رحيل ليونيد زورين.. "فارس الأدب المسرحي السوفييتي"
ألف
2020-04-11
عن 96 عاماً، وبعد صراعٍ طويل مع المرض، رحل الكاتب والأديب المسرحي السوفييتي الأسطوري، ليونيد زورين، مؤلّف كثير من المسرحيات والسيناريوهات، بما في ذلك سيناريو فيلم "بوابة بوكروفسكي" (أخرجه ميخائيل كوزاكوف عام 1982)، ولاقى إعجاباً منقطع النظير من الجمهور.
لاشكّ في أنّ مسرحية ليونيد زورين "بوابة بوكروفسكي"، التي أصبحت أساس سيناريو الفيلم، كانت بالفعل واحدة من أشهر أعماله. وهذا العمل هو أكثر ما يمثّل سيرة الكاتب الذاتية: على غرار بطل "بوابة بوكروفسكي"، كوستا رومين، جاء ليونيد والتسمان (زورين كان اسماً مستعاراً) من مدينة باكو (عاصمة أذربيجان)، في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ليغزو العاصمة السوفييتية. وبالفعل غزاها! بدأ زورين الكتابة في وقتٍ مبكّر، عندما كان لا يزال تلميذاً. وفي عام 1949، تم عرض مسرحيته الأولى "الشباب" على مسرح "مالي - المسرح الصغير"، وليس في أيِّ مكانٍ آخر! (مسرح مالي هو إلى جانب مسرح البولشوي من أهمّ مسارح موسكو - المترجم). كان المؤلِّف وقتها بالكاد قد أتمّ 25 عاماً من عمره.
في هذه الفترة، كان زورين قد كتب ربما أشهر عملٍ ميلودراميٍّ في عصره "ميلوديا وارسو"، وربما أيضاً أشهر كوميديا غنائية: "بوابة بوكروفسكي".
تميّز زورين بصفاتٍ متعددة متداخلة: مقاطع ذكية خفيفة، نظرة اجتماعية ثاقبة، معرفة عميقة بالمسرح، ومقدرة على كتابة الأدوار، حساسية شاعرية، استيعابٌ لقوانين تقبل النظارة. قليلٌ من معاصري زورين كانوا يتمتعون بهذه الميزات الهامّة بالنسبة لمؤلفٍ مسرحيٍّ جيّد.
لم يعرف القيود في أسلوبه
بدا أنّ زورين لم يعرف القيود في أسلوبه. ولكنّه اصطدم في كثير من الأحيان بقيود الرقابة، بغض النظر عن الموضوع الذي يكتبه. ولهذا منعت أعماله في منتصف الخمسينيات، وفرض حظرٌ على كتابه "الضيوف"، وهي مسرحية اجتماعية ناقدة حول المسميات السوفييتي,
المتبرجزة. بعد مرور فترة طويلة من الزمن، عانت مسرحية زورين "الجدّة النحاسية"، التي تتناول بوشكين، إذ لم تكن الرقابة ترغب أن ترى في "شمس الشعر الروسيّ" نبيّاً قبيحاً يعاني. أمّا في مسرحية "الكوميديا الرومانية" الساخرة، فقد كان من السهل تخمين أنّ المقصود بحاشية روما القديمة هو المجتمع السوفييتي، فحظرت الرقابة مسرحيته حظراً كاملاً في مسارح لينينغراد. وحتى مسرحيته الميلودرامية البريئة "الصيد القيصري"، عن الأميرة تاراكانوف، وجدت السلطات فيها ما تنتقده، فهي: صريحة للغاية، وفيها مشاعر حساسة جداً.
في صلب مسرحية "لحن وارسو"، احتجاجٌ ضد قسوة السلطة السوفييتية، وبالأخصّ ضدّ القانون الذي صدر بعد انتهاء الحرب مباشرة، الذي حظر بموجبه الزواج بالأجانب. هذا القانون باعد بين عاشقين، شابٌّ روسي، وفتاة بولونية، التقيا مجدداً بعد سنواتٍ من فراقٍ إجباريّ حرمهما السعادة. اعتباراً من نهاية الستينيات، ظهر الثنائي (فيكتور وغيلينا - بطلا المسرحية) على جميع المسارح السوفييتية. وعرضت المسرحية على خشبة أكثر من 400 مسرح في عموم الاتحاد السوفييتي. بالطبع، كانت المسرحية من كلاسيكيات القرن العشرين، لأنّها نجت لفترةٍ طويلة من ذاك النظام الذي احتجت المسرحية ضدّ لا إنسانيته.
كان زورين استثنائياً من حيث إحساسه بالحركية. فقد أدرك، على سبيل المثال، أنّه ما من جدوى في نقل مسرحية دويتو غنائية كـ"ميلوديا وارسو" إلى الشاشة. ولكنّه عندما نقل مسرحياتٍ أخرى إلى الشاشة، قام بتجريدها من كلّ أشكال المسرحية، وحطّم ما يعرف بـ"الجدار الرابع" ذائع الصيت، وأنعش النص بهواء نقي. ومن الملحمة الغنائية "الأصدقاء والسنون" عن الحرب والإرهاب لفيكتور سوكولوف عام 1965، ظهرت إلى الوجود العلامة التجارية لمؤسسة السينما "لين فيلم".
