمرة طبيعية لزمانه ومكانه.
دور طه حسين
أما «الامتداد» وهي كلمة فيها قدر من التجاوز، فقد أعجبته شخصياً أفكار طه حسين وتحمس لها وتأثر بها. ولكنه لم يفكر في المجتمع الثقافي والتاريخي الجديد مع «بداية الخمسينيات» ، وأن أفكار طه حسين قد تحتاج إلى تعديلات جذرية حتى تنسجم مع الواقع المتغير إذا كان الهدف استمرار تغييره، ولم يستوعب المعنى الحقيقي لانتهاء دور طه حسين في الحياة المصرية واكتفى بتفسيرها التفسير السهل: وهو القمع من جانب السلطة الثورية وعدائها للثقافة. كان هناك سبب آخر في الاختفاء النسبي لدور طه حسين، وهو انتهاء مشروعه، ولذلك حين يأتي لويس عوض مجدداً الأركان الرئيسية لهذا المشروع فهو «فولتير في غير زمانه» ، وربما في غير مكانه.. ولكن ليس معنى ذلك أن لويس عوض كان «خواجا» كما يحب خصومه أن يصوروه. ولكنه كان أحد أبناء الجيل الذي أبرم مع ثورة يوليو «صفقة صامتة» ، وهو جيل ثورة 1919 بتنويعاته المختلفة: توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي وغيرهم ممن اتسعت عقولهم للثقافة الغربية، واتسع وجدانهم لتاريخ مصر القديمة والحديثة. ولكن الجغرافيا السياسية لم تمتد بهم لأكثر من غرب المتوسط، والتاريخ ظل رأسياً محاصراً بحواجز الصحراء من الشرق والغرب.
لم يكن أمام «الثورة» سوى التحالف مع هؤلاؤ الذين ولدوا بين أحضان ثورة أخرى تنشد الاستقلال الوطني والليبرالي والارتباط الثقافي بالغرب، وكانوا يحلمون بدرجات متفاوتة من العدل الاجتماعية.
لم يكن لثورة يوليو برنامجها النهائي أو البعيد الأمد. ولكنها احتاطت لنفسها منذ البداية بالتفاهم مع الشيوعيين والإخوان المسلمين. ولم تجد أمامها من المثقفين سوى الذين كانوا قد أتموا تكوينهم وأضحوا رموزا قبل مجيئها. وكان على هؤلاء أن يمتصوا صدمة «الرداء العسكري» وما تلاه من إجراءات قمعية في مختلف الاتجاهات ألغت أي توقع لاستمرار الليبرالية. وكان عليهم أن يمتصوا صدمة «العروبة» التي نجح النظام الجديد في إخراجها من صالونات المثقفين إلى الشارع الشعبي والوصول بها إلى محطة الوحدة بين مصر وسوريا.
المشروع المصري
لم يكن هذا الامتصاص أو ذاك موافقة من جانب الحكيم أو محفوظ أو فوزي أو عوض، وإنما كان كبتاً محسوباً. فليس هينا القبول بإلغاء الليبرالية أو انزواء الوطنية المصرية عند أصحاب المشروع المصري الليبرالي. ولكن الذي حصل هو «الكبت المحسوب» الذي طرد لويس عوض وغيره من الجامعة سنة 1954 بسبب غياب «الديموقراطية» واعتقاله عام 1959 بسبب حضور «الوحدة العربية» وهو الكبت نفسه الذي أوقف نجيب محفوظ عن الكتابة اختيارياً بين عامي 1952 و 1957 وهو أيضا الكبت الذي طرد طه حسين ومحمد مندور وعبدالرحمن الخميسي وغيرهم من جريدة «الجمهورية» ولكنه الكبت المحسوب. فقد أصبح الحكيم ومحفوظ ولويس عوض من أجنحة «السلطة الثقافية» غير المتجانسة التي ضمت أيضا يوسف السباعي وعزيز أباظة والعقاد. إذن لم يكن هناك مكان لأمثال مشروع لويس عوض الذي وئد منذ بداية البدايات. وأصبح الكبت والتكيف بديلاً للمشروع وكان «تاريخ الفكر المصري الحديث» هو الصياغة الشاملة للمشروع الذي مات قبل أن يولد. وتلازم المفارقات لويس عوض إلى النهاية. فقد دفع في الخمسينيات والستينيات ثمن مشروع لم يكن قد صاغه نهائيًا. وحين تم الإعلان في يونيو 1967 عن هزيمة مشروع السلطة/ الثورة، بدأ لويس عوض في صياغة مشروع، وكأنه يقول: «هذا هو الأصل الذي لم تأخذوا به فكنتم البديل الخاسر» . لذلك لم يكن «تاريخ الفكر المصري الحديث» بحثا في التاريخ، بل مشروعا يستشهد بالتاريخ، ولكن هزيمة النهضة كانت في واقع الأمر نهاية النهايات لمشروعاتها كلها، متفرقة ومجتمعة، سلطة ومعارضة، أفرادًا وأحزابًا. كانت «النهضة» ذاتها قد انتهت!
ويرى الدكتور سيد البحراوي أنه حين يتاح لنقدنا العربي الحديث أن يدرس الدرس العميق، ويؤرخ لمراحله الأساسية، لابد أن يحتل لويس عوض فيه مكانة مرموقة لأسباب عديدة منها دأبه في ميدان الدراسة الأدبية، ومنها حساسيته العالمية بالنص الأدبي مع بصيرته النفاذة في إدراك مدلولاته وعلاقاته بالعالم المحيط به، ومنها انفتاح أفقه وتحرر فكره، هذا الذي جرّ عليه الويلات مثلما جلب له الخيرات، وهو في النهاية ممثل لمرحلة انتقالية مهمة في فكرنا الحديث.
عين مصرية
فمنذ أوائل الأربعينيات ولويس عوض دارس الأدب الإنجليزي لا يقف عند هذا الدرس وإنما يتجاوزه طوال الوقت من داخله ومن خارجه ليرتبط ارتباطا وثيقا بالأدب العربي محاولاً أن يسهم في نهضته التي كانت تتبلور عبر محاور متعددة إسهاما متعدد المجالات في الشعر والرواية والمسرحية والنقد الأدبي.
وفي مقال عنوانه «لويس عوض/ نظرة ثانية» يكتب جهاد فاضل ما للويس عوض وما عليه: «يشكك خصومه في الكفاءات الكثيرة التي يعترف له بها الآخرون. فهو عند هؤلاء الخصوم مجرد «عين مصرية» على الأدب الغربي.
يرحل إلى بلاد الفرنجة ليتابع المسرح والسينما والمعارض الفنية ثم يعود ليروي ما شاهده هناك. مما أخذ عليه أنه ذكر في كتابه «تاريخ الفكر المصري الحديث» أن لا علاقة بين مصر الحديثة والتراث العربي الإسلامي، ففي كل ما في مصر الحديثة من إيجابيات، وجميع ما عرفته مصر من مظاهر الحرية والديموقراطية، إنْ في الفكر أو التنظيم، إنما هو أثر من آثار الحملة الفرنسية عليها سنة 1798، حتى ليمكن تلخيص كتابه هذا في كلمات قلائل هي أن مصر الحديثة هبة بونابرت.