في تفكيك مَسألة (عسكَرة) الثَّورة بينَ الرِّهانات والوَقائِع والكُلِّيّات
مازن أكثم سليمان
2020-03-21
تتأسَّسُ أيَّة مُراجَعة نقديّة غايتُها تفكيك الصِّراع في التَّحوُّلات التّاريخيّة الكُبرى وحيثياتِهِ وتداعياتِهِ على فَهم الصِّلة المُعقَّدة بينَ (الرِّهانات) التي انبثقَتْ عن قُوَّة المُتخيَّل، وما أنتجَتْهُ هذِهِ الرِّهانات من أفعال أثَّرَتْ في مَسارات (المُستويات الوقائعيّة)، والتي عادَتْ بدورِها وأثَّرَتْ على الرِّهانات، وذلكَ في حركيَّةٍ جدَليّة نسبيّة تبادُليّة غير قابِلةٍ لتعيينٍ مَركزيٍّ ثُنائيٍّ تقابُليٍّ أو تراتُبيٍّ حاسِمٍ ونهائيٍّ، تفاصُليّاً وحدِّيّاً، بينَ طرفَي التَّأثُّر والتَّأثير؛ أي بينَ الرِّهانات والوقائِع، فالرِّهانات بقدر ما هيَ مُسَبَّقات الأفعال، هيَ نتائِج مُباشَرَة تلتحِقُ بأُفُق الأفعال وتداعياتِها، لهذا يبدو أنَّ طرَفاً نظَريّاً وتطبيقيّاً ثالثاً لا غِنَى عن تمثُّلِهِ (في اعتقادي) بوصفِهِ أداةً مَعرفيّة لفَهم أعمَق لتحوُّلات الثَّورة ومآلِها الآتي، وأعني بهذا الطَّرف الثّالث (المُستوى الكُلِّيّ)، الذي لا يتدخَّلُ مَنهجيّاً فقط في تحليل المَشهد كأنَّهُ وسيط خارجيّ؛ إنَّما هو في الأصل الأُنطولوجيّ جزءٌ بِنيويٌّ طبيعيٌّ وحيٌّ من نسيج الحدَث العيانيّ الثَّوريّ بينَ رِهاناتِهِ ووقائعِهِ.
أوَّلاً: قول في الجُذور المَوضوعيّة لخَيار (العسكَرة)
لم يكُن خَيار (العسكَرة) اختياريّاً بالمَعنى العَميق للكلمة، لكنَّ البَحثَ في تحوُّلِ الثَّورة من المَرحلةِ السِّلميّةِ إلى مَرحلةِ التَّسليح شديدُ التَّعقيد وغيرُ قابلٍ للاختزال والتَّبسيط في ضوء تداخُل المَرحلتين أوَّلاً، وتشابُك مُستويات التَّأثُّر والتَّأثير البِنيويّ (الدّاخليّ/ الخارجيّ) ثانياً، ولذلكَ ينبغي أنْ يظلَّ تحليل مَسألة التَّحوُّل نحْوَ (العسكَرة) خاضِعاً لقراءة هيرمينوطيقيّة (تأويليّة) تبدأ بالشَّرح، وتمرُّ بالتَّفسير، وتنتهي بالتَّأويل، بعيداً عن الأحكام الحدِّيّة النِّهائيّة المُتعالية.
يرى المُعارِض والكاتب نبيل ملحم في مَقالتِهِ "الثَّورة السُّوريّة والمُستحيلات السَّبعة" المَنشورة في مَوقِع "كُلُّنا سُوريّون" بتاريخ 23/10/2017، أنَّ إحدى أهمّ مُستحيلات الثَّورة السُّوريّة كانَ يكمنُ في بقائِها في طورِها السِّلميّ، حيثُ يقولُ: "المُستحيل الرّابع: هو استحالة السِّلميّة، أو لنقل: استحالة استمرار الطّور السِّلميّ للثَّورة. إن هكذا شُروط، من: استحالة جرّ القاعدتين الطائفيّة والطّبقيّة للنِّظام إلى مَجرى الثَّورة، ومُمارَسة النِّظام أقصى حالات العُنف البربريّ، هيَ التي شكَّلتْ في الحالة السُّوريّة، ما يُمكِنُ تسميتها بِـ: المَناطِق العازلة أمام الثَّورة، وفي الوقت نفسه هي المَناطِق التي يختبئ، ويحتمي بها النِّظام، أقصد: مَناطِق السّاحل السُّوريّ بشكل خاصّ، والمَناطِق التي تقطنها غالبيّة سُكّانيّة، تنتمي إلى العصبيّة التي يرتكز عليها النِّظام في بعض المدن السُّوريّة، إضافة إلى القاعدة الطَّبقيّة والاجتماعيّة للبرجوازيّة السُّوريّة في مركز أكبر مدينتيْن سوريتيْن دمشق، وحلب، وهو الأمرُ الذي تركَ الثَّورة مَعزولة في الأرياف والمدن المُتوسِّطة والصَّغيرة، وهو الأمرُ ذاته الذي فرَضَ ضرورة (العسكَرة) لمدّ شرارة الثَّورة ولهيبِها إلى مَناطِق رأس النِّظام السِّياسيّ والاقتصاديّ؛ فكانت (العسكَرة) الممرّ الوحيد للسُّوريِّين لإسقاط النِّظام".
لم يكُن خَيار (العسكَرة) اختياريّاً بالمَعنى العَميق للكلمة، لكنَّ البَحثَ في تحوُّلِ الثَّورة من المَرحلةِ السِّلميّةِ إلى مَرحلةِ التَّسليح شديدُ التَّعقيد وغيرُ قابلٍ للاختزال والتَّبسيط
وأعتقدُ من جهتي (بناءً على كلام ملحم الذي أضمُّ صوتي إلى صوتِهِ) أنَّ سببَ هذِهِ الاستحالة (إذن) لم يكُنْ بفعل التَّدخُّل الخارجيّ المُحفِّز للتَّسليح كما يحلو للبعض الادّعاء؛ إنَّما هوَ (أي التَّسليح والعسكَرة) (وقبلَ أيِّ سببٍ آخَر) نتيجةٌ لاحِقةٌ للعامِل المَوضوعيّ الوقائعيّ المُرتبِط بحَجم العُنف الوحشيّ المُرتكَب ضدّ حراك الثَّورة السِّلميّ وحَواضنِها الشَّعبيّة. فالنِّظام، سواء أكان القرار قرارهُ وحده، أم بتأثيرات خارجيّة، رأى أنَّ من أهمّ أخطاء النِّظاميْن التّونسيّ والمصريّ في مُواجهة ثورتيْهِما هو نقص جرعة العُنف المُمارَس في مُواجَهة الثُّوّار، فضلاً عن رغبتِهِ القصوى في دفع الثَّورة إلى ردّة الفعل الطَّبيعيّة في مثل هذِهِ الحالة الاستثنائيّة والنّادِرة في مُستوى القمع المُوجَّه ضدَّها؛ حيثُ كانَ يظنُّ أنَّ دفع الثَّورة إلى حمل السِّلاح سيُسهِّلُ مَهمَّتَهُ، ويحصرُها في أسابيعَ قليلة، لوأدِ الحِراك، قياساً على أحداث حماه في الثمانينات.
ولعلَّ مُراجَعات المُعارِض والكاتب وائل السَّوّاح لمَسار (لجان التَّنسيق المَحلِّيّة) التي كانَ لِـ رزان زيتونة الدَّور الكبير في تأسيسِها، ولا سيما في مَقالتِهِ "هل حسَبنا هذا الحساب؟ _ مآلات الثَّورة السُّوريّة (4)" المَنشورة في مَوقِع "تلفزيون سوريا" بتاريخ 7/ 11/ 2018، تُؤكِّد (هذِهِ المُراجَعات) استحالة مَنْع التَّسليح و(العسكَرة) مَوضوعيّاً، وتُبرِّئ ذمَّة النّاشطين من قَبول هذا الخَيار طَوْعاً، فهيَ مَسألةٌ قد فرَضَتْها قُوَّة الأمر الواقِع، لا رفاهيّة ردّ الفعل، وذلكَ بعيداً عن ثُنائيّة (الصَّحيح _ الخاطئ، أو الخير _ الشَّرّ)؛ إذ بدا منذُ البدايات الأُولى للثَّورة مَدى تصميم (لجان التَّنسيق المَحلِّيّة) صاحبة شعار (حُرِّيّة _ كرامة – مُواطَنة) في حراكِها وفي بَياناتِها (يُمكِنُ مُراجَعة أرشيف هذِهِ البَيانات على غوغل أو على صفحة اللِّجان على الفيسبوك، والتي كانت تصدرُ صُدوراً دوريّاً نصفَ شهريّ) على الحفاظ على سِلميّة الثَّورة. لكنَّ مَوقِف هذِهِ اللِّجان بدأَ يتعرَّضُ على نحْوٍ جَلِيٍّ لضُغوط مَوضوعيّة جَمّة يوماً بعدَ يوم بفعل تصاعُد مُستوى القمع المُمارَس ضدَّ الثَّورة السِّلميّة، والحاجة الوقائعيّة إلى الدِّفاع عن النَّفس في بُؤر الاحتجاجات التي كانتْ تتوسَّع شيئاً فشيئاً، فضلاً عن الازدياد المُضطّرد في حَجم الانشقاقات عن مُؤسَّسات السُّلطة، ولا سيما الانشقاقات عن الجيش والشُّرطة وأجهزة الأمن، ليظهَرَ في تلكَ المَرحلة (الجيش الحُرّ) بوصفِ وظيفتِهِ التي استمرَّت لشُهور، مع بعض الاستثناءات، تكمنُ في الدِّفاع، لا الهُجوم، عن بُؤر الحراك وحاضناتِها، وعلى الرّغم من كُلّ تلكَ الضُّغوط المُرعبة، تمسَّكَتْ (لجان التَّنسيق المَحلِّيّة) بسِلميّة الثَّورة حتّى آخِر نفَس كما يُقال، حيثُ كتَبَ السَّوّاح في مَقالتِهِ نفسها: "كانت (لجان التَّنسيق المَحلِّيّة) بحاجة إلى الكثير من الشَّجاعة لكي تصرّ حتى اللَّحظة الأخيرة على سِلميّة الثَّورة كشعار وكمضمون. وسنرى أنَّ اللِّجان ستأخذ شعاراً أساسيّاً لها على فيسبوك آية من القرآن تقول: "لئن بسطتَ إليَّ يدكَ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلكَ".
(رسم يوضح جزءا من آثار العسكرة على المجتمع السوري، حيث اضطر حتى الموسيقيون والمغنون إلى حمل السلاح أحيانا/ خاص حكاية ما انحكت)
ولن تتراجعَ اللِّجان ولا رُموزها عن هذا الشِّعار، ولسوف يتكرَّرُ ذلكَ على لسان بعض مُؤسِّسيها أو المُقرَّبين منهم بوضوح مُتزايد. وكانَ أوَّلُ مَوقفٍ رسميٍّ تتَّخذهُ اللِّجان بَياناً أصدرته في 29 آب 2011، ردّاً على ما يبدو دعوة محمَّد رحّال المُتطرِّفة، ويقولُ البَيانُ إنَّهُ على الرّغم من فَهْمِ دَوافِع الدّاعين إلى (العسكَرة) والتَّدخُّل الدَّوليّ، إلاّ أنَّنا نرفضُها بوضوح ونجدُها غير مَقبولة سياسيّاً ووطنيّاً وأخلاقيّاً. فمن شأن (العسكَرة) أنْ تُقلِّصَ المُشارَكةَ الشَّعبيّة في الثَّورة، وتُضيِّقَ قاعدتها الاجتماعيّة، وتنالَ من مَضامينها الإنسانيّة والتَّحرُّريّة، من غير أنْ تضمنَ كسْبَ المُواجَهة مع النِّظام. كما أنَّ عسكَرة الثَّورة تعني الانجرار إلى الملعب الذي يملكُ فيه النِّظام تفوُّقاً أكيداً، فضلاً عن خسارة التَّفوُّق الأخلاقيّ الذي تميَّزَتْ به منذُ البداية."، ويضيفُ البَيان: "إنَّنا نرى في إسقاط النِّظام الهدف الأوَّليّ للثَّورة، لكنَّهُ ليسَ غايةً بحدِّ ذاته، إنَّما الغاية هيَ حُرِّيّة سُوريّة وحُرِّيّة السُّوريّين. وطريقة إسقاط النِّظام تُحدِّدُ كيفَ ستكونُ سوريّة بعدَهُ. فإذا أسقطناه بتظاهراتنا السِّلميّة، التي تُشارِكُ فيها مدننا وبلداتنا وقرانا، ونساؤنا وأطفالنا ورجالنا، كانتْ فرصُ الدّيمقراطيّة في بلدنا أكبر بكثير ممّا إذا سقط بمُواجَهة مُسلَّحة، على صعوبة ذلكَ أو حتى استحالته، أو بفعل تدخُّل عسكَريّ دوليّ، وستكونُ الثَّورةُ أسَّستْ شرعيّة جديدة تُؤسِّسُ لمُستقبَلٍ كريمٍ لسُوريّة كُلِّها".
النِّظام، سواء أكان القرار قرارهُ وحده، أم بتأثيرات خارجيّة، رأى أنَّ من أهمّ أخطاء النِّظاميْن التّونسيّ والمصريّ في مُواجهة ثورتيْهِما هو نقص جرعة العُنف المُمارَس في مُواجَهة الثُّوّار، فضلاً عن رغبتِهِ القصوى في دفع الثَّورة إلى ردّة الفعل الطَّبيعيّة في مثل هذِهِ الحالة الاستثنائيّة والنّادِرة في مُستوى القمع المُوجَّه ضدَّها
وفي الإطار نفسِهِ، لم توفِّر لجانُ التَّنسيق المحلِّيّة جُهداً في مُخاطَبة الخارج أيضاً حفاظاً على سِلميّة الثَّورة، كما هو الحال في بَيانِها الشَّهير الذي خاطَبَتْ فيه اجتماعاً لوزراء خارجيّة الدُّول العربيّة، ودعتهُم إلى دعم الحراك السِّلميّ، وردّ العُنف غير المُحتمَل للنِّظام عن المُتظاهرين وحاضناتِهِم الشَّعبيّة، حيثُ يقول السَّوّاح في مَقالتِهِ أيضاً: "ولعلَّ أهمّ البَيانات السِّياسيّة التي أصدرَتها اللِّجان كانَ موقفُها من اجتماع وزراء الخارجيّة العرب، الذي عُقِدَ في القاهرة في 16 تشرين الأول 2011. ففي اليوم عينه، أصدرَتِ اللِّجانُ بَياناً أمِلَتْ فيه من اجتماع وزراء الخارجيّة العرب أنْ يؤدّي إلى "بلورة مَوقِف عربيّ جَدِّيّ وحازم، لا يتوقَّفُ عند الإدانة اللَّفظيّة التي لم تعُدْ كافية بعدَ أنْ أمعنَ النِّظام وأجهزتِهِ الأمنيّة والعسكريّة في قتل وانتهاك حقوق السُّوريّين"، وطالبَتِ الوزراء باتّخاذ قرار حولَ "تجميد عضويّة النِّظام السُّوريّ في الجامعة واقتراح مَشروع قرار في مَجلس الأمن من قِبَلِ الجامعة العربيّة يدينُ جَرائِمَ النِّظام بحقِّ الشَّعب السُّوريّ، واتّخاذ القرارات الكفيلة برفع المُعاناة الإنسانيّة عن الشَّعب السُّوريّ الذي لطالَما كانَ مُسانداً لقضايا الشُّعوب العربيّة، ومَطالبها المَشروعة في الحُرِّيّة و العَدالة."
إذا كانَ شبابُ الفَصائِلِ الثَّوريّةِ قد وقَعوا ضحيّةَ تلاعُبٍ استخباراتيٍّ عبرَ خيانة بعض القيادات والشَّرعيّين وو..؛ فإنَّ هذا لا يُلغي صدقيّة القضيّة التي يُدافعونَ عنها، على العكس من شبابِ جيشِ النِّظام (وهُم أيضاً ضَحايا يُؤلِمُنا ويمسُّنا إنسانيّاً وأخلاقيّاً ووطنيّاً ما أصابَهُم) الذينَ كانوا مَخدوعينَ عن جهْلٍ أو عن عقيدةٍ بالقضيّة التي يُدافعونَ عنها
لنْ أتوسَّعَ كثيراً كيْ أُثبِتَ مَدى صدقيّة بَيانات (لجان التَّنسيق المَحلِّيّة) ووطنيتِها ونيَّتِها الطَّيِّبة، غيرَ أنَّ مَضمونَ هذا البَيان الذي نحنُ بصددِهِ يُشيرُ إلى مَأزقٍ (بِنيويٍّ/ وجوديٍّ) يُلوِّثُ أكسجينَ الثَّورة النَّقيّ، ويُسوِّرُ أُفُقَها الجَميل الحالِم؛ فالأحداثُ كانتْ أعقدُ من مثل هذا الخِطاب الرّومنسيّ إلى حدٍّ ما، والذي لَوْ عادَ الزَّمنُ إلى الوراء، وكنتُ مَسؤولاً عن صياغتِهِ، لمَا غيَّرْتُ فيهِ حرفاً واحداً، لكنْ يكفي للأسف (وعلى سبيل المثال) أنْ نضَعَ اليد على الأُكذوبة التَّراجيديّة لمَوقِف الأنظِمة العربيّة المُؤيِّدُ للثَّورة علَناً في تلكَ الحقبة، والمُعادي لها سِرّاً وفِعْلاً من تحت الطّاولة، ويكفي أيضاً أنْ نُراجِعَ على نحْوٍ مَوضوعيّ وقائعيّ استعصاءَ قَبول قاعِدة سُوريّة واسِعة الانضواء في الثَّورة لدَوافِعَ كثيرة، من أهمِّها نجاحُ سياستَي التَّرهيب والتَّرغيب التي مارَسَها النِّظام في غسلِ الأدمِغة، فضلاً عن أنَّ النِّظام حصَدَ ما زرَعَهُ من صُدوعٍ عميقة في بِنية المُجتمَع السُّوريّ لعُقودٍ طويلة، لينتهيَ مَوِقفُ "لجان التَّنسيق المَحلِّيّة" أقرَب إلى الصَّمت، وإلى إذعانِ نسبةٍ لا بأسَ بها من كَوادرِها (ولا سيما من الجيليْن الثّاني والثّالث ممَّن نجوا من الاعتقال والتَّصفية) إلى حالة التَّحوُّل نحْوَ (العسكَرة)، والالتحاق بها، وعلى نحْوٍ خاصّ في ضوء توسُّع التَّدخُّل الخارجيّ المُستفيد من تصاعُد مَنسوب الاحتقان الشَّعبيّ/ الثَّوريّ، وارتفاع الصَّوت عالياً داعياً إلى حقّ النّاس في حماية أنفسِهِم، ومُواجَهة عُنف النِّظام الفالِت من عِقالِهِ، ويُضافُ إلى هذِهِ المُستويات الوقائعيّة/ المَوضوعيّة، ارتفاع أسهُم الرَّأسمال الرَّمزيّ لفكرةِ حَمْلِ السِّلاح بوصفِهِ (رِهاناً) باتَ (شبهَ حَتميٍّ إلى حدٍّ بعيدٍ) عندَ مُعظَم (ولا أقولُ الجميع) قَواعِد الثَّورة السِّلميّة (الشَّعبيّة) المَقموعة بوحشيّة، بغيةَ بُلوغ حُلم إسقاط النِّظام، ليأتلِفَ بهذا المَعنى (المُستوى الوقائعيّ) مع مُستوى (الرِّهانات الثَّوريّة) في حركيّة وُلوج نفَق (العسكَرة) بوصفِهِ (في تحليليّ) نفقاً مَوضوعيّاً أسَّسَ مَرحلةً من مَراحِل البُعد الكُلِّيّ للثَّورة.
ثانياً: حوار حولَ السِّلميّة والعسكَرة بينَ إرادة السُّلطة وإرادة الحُرِّيّة
وهكذا، تداخل المُستويان المَوضوعيّان (الرِّهان المُتخيَّل، الفعل وردّ الفعل الوقائعيّ) في نقل الثَّورة من طَوْر المَرحلة السِّلميّة، إلى طَوْر المَرحلة العسكَريّة، مع الإشارة الضَّروريّة إلى استمرار نسبة كبيرة من النّاشطين المَدنيّين السِّلميّين في عملِهِم على الرّغم من جميع الصُّعوبات، وانتقال بعضِهِم بعدَ اندلاع المُواجَهات العسكريّة بقُوَّة، إمّا إلى العمَل الإغاثيّ، أو الإعلاميّ أو...، وصولاً إلى التحاق الكثيرين منهُم بحمَلة السِّلاح.
وكانَ لي حوار مُطوَّل شفهيّاً مع المُفكِّر جاد الكريم جباعي، ثُمَّ عبرَ كتابتي مُقدِّمة كتابِهِ "فخُّ المُساواة _ تأنيث الرَّجُل.. تذكير الأنثى" الصّادر في طبعتِهِ الأُولى عن "مُؤسِّسة مُؤمنون بلا حُدود للدّراسات والأبحاث"، بتاريخ 12/ 9/ 2018، وكان عُنوان مُقدِّمتي هذِهِ "تفكيك المَركزيّات البَطريركيّة _ من ثُنائيّة الذُّكورة والأُنوثة إلى نِسْيَاقيّة فَصْمِ الذَّات والتَّأويليّة المشاعيّة"، ونُشِرَتْ في ثلاثة أجزاء في "مَوقِع الأوان الثَّقافيّ الإلكترونيّ" بتاريخ 13 و14 و16/ 1/ 2017 على التَّوالي، وقد خلُصَ المُفكِّر جاد الكريم في كتابِهِ إلى الاعتقاد أنَّ تحوُّلَ الثَّورة إلى (العسكَرة) هوَ نهايتِها، بوصفِ هذا التَّحوُّل (كما يعتقدُ) هو انتقالٌ من الكفاح من أجل الحُرِّيّة إلى الصِّراع على السُّلطة، ورددْتُ على هذا الرَّأي في مُقدِّمتي لكتابِهِ قائِلاً: "لكنَّ المُؤلِّف يُعِدُّ أنَّ ثورة الحُرِّيّة هذِهِ التي واجهَها النِّظام بالعُنف، قد نجحَ بالإجهاز عليها عبرَ نقلها إلى حالة الصِّراع المُسلَّح الذي دفعَ ناشطاتها وناشطيها إلى الصُّفوف الخَلفيّة، وإلى العمَل الإغاثيّ والإعلاميّ، في ضوء انطلاق حرب تقودها جماعات تقليديّة بتشكيلاتها المُقاتِلة، إلى جانب شريحة غير قليلة ممَّنْ أطلَقَ عليهم مصطفى حجازي اسم (شباب الظِّلّ) الذين حُرموا من التَّعليم وفُرَص العمَل اللاّئق". ولهذا يرى المُؤلِّف جاد الكريم الجباعي في أحد مَواضِع كتابِهِ أنَّ "الثَّورة السِّلميّة (الشّابّة) التي أُجهضَت، والحرب الدّائرة اليوم ظاهرتان مُختلفتان؛ الأُولى تُعبِّرُ عن إرادة الحُرِّيّة، والثّانية تُعبِّرُ عن إرادة السُّلطة والصِّراع عليها".
(لوحة تعكس آثار العسكرة والحرب على المجتمع السوري، خاص حكاية ما انحكت)
من جهتي أخشى أنْ يكونَ الأستاذ جاد الكريم قد وقَعَ في هذا التَّحليل في فخّ إعادة إنتاج ثُنائيّة ميتافيزيقيّة حَدِّيَّة، تُناقِضُ المَنطِقَ الجدَليّ وديكالكتيك الصِّراع الذي تنهَضُ عليه الثَّورات، وتبسُطُ رُؤىً يقينيَّة مُسَبَّقة ومَشوبةً بخطر تعميم فكر الحَتميَّات! صحيحٌ أنَّني (أنا وهوَ) نتشاطرُ المَوقِفَ الذّاتيَّ المَبدئيَّ والأخلاقيَّ في رفض الحُروب وكوارثها، ونتطلَّعُ إلى ذلكَ اليوم الذي تطوي فيه البشريّة هذه الخطيئة الأصليّة التي لا تزالُ تُكرِّرُها على مَرِّ التّاريخ إلى غيرِ رجعة، ولكنَّ هذا لا يعني أن نتجاهَلَ الشُّروط المَوضوعيّة الكُلِّيّة لحركيّة المُستويات الوقائعيّة والتّاريخيّة؛ إذ إنَّ فائضَ العُنف الذي مارستهُ السُّلطة في قمع الثَّورة السِّلميّة، كانَ لا بدَّ أنْ يُفضيَ، مَنطقياًّ وحَيويّاً وأخلاقيّاً إلى حمل السِّلاح، الذي كانَ استجابةً تلقائيّة وثوريّة ووطنيّة على الأقلِّ في مَرحلة الانشقاق عن الجيش، وبالتّأكيد من دون أنْ نتجاهَلَ الأصابعَ المُختلِفة التي تلاعبَتْ في هذه القضية في مَراحِلَ لاحِقة. فضلاً عن ذلكَ أذكِّرُ بأنَّ شُرعة حقوق الإنسان تعترفُ أصلاً بحقِّ الشُّعوب في الدِّفاع عن نفسها بكافة الوسائل المُمكِنة عندما يكونُ وجودُها الحَيويّ والكيانيّ مُهدَّداً، والصَّديق المُفكِّر جاد الكريم نفسه يرى في كتابِهِ المذكور أعلاه أنَّ "الكشف النِّهائيّ الذي تُقدِّمه لنا الأحداث الرّاهنة يُبيِّنُ أنَّ المُؤسَّسة العسكَريّة الأمنيّة أو (مُؤسَّسة الحرب والإرهاب)، على النَّحو الذي انتهَتْ إليه في حربها السّافرة على الشَّعب، هي النّواة الصّلبة للبِنية التَّسلطيّة ومَصدر مَشروعيَّتها الفعليّة، وأنَّ وظيفتها الأساسيّة، إنْ لم نقلْ الوحيدة، هي حماية النِّظام، بما هوَ نظامُها، و(الدَّولة) بما هيَ دولتُها، والاقتصاد بما هوَ (اقتصاد حرب_ ها) على المُجتمع".
وكي يكونَ تمحيصي هذا أكثَر تعمُّقاً، ولاسيما فيما يخصُّ نقدِي للثُّنائيّة الميتافيزيقيّة الحَدِّيَّة التي افترَضَها المُؤلِّفُ بينَ (الثَّورة السِّلميّة) بوصفِها تعبيراً عن (إرادة الحُرِّيّة)، و(الحرب) بوصفِها تعبيراً عن (إرادة السُّلطة والصِّراع عليها). أقولُ إنَّ هذا الفَهْم الذي قامَ على رُؤية تجريديّة مُنفصِلة إلى حدٍّ كبيرٍ عن المُعطيات (التَّخارُجيّة) التّاريخيّة التي تُمثُّلها الثَّورات بوجهٍ عامّ، والثَّورة السُّوريّة بوجهٍ خاصّ، قد نفى الأبعاد الدّيالكتيكيّة ليسَ فقط من حيثُ هيَ أسُّ الصِّراع المُنبسِط في الصَّيرورة؛ إنَّما بوصفِها محور تفتيت أيَّة وَحدة مَركزيّة مُتعالية، إذ علينا ألا نتناسى انفتاح أيَّة حركيّة جدَليّة على كافّة احتمالات الصِّراع الوجوديّة المُتباعِدة، ولاسيما أنَّ المُؤلِّف نفسه يرى في أحد فقرات كتابِهِ أنَّ "الفوضى شقيقة الحُرِّيّة، مهما تكن مَظاهرها قاسية"، و"أنَّ البلاد تعيشُ مَرحلةً انتقاليّةً من أبرز سماتها الفوضى"؛ إذ إنَّهُ "في الحالة الانتقاليّة تتأسَّسُ قواعد الحياة الاجتماعيّة القادمة ومَبادِئها، وقواعد السُّلطة ومَبادِئها، أو تتشكَّلُ مَلامِحُ المُجتمع المُمكِن والدَّولة المُمكِنة".
وفي هذا الإطار، أعتقدُ أنَّ مُجاوَزة ثُنائيّة (الثَّورة السِّلميّة/ الحرب) ضرورة يفرضُها أوّلاً تلاقي الطَّرفين (إذا فصَلنا بينهما نظَريّاً لا وقائعيّاً) في فعل تفكيك مَركزيّة السُّلطة الاستبداديّة البَطريركيّة؛ إذ لا نستطيعُ أنْ نقولَ إنَّ (الثَّورة السِّلميّة) مثَّلَتْ (إرادة الحُرِّيّة)، ولم تنطوِ بطبيعتها، أي بوصفِها ثورةً أصلاً، على مَفهوم الصِّراع على (السُّلطة). وفي المُقابِل لا نستطيعُ أنْ نقولَ إنَّ "الحرب" لا تنطوي بالمُطلَق على "إرادة الحُرِّيّة"، ولا سيما أنَّها في جانبٍ أساسيٍّ من دوافعِها الأصليّة، قد تولَّدَتْ بوصفِها دفاعاً مَشروعاً عن الوجود نجَمَ عن إحساسٍ عميقٍ عندَ المُجتمَع السُّوريّ بالتَّهديد المَصيريِّ والكيانيِّ، خلَقَهُ أولاً فائضُ عُنف السُّلطة في مُواجَهة الثَّورة السِّلميّة، وكانَ لهُ جُذورُه القديمة المُتراكِمة بطبيعة الحال خلالَ عُقودٍ طويلةٍ سبقَتْ الحدَث الثَّوريَّ، وإنْ كانَ يُمكِنُ أنْ أصِفَ الحرب بالاتّكاء على استعارة إسلاميّة هُنا بأنَّها أبغض الحلال في الثَّورات.
من المَنطقيّ أنْ نعترِفَ أنَّهُ قد تمَّ عبرَ المَراحِلِ الماضية إخصاءُ (رِهاناتِ) جُمهور الثَّورة وحاضناتِها على (العسكَرة) التي نشأَتْ مَوضوعيّاً، وأُجهِضَتْ وقائعيّاً
صحيحٌ أن لكلام الأستاذ جاد الكريم في كتابِهِ الذي أنا بصدد مُناقشَتِهِ، جانِباً من الصِّحّة عندما يرى أنَّنا "في غمار الحرب الدّائرة، إزاء مُجتمع يثأر لنفسه من غدر أولادِهِ وبناتِهِ به"، وأنَّهُ "من البديهيّ أن تستخدم الجماعات التَّقليديّة كُلّ ما تبقّى لها من أسلحة، وكُلّ ما يُمكِنُ أنْ يَمدَّها بالقُوّة، بعدَ أنْ خذلتها الأحزاب السِّياسيّة كافّة، وكذلكَ النّقابات والتَّنظيمات (الشَّعبيّة) الأُخرى، (أي بعدَ أنْ خذلَها أولادُها وبناتُها). ومِنْ أكثر هذه الأسلحة مَضاءً العصبيّات العشائريّة الإثنيّة والمَذهبيّة)"، لكنْ في الوقت نفسه، كانَ لا بُدَّ أنْ أُعقِّبَ على كلام الأستاذ جاد الكريم السّابق، مُتسائِلاً من جهتي عن مدى دقّة هذا التَّوضُّع الحاسِم الذي يرى أنَّ (الثَّورة السِّلميّة) كانت نتاجاً للشَّباب والشّابات من النّاشطين والنّاشطات المُنتمين إلى المُجتمع الحُكوميّ، والحائزينَ وعياً ثقافيّاً يَنشدُ الحُرِّيّة؟.
كما أستطرِدُ في تعقيبي على آراء الأستاذ جاد هذِهِ بتساؤلٍ ثانٍ فَحواهُ: هل فعلاً يصحُّ قولُهُ إنَّهُ تمَّ الانقضاض على هذِهِ الثَّورة بالحرب التي تقوم بها (جماعات تقليديّة) ينتمي أغلبُ عناصرِها إلى (مُجتمع الظِّلّ) الذي يُواجِهُ سُلطة الاستبداد البَطريركيّة بآليَّات استبداديَّة بَطريركيَّة مُقابِلة؟
إنَّني أجِدُ من جهتي أنَّ الفَواصِلَ الحَدِّيّة التي وضعَها الأستاذ جاد الكريم في كتابِهِ بينَ (شباب المُجتمع الحُكوميّ) الذين ثاروا سلميّاً، وشباب (مُجتمع الظِّلّ الذين حمَلوا السِّلاح) واهيةٌ وغيرُ قابِلةٍ للتَّعيين الدَّقيق أو للضَّبط المَعرفيّ الواثِق؛ ذلكَ أنَّ من نافل القول أنْ نُشيرَ إلى مُشارَكة قاعدة واسعة من شباب (مُجتمع الظِّلّ) في المَرحلة السِّلميّة، ومُشارَكة أعداد كبيرة من شباب (المَرحلة السِّلميَّة) في حركيّة الصِّراع الحربيّ، إنْ عبرَ حمل السِّلاح، أو حتّى عبرَ الدَّعم اللّوجستيّ إغاثيّاً وإعلاميّاً ومَدنيّاً بما هوَ في عُمقِهِ احتضانٌ لحَمَلة السِّلاح، وانغماسٌ في (الحرب)، وهوَ الأمر الذي يدفعُني إلى تأكيد تراكُبيَّة الحدَث الثوريِّ وجدَليَّته أفقيّاً وعموديّاً من جانبٍ أوَّل، ولا أنفي من جانبٍ ثانٍ ضرورةَ اختبار مَدى صلاحيّة بعض المُهيمِنات المحوريَّة في تحليل هذا الحدَث وفَهْمه، ولذلكَ نُلاحِظُ أنَّ المُفكِّر جاد الكريم نفسه قد حاولَ، بعدَ أنْ أطلَقَ حُكماً شبه مُطلَق بخُصوص مَرحلتَي الثَّورة السِّلميّة والثَّورة المُسلَّحة، أنْ يتركَ البابَ مُوارِباً بعضَ الشيء عندما قال في أحدِ فقرات كتابِهِ إنَّ "الإشكاليّة، في أعمَق مُستوياتها هيَ إشكاليّة العلاقة بيَن إرادة الحُرِّيّة وإرادة السُّلطة. والإرادتان كلتاهما من خصائص الإنسان، أيّاً كانَ مَوقعُهُ الاجتماعيّ أو السِّياسيّ، وأيّاً كانَ مُستوى وعيهِ الثَّقافيّ. الفرقُ بينَ إرادة الحُرِّيّة وإرادة السُّلطة، أو بينَ الثَّورة السِّلميّة والحرب، على ما بينهما من التباسٍ وتداخُلٍ، يُعزِّزُ فرضيّة الانقسام الشّاقوليّ بينَ مُجتمَعَيْن، (...) ويطرحُ إمكانيّة رُؤية جديدة للثَّورة السِّلميّة، ويكشفُ عن آليّات تشكُّل الثَّورة المُضادّة وشُروط إمكانِها. ولا مراء في أنَّ إرادة الحُرِّيّة أجَّجت إرادة السُّلطة لدى المُجتمَعَيْن كليهما، وإرادة السُّلطة، في أوضاعِنا، هي إرادة الحرب، مادامَتْ لم تُؤخَذْ إلاّ بالقُوّة العسكَريّة"..!!.
ثالثاً: في نقد النَّقد: نحْوَ تعرية المَوقِف (الثَّقافويّ/ غير الأخلاقيّ) المُعادِي لِـ (العسكَرة)
يعتقدُ المُفكِّر الدُّكتور حسام الدّين درويش في مَقالتِهِ المُعنونة بِـ "في العلاقة بينَ الثَّقافة والسِّياسة: نقدُ المُقارَبة الثَّقافويّة"، والمَنشورة في "مجلَّة قلَمون"، العدد الرّابع _ الشَّهر الأوَّل 2018، أنَّ الرُّؤية الثَّقافويّة تتَّسِمُ "ببُعد لا أخلاقيّ يتمثَّلُ في تحويلِها (المُجرِم) إلى (ضحيّة)، و(الضَّحيّة) إلى (مُجرِم)، أو في المُساواة بينَهُما، على أقلّ تقدير، من حيثُ المَسؤوليّة عن الجَرائِم أو المَساوِئ أو السَّلبيّات القائِمة، فالثَّقافويّة تُؤسِّس للاتّجاه الشّائِع والقويّ الذي يُحمِّلُ الضَّحايا مَسؤوليّة الجَرائِم المُقترَفة بحقِّهِم، بدرجة أو أُخرى، بحيثُ يُصوِّرُهُم على أنَّهُم مُجرِمونَ في حقِّ أنفسِهِم، لأنَّهُم (لا يُؤمنونَ) أو (لا يعتقدونَ) بهذِهِ الفكرة أو تلكَ، أو لأنَّهُم (لا يقومونَ) بهذا الفعل أو التَّصرُّف أو ذاكَ. وينظُرُ مُتبنّو هذا الاتّجاه نظرةً دونيّةً إلى الضَّحايا أو ثقافتِهِم أو أفكارِهِم.. إلخ، ويَرونَ أنَّها المَسؤول الأوَّل عمّا حصَلَ ويحصلُ لهُم. ويتبنَّى هذِهِ النَّظْرة الدُّونيّة كثيرٌ من هؤلاء الضَّحايا أنفسِهِم تجاه ذواتِهِم، وهذِهِ النَّظْرة هيَ ما يُسمَّى بِـ (الاحتقار الذّاتيّ)، والذّات المَقصودة هُنا ليسَتْ الذّات الفرديّة، وإنَّما الذّات الجَمعيّة (المُجتمع برُمَّتِهِ).".
ولهذا يبدو المَوقِف المُعادي لِـ (العسكَرة) من قبَل نسبة كبيرة ممَّن يُسمّونَ بِـ: (النُّخب) هو مَوقِف (ثقافويّ) أقرَب إلى الفضيحة الإنسانيّة والأخلاقيّة والوطنيّة، وهذا لا يعني أنَّني أحتفي بِـ (العسكَرة) كما ذكرْتُ من قبل، لكنَّ ثقافويّة تلكَ (النُّخَب)، ومن التحَقَ بمَوقفِها من (الرّعاع)، تنطوي على قناع طهرانيّ كاذِب ومُؤدلَج (حزبيّاً أو طائفيّاً)، وعلى تَعالٍ مُسَبَّق بدَعوى نقد (الشَّعبويّة)، وهوَ ليسَ (أي هذا النَّقد المُتعالي) سوى تبسيطٍ مَنهجيٍّ وفكريٍّ مُريعٍ ينطوي على (دُونيّة) فاقِعة (كما أشار الدُّكتور حسام الدّين)، ويخذلُ الوطنيّةَ السُّوريّةَ بخُذلانِهِ الثَّورةَ، وتجاهُلِهِ (بفعلِ عَماءٍ فضائحيٍّ أو بفعلِ مَوقِفٍ مُتعمَّدٍ في الغالب) الدَّلالاتِ الإنسانيّةَ والأخلاقيّةَ القائِمةَ على قوَّةِ المُتخيَّلِ، ورِهاناتِهِ الثَّقافيّة والشَّعبيّة في آنٍ معاً، وصِلَة هذِهِ (الرِّهانات/ المُتخيَّلة) بالمُعطيات (المَوضوعيّة/ الوقائعيّة) التي حكَمَتْ مآل الأحداث وتحوُّلاتِها الوطنيّة.