"بوابة بوكروفسكي" شقاوة سينمائية صرفة على حافّة السخرية. أمّا "الطيبون" (1959) فقصّة مذهلة اختارها كارين شاه نازاروف لظهوره الأول (1979)، وما زالت تحظى بالاهتمام بعد مرور 20 عاماً. وإذا كان القراء في عام 1959، ينظرون إلى قصة بطل "الطيبون"، الجاهل غوردي كاباجكوف، الذي استطاع التسلّق حتى كاد يصل إلى مرتبة الأكاديمي، باعتبارها سخرية ناقدة لشخصية سوفييتية نافذة كـ"تروفيم ليسينكو"، فإنّهم أصبحوا يرون فيها عام 1979 صرخةً تنذر بتدهور المجتمع الراكد حينئذٍ.
تقف نصوص زورين الأصلية قصراً متفرداً. وظهر للمرة الأولى (عام 1960) بتأليف مشترك مع سيرغي ميخائيلكوف في يومية لطيفة "ليون غاروس يبحث عن صديق"، أخرجها الفرنسي مارسيل باليرو، بأسلوب "لو كان كلّ شباب العالم". يتحدث فيلم "رجل من الّلامكان" (1962 لإلدار ريزانوف) عن رجلٍ متوحشٍ خارق من قبيلة (تابّي)، يمثِّل نموذج "شحّ الأفكار والافتقار إلى الإبداع " الذي أظهره ميخائيل سوسلوف من منصة المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي. في اليوم التالي، أزيل الفيلم من صالات العرض، الأمر الذي أسف له سوسلوف بعد 13 عاماً، وكفّر عن ذنبه بالسماح بإعطاء الضوء الأخضر لأوليغ يفريموف بإنتاج "الجدّة النحاسية".
حمل التدخل المزدوج لكبير أيديولوجي السلطة السوفييتية دراما غريبة في حياة زورين، التي كانت تبدو خالية من الأحداث. في البداية، وعلى عكس الأخلاق السائدة، آنئذٍ، فقد تدخل في مصيره رجالٌ كانوا الأقوى في عالمه آنذاك. فقد أوفد الفتى ليونيد زالتسمان (زورين في ما بعد) ذو السنوات السبع إلى موسكو، من قبل مفوض الشعب، ومؤلف كتب أشعار وفخر مدينة باكو بأكملها. وفي موسكو، تخاطف رعاة من الوزن الثقيل الفتى. فقد تحدث إليه أندريه بوبنوف، وزير الثقافة والاستراتيجي الأسطوري لثورة أكتوبر، واصطحبه الكاتب إسحق بابل شخصياً إلى مدينة غوركي للقاء مكسيم غوركي، متحدثاً معه أثناء الطريق عن الحياة النباتية والحيوانية في المنطقة المحيطة بموسكو. مكسيم غوركي نفسه كان يتوجه إلى زورين بكل احترام في مقالتين من مقالاته، متوجهاً إليه بصيغة الجمع.
أخيراً، وبحسب شهادة الطيّار فودوبيانوف، فقد قال ستالين نفسه: "هذا الفتى الموهوب يجب علينا أن نساعده". عندما سمع زورين ذلك، قال ضاحكاً: "برحمةٍ من الله، لم يساعد".
يعتبر فيلم "السلام لمن يدخل" (ألكسندر آلوف، وفلاديمير ناوموف، عام 1961) أحد رموز السينما الحربية السوفييتية. أُرسل الضباط القادة الملازم شورا إيفلييف، الذي التحق بالجيش العامل عشيّة النصر، بعيداً عن الرصاص الطائش إلى مؤخرة الجيش بمهمةٍ مخططة لنقل امرأة ألمانية حاملٍ إلى المشفى. تحولت الرحلة إلى مبادرة، وسلسلة كوابيس من العصر القوطي والباروكي، وأصبحت اختباراً للإنسانية والاستعداد للعودة إلى الحياة السلمية. تصارعت المثالية والإسراف الرمزي على الحافّة. غير أنّ صورة التآخي الآني، تحت تأثير الخمر بين إيفلييف والسائق - اليانكي (الأميركي)، وصورة الطفل الذي يرسم في نهاية الفيلم جبلاً من البنادق المتروكة، لا تبدو مبتذلةً.
أكثر أفلامه روعةً كان فيلم Grandmaster (لقب يمنح في الشطرنج لكبار اللاعبين ــ المترجم) للمخرج سيرغي ماكليان 1972. ويفسّر نسيانه الكامل بأنّ الدور الرئيسي لعبه شخصٌ طبيعيّ، وهو بطل الاتحاد السوفييتي في الشطرنج لأربع مرات، فيكتور كورشنوي.
في العام نفسه، وبعد خسارته أمام أناتولي كاربوف، أدلى كورشنوي بحديثٍ غاضبٍ لوكالة الأنباء اليوغسلافية، ثمّ هاجر نهائياً. غير أنّ هذا التفسير تفسيرٌ كاذب! فزورين، كمتابعٍ محترف للشطرنج، لم يكن يفكّر بالشطرنج حتماً، بل بطبيعة الموهبة بحدّ ذاتها. "لاعب الشطرنج الكبير"، تحليله الذاتي، الاعتراف بالعلاقات المعقدة مع الواقع، هو عبارة عن رسائل مشفّرة للقراء والمشاهدين في المستقبل.
في واقع الأمر، لم تكن" بوابة بوكروفسكي" مجرد قصةٍ غنائية بارعة حول تغيّر الأزمنة، وحول حتمية تغيّر أسلوب الحياة الاجتماعية الآيلة إلى الزوال في موسكو الشائخة. لقد نقل
زورين تاريخه الشخصي أواخر الأربعينيات عشر سنوات في المستقبل، