"الشاعر و جامع الهوامش" للروائي "فواز حداد"
نزار غالب فليحان
خاص ألف
2020-04-03
أفقٌ متسعٌ على المأساة ضيقٌ على الشفاء
في رواية "الشاعر و جامع الهوامش" سيعثر القارئ على أكثر من حكاية تباينت من حيث كثافة حضورها بين دفتي النص لكنها كانت على ذات المستوى من الأهمية و التأثير في روحه و نمو أحداثه كما في اكتمال مشاهده تماماً كخصلات شعر شكلت مع الحامل السياسي و الفكري للنص ضفيرة تضاف إلى المشروع الروائي للكاتب .
مأمون و ريم :
لعل قصة حب - أو لنقل ثورة مشاعر - مأمون تجاه ريم ابنة أستاذه أحمد التي قضى زوجها في الحرب هي الأقل حضوراً في النص ، المشاعر التي خَبَتْ ذات فراق لترتد إليها الروح من جديد لكن بين شاعر تخلت عنه حبيبته للتو و أرملة لم تعد تعرف وجهة مشاعرها ، حدث ذلك حين عاد الشاعر مأمون إلى "مغربال" في مهمة كلفته بها السلطة الحاكمة ، السلطة التي خدمت مأمون و وفرت له المنصات كي يتألق و يلمع نجمه و يصبح ورقة يمكن اللعب بها ذات حاجة ، السلطة التي اختارت مأمون الذي يعلن اعتراضه على كثير من ممارساتها و فضلته على الكثير من المثقفين الموالين لها تحت زعم أن أولئك "عملاء أكثر من اللزوم" يوافقونها في كل شيء و هي تريد أشخاصاً يرونها بشكل أوضح حتى لو وجهوا سهام النقد إليها .
مأمون و شذا :
تتقاطع قصة حب مأمون لريم مع قصة حبه لشذا التي تقرر نهاية الأمر أن تتركه و تعود ثانية إلى زوجها _ سيعلل خالد ضابط الأمن لاحقاً _ سبب فشل علاقتهما بالاختلاف في الدين بين مأمون المسلم و شذا المسيحية التي أعلنت معارضتها للنظام و أعلنت رفضها التمييز بين أديان الوطن الواحد لكنها نهاية الأمر سترتد إلى دينها و تعود لزوجها .
حسين و ملف المغتصبات و المغتصبين :
نشط الإعلامي حسين صديق الشاعر مأمون في مجال توثيق و رصد حالات اغتصاب النساء في المعتقلات منطلقاً من حالة أولى وقعت بين يديه إلى أن اكتمل الملف و صار وثيقة سلمها بصعوبة بالغة إلى إحدى منظمات حقوق الإنسان ، لينتقل بعدها إلى توثيق حالات اغتصاب الرجال ، لكن إعدام حسين على إحدى الحواجز في ساحة عامة كان أسرع من أن يكتمل الملف و يسلك سبيل الملف الأول .
المحور الأساسي للنص :
كانت السلطة تبحث عن صيغة لإله جديد ، ليس تقليدياً قديماً كالله ، و ليس حديثاً بحيث يُسْتَبْدَل كثيراً ، إله بمنزلة الله تستطيع السلطة من خلاله أن تفعل ما تشاء ، فهي ترى أن الإسلاميين احتكروا الله و يعملون في ظله و تحت رايته و باسمه ، لذلك وجب أن يكون للسلطة الإله الذي يبرر لها أفعالها أيضاً ، بمعنى آخر كانت السلطة تسعى إلى إنكار الله كي تعيد تشكيله من جديد .
كانت مهمة الشاعر مأمون إدارة و متابعة و مراقبة الجدل المحتدم في قرية "مغربال" من أجل تأسيس دين جديد يجمع كل أبناء الوطن أكثرية و أقليات ، كان الصراع منحصراً بين كتلة الشاب المتنور كريم و رفاقه من جهة و كتلة اللواء نادر و رفاقه الضباط و صف الضباط المتقاعدين من جهة ثانية ، الأولى تطرح نفسها كجماعة تدعو إلى شأن ثقافي ثم روحاني ممزوج بالمادية نحو تحقيق السمو الإنساني ، و الثانية كجماعة تدعو إلى دين غامض بأسرار محفوظة لديها فقط .
نهاية الأمر يعين اللواء الأستاذ إسماعيل المثقف و المتبحر مستشاراً له ، ليقوم الأخير بطرح فكرة أن يكون اللواء هو الإمام المعصوم للدين الجديد ، و يطول الجدل إلى أن تستشعر السلطة الخطر من أن ينفلت الرب الجديد من يدها هي التي ترى أن عمل الرب الجديد لن يكتمل إلا بدعم السلطة و أجهزتها .
تشدد السلطة على الطلب من المستشار سرعة ابتكار طريقة تُكَيِّفُ اللهَ مع مآربها أو خلق رب جديد يتفوق على رب الإرهابيين . و هنا تخشى السلطة أن يعثر المستشار على صيغة الإله الجديد و يحتفظ بها لنفسه .
يحار المستشار بين عدم قدرته - رغم كل ما قرأ و ما جمع من هوامش - على نكران وجود الله و تحييده لصالح فكرة إله جديد ، و بين أن تنفذ السلطة حكمها به لعدم تخليه عن صيغة الإله الجديد التي تظن أنه امتلكها و يخبئها لغاية في نفسه قد تكون الانقلاب على النظام .
لكن المستشار ينهار أخيراً و يتخلى للسلطة عن الصيغة التي توصل إليها : "النظام هو الله" .
كان المستشار شغوفاً بالكتب ، الأمر الذي استغلته السلطة فأغرقت بيته بالكتب و المجلدات لتغريه بالعمل على ابتكار الإله الجديد ، غرق المستشار في مكتبته و ملأ حواشي صفحات كتبها بالملاحظات التي خنقته أخيراً فصار ساعة الحكم عليه بالموت جثة بين هوامشها .
يبقى النص الروائي مفتوحاً لدى فواز حداد ، لأن الحياة برأيه مفتوحة و القصص لا تنتهي ، لذلك نراه في "الشاعر و جامع الهوامش" يعود إلى رواية "السوريون الأعداء" و كأنها حلقة سابقة في سلسلة ستطول ، حدث ذلك حين زار الأستاذ أحمد دمشق و سأل عن سبب اغتيال المهندس سليمان ، الأمر الذي تكرر في نهاية الرواية عندما أعاد خالد سرد حادثة تصفية المهندس الشخصية المحورية في "السوريون الأعداء" .
يدخلنا الكاتب في تفاصيل إخراج نصه حين يعرض لنا الحوار الذي دار بينه و بين نفسه ، أولاً حول مدى أهمية ذكر قصة حب مأمون لشذا في الرواية ، و ثانياً حول إمكانية النظر إلى تلك القصة من زاوية قد تنزاح قليلاً عن الواقع ، فيرى نهاية الأمر أن شذا التي أحبت مأمون غير شذا التي عادت إلى زوجها ، و أن الخداع الذي وقع يكمن في أن مأمون لم يدرك أنهما مختلفتان .
النص مليء بالمقولات التي تصلح أن تكون عناوين مرحلة ، يحتوي أحداثاً من لحم و دم ، يسرد الواقع كما هو ليس ببرودة حيادية المراقب الذي لا صلة له بما يجري ، بل بحرارة مصداقية من رأى الدماء و من تلمس الأوجاع .
إن رواية "الشاعر و جامع الهوامش" تفتح النوافذ على مستويات حوار مختلفة :
المستوى الأول : حوار ربما يراه الكاتب ممكناً بين أطراف لم يعد من السهولة أن تقبل الحوار ، و ربما أراد أن يقول إن الشيخ حامد و الأستاذ أحمد و كذلك ريم هم نماذج أمل يعول عليه .
المستوى الثاني : حوار حول كيفية تخليص الإنسان العبد من خضوعه و خنوعه و استسلامه الإنسان الذي يُوَصِّفُهُ "غوستاف لوبون" في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" بالقول :
"الإنسان ليس متديناً فقط عن طريق عبادة آلهة معينة ، و إنما أيضاً عندما يضع كل طاقاته الروحية و كل خضوع إرادته و كل احتدام تعصبه في خدمة قضية ما أو شخص ما ، فإنه يصبح هدف كل العواطف و الأفكار و قائدها"
و في الرواية نجد الأستاذ أحمد يقول للشاعر مأمون :
"أتعرف ما الذي بات يثقل عليَّ ؟ صمت الله" . من هنا يبدأ الحوار .
المستوى الثالث : حوار حول كيفية تخليص الشعوب من سادة أسسوا لهذه العبودية من أجل تحقيق مآربهم في السلطة و الحكم ، السادة الذين يُوَصِّفُهُمْ "غوستاف لوبون" في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" :
"إن مؤسسي العقائد الدينية و السياسية لم يؤسسوها إلا عندما عرفوا كيف يفرضون على الجماهير عواطف التعصب الديني ، هذه العواطف التي تجعل الإنسان يجد سعادته في العبادة ، و تدفعه لأن يضحي بحياته من أجل من يعبد ، و هذا ما حصل في كل العصور".
"الشاعر و جامع الهوامش" حوار مفتوح ، حكاية لا تنتهي ، و كما قال الكاتب : "رواية كبرى" و استطر : "هي رواية حافلة بالمعميات و الموت و الدماء ، عبثيتها غطاء قسوتها ، أما غياب الله فمنشأه البحث عنه" .
سألت ريم مأمون : "بماذا تفكر ؟"
قال : "أفكر في أن البشر هم سعادة البشر ، أو تعاستهم . و أفكر أيضاً ، لو أن الناس كانوا أكثر وعياً لوفروا على أنفسهم عذابات كثيرة ."
"الشاعر و جامع الهوامش" مدىً مفتوحٌ على مأساة نهاياتها مؤجلة ، يوجز فواز حداد فيقول : "نحن في عالم مدمر ، فلماذا لا نكون حطاماً ؟ شفاؤنا يتطلب شفاء عالم بأسره" .
نزار غالب فليحان