إنَّ ارتداء قِناع (أخلاقيّة السِّلم الأهليّ وأولويتِهِ)، وتكرار مَقولة "رفض سفك الدَّمّ"، والذي لا يُوجَدُ إنسانٌ عاقلٌ أصلاً، أو وطنيٌّ نزيهٌ يُحرِّضُ عليه، لا يُلغي بحالٍ من الأحوال شَرعيّة حمْل السِّلاح وأخلاقيَّتِهِ عندَ آلاف الشُّبّان الذين كانَ جزءٌ كبيرٌ منهُم مُحرِّكَ المَرحلةِ السِّلميّة، ثُمَّ هبُّوا لحِماية أنفسِهِم وعائِلاتِهِم وأهلِهِم ومُجتمعاتِهِم المحلِّيّة الحاضِنة لهُم، ووجدوا أنفسَهُم وجهاً إلى وجهٍ معَ أبناء جلدتِهِم من الجيش الذي زجَّهُ النِّظام في حربٍ طاحنة ضدَّ شَعبِهِ، ومن الضَّروريّ الإشارة في هذا السِّياق إلى أنَّ المُساواة بينَ طرفَي النِّزاع تنطوي على تزييف أخلاقيٍّ ووطنيٍّ وثوريٍّ بالِغِ السَّذاجةِ أو الخُبث، فإذا كانَ شبابُ الفَصائِلِ الثَّوريّةِ قد وقَعوا ضحيّةَ تلاعُبٍ استخباراتيٍّ عبرَ خيانة بعض القيادات والشَّرعيّين وو..؛ فإنَّ هذا لا يُلغي صدقيّة القضيّة التي يُدافعونَ عنها، على العكس من شبابِ جيشِ النِّظام (وهُم أيضاً ضَحايا يُؤلِمُنا ويمسُّنا إنسانيّاً وأخلاقيّاً ووطنيّاً ما أصابَهُم) الذينَ كانوا مَخدوعينَ عن جهْلٍ أو عن عقيدةٍ بالقضيّة التي يُدافعونَ عنها، والتي تُماهي بين الوطن والسُّلطة الحاكِمة، وهُنا تظهَرُ فضيحةُ بعضِ النُّخبِ وازدواجيتِها المُتهافِتة عبرَ الادّعاء أنَّها تُعارِض النِّظام، لكنَّها تقف مع الجيش السُّوريّ (الوطنيّ)؟!
رابِعاً: كارِثة التَّدخُّل الخارِجيّ على (العسكَرة)
مِنَ الأقوالِ المُتواتِرةِ والتَّبسيطيّةِ عندَ مُنتقدِي (العسكَرة)، الادّعاء أنَّها منعَتِ انتصارَ الثَّورة، وهو مَوقِف غير عقلانيّ أو غير (مَوضوعيّ/ وقائعيّ) عندَ اللُّجوء المَنهجيّ إلى تحليل مآل المَرحلة السِّلميّة بطريقةٍ مُشابِهة لمَا تناولتُهُ في السُّطور السّابقة، فضلاً عن أنَّ عدم انتصار (العسكَرة) لم يأتِ بفعل أسباب داخليّة، والجميع يعرفونَ أنَّ الجيش الحُرّ كانَ قد حرَّرَ حوالي أكثر من سبعين في المائة من سوريّة في أواسط العام 2012، وأنَّ التَّدخُّلَ الإيرانيَّ التَّدريجيَّ (ومن ضمنِهِ ميليشيات حزب الله والميليشيات العراقيّة)، قد بدَأ أواخِرَ ذلكَ العام لمنعِ إسقاط النِّظام، واستطاعَ هذا التَّدخُّل تأخيرَ الخطر القائِم، لكنَّهُ أخفَقَ في درئِهِ نهائيّاً، ليتدخَّلَ الرّوسُ أيضاً، والذين لم يكفّوا في لحظةٍ منذُ بداية الثَّورة مثلُهُم مثل الإيرانيّين عن دعمِ النِّظام، لكنْ هذِهِ المرّة على نحْوٍ مُباشَر في أواخِرِ العام 2015؛ أي حينما شَعروا أنَّ سقوط النِّظام كانَ قابَ قوسيْن أو أدنى، وتصريحات الأطراف المُختلِفة المُتحالِفة مع النِّظام التي تنسُبُ مَنعَ سُقوطِهِ إلى تدخُّلِها مُوَثَّقةٌ في هذا الإطار، وتُؤكِّدُ تهافتَ الاتِّهام السّابق عندَ مُنتقدي (العسكَرة).
غيرَ أنَّ الأخطَر في تحليل التَّدخُّلات الخارجيّة لمَنع انتصار الثَّورة المُسلَّحة وإسقاط النِّظام، يرتبطُ بالدَّورِ الأمريكيّ (وإلى حدٍّ ما بالدَّورِ الغربيّ التّابِع لهُ) وخَلفياتِهِ، فالأمريكان عطَّلوا (في اعتقادي وفي قراءاتي وتحليلي الشَّخصيّ لمَا عايشتُهُ وسمعتُهُ وتابعتُهُ خلالَ سنوات الثَّورة) دخولَ الفصائِل إلى دمشق أكثَر من مرّة، والأمريكان مَنعوا وصول السِّلاح النَّوعيّ، ولا سيما مُضادّات الطَّيران إلى الثُّوّار، وذلكَ في الوقت الذي كانت تُبادُ فيه الأرياف والمُدُن، والأمريكان لم يُحاسِبوا النِّظام بجَدِّيّة على جَرائِمِه الكيماويّة، وهُم من حارَبوا توحيد فَصائِلِ الجيشِ الحُرّ بمُساعدة أذرع إقليميّة تلاعبَتْ بالثَّورة والثُّوّار، ويكفي أنْ نستحضِرَ شهادتَي العميد أحمَد برّي، والعقيد عبد الجبّار العكيدي (في حوار تلفزيونيّ لهُما على محطَّة الأورينت الفضائيّة العام 2017) حولَ آليّات حصار الأمريكان والغرب والأذرع الإقليميّة للجيش الحُرّ، وكيفَ نقلوا مَسألة التَّمويل من هيئة أركان الجيش الحُرّ إلى الفَصائِل مُباشَرَةً، بغيةَ شَرذمتِها ومُصادَرة قرارِها المُستقلّ من جانبٍ أوَّل، وتفكيكِها وأسلمتِها من جانبٍ ثانٍ، حيثُ ترافَقَ تخفيضُ دعمِها شيئاً فشيئاً بصُعود جبهة النُّصرة وأحرار الشّام على اختلافِ مَشروعيهِما نسبيّاً، وقد تواترَتْ على وَسائِلِ التَّواصُل الاجتماعيّ شهادات شخصيّة من عَناصِرَ كانوا في الجيش الحُرّ تحدَّثوا فيها كيفَ تراجَعَ دعمُهُم ودعمُ عائلاتِهِم رويداً رويداً منذُ ما بعدَ أواسِطِ العام 2012 وخلالَ العام 2013، حتّى أصبَحَتْ بعضُ الفصائِلِ تُقدِّمُ وجبةَ طعامٍ واحدة في اليوم لعَناصِرِها، وهوَ الأمرُ الذي دفعَهُم رويداً رويداً إلى الالتحاق بجبهة النُّصرة مثلاً، والتي كانت تُغدِقُ الأموالَ على أتباعِها من حيثُ ندري ولا ندري؟!!، فضلاً عن المُواظَبة الإقليميّة والدَّوليّة إنْ على تلغيم قيادات الفَصائِل العسكريّة واختراقِها، أو على اغتيال مُمَنهَج ومُوَثَّق (حوران مِثالاً) للقيادات الثَّوريّة الوطنيّة غير المُرتهِنة لأجندات مَشبوهة داخليّاً أو خارِجيّاً.
يرى المُعارِض والكاتب غسّان المفلح في "فيديو بثّ مُباشَر لهُ على الفيسبوك في العام 2018"، أنَّهُ "(لَوِ) انتصرَتِ الثَّورةُ عسكَريّاً، لتغيَّرَ كُلُّ تقييم أعداء (العسكَرة) للثَّورة وحتّى للمُعارَضين، ورُبَّما وجَدْنا شخصاً مثل جورج صبرا أو ميشيل كيلو يُنظَرُ إليهِما كما كانَ يُنظَرُ في حقبة الاستقلال وما بعدِهِ لِـ فارس بيك الخوري على ما في المُعارَضة من كوارث وهُزال بالتَّأكيد"، لكنَّ (لَوْ) تفتَحُ عمَلَ الشَّيطان كما يُقال يا صديقنا العزيز غسّان، ولا سيما في السِّياسة..؟!!، وأنتَ القائِلُ بِانتصار الثَّورة وفقَ تحليلٍ مَبنيٍّ على هذِهِ الـ (لَوْ) في مَقالة بعُنوان: "الثَّورة السّوريّة التي انتصرَتْ"، والمَنشورة في مَوقِع "إيلاف" بتاريخ 15/12/ 2017، إذ تعتقدُ أنَّ الثَّورةَ السُّوريّةَ، ولا سيما في بُعدِها العسكَريّ، قد انتصرَتْ بناءً على تحليل جدَليّ فَحواه أنَّ "الثَّورةَ (...) لم يهزمْها الأسد، بلْ هيَ من هزمَتْهُ. هيَ التي انتصرَتْ. لَوْ لمْ تنتصرْ هذِهِ الثَّورة، لرأيْنا قواتِ الأسد هيَ المُسيطرة عسكريّاً، لرأيْنا الأسدَ مُتحكِّماً سياسيّاً بالبلد.".
وفي جميعِ الأحوالِ لا أختلِفُ إلى حدٍّ كبيرٍ (بالمَعنى الوقائعيِّ والكُلِّيِّ) مع رأيِ المفلح السّابق، لكنَّني أقولُ إنَّهُ من المَنطقيّ أنْ نعترِفَ في المُقابِلِ أنَّهُ قد تمَّ عبرَ المَراحِلِ الماضية إخصاءُ (رِهاناتِ) جُمهور الثَّورة وحاضناتِها على (العسكَرة) التي نشأَتْ مَوضوعيّاً، وأُجهِضَتْ وقائعيّاً، غيرَ أنَّ الانتقالَ من مُستويَي الرِّهاناتِ والوَقائِعِ إلى المُستوى الكُلِّيّ في القراءة والتَّأويل، والمُنبثِق، أو المُتجذِّر فيهِما، يَشي بأنَّ أُفُق (العسكَرة) لم ينتهِ نسبيّاً حتّى هذِهِ اللَّحظة، لأنَّ الأُفُقَ العسكَريَّ مُتحوِّلٌ تبعاً لتحوُّلات أُفُق السِّياسة وتوازناتِها كما يُعلِّمُنا التّاريخُ القريبُ والبَعيدُ في العالَم، ولأنَّ دُروسَ السَّنوات الماضية أضحَتْ ماثلةً للجَميع، وتمَّ وعي الأخطاء والخَطايا إلى حدٍّ مَعقول، فضلاً عن أنَّ هذِهِ (العسكَرة) (بطبيعةِ الحال) قد هشَّمَتِ السُّلطةَ وجَيشَها على الرّغم من كُلّ التَّدخُّلات الخَبيثة والمُتنوِّعة لإنقاذِها، وفكرةُ العودة إلى ما قبل العام 2011، أو إلى ما قبل حقبة (عسكَرة) الثَّورة، أصبَحَتْ من بابِ المُستحيلات؛ ولا بُدَّ لدولِ الإقليمِ والعالَمِ من إيجادِ حلٍّ ما مهما طالَ الزَّمنُ، ومهما حاوَلوا حَجْبَ حُقوقِ الشَّعبِ السُّوريِّ وتقليصَ مَردوداتِ طُموحاتِهِ الثَّوريّة، وبهذا المَعنى تبقى (العسكَرة) مَرحلة مَوضوعيّة من مَراحِلِ التَّحوُّلِ الشّامِلِ الذي ما زالَتْ تُناضِلُ الثَّورةُ لإنجازِهِ.
وأختتِمُ هذا المحورَ قائِلاً بلُغةِ (الفَلسفة): لقد تحقَّقَ التَّغييرُ (كُلِّيّاً) بوصفِهِ وُجوداً بالقُوَّة، وما زالَ الصِّراع قائِماً سياسيّاً (وحتّى عسكَريّاً) بانتظارِ أنْ ينبسِطَ التَّغييرُ الكُلِّيُّ بوصفِهِ وُجوداً بالفعل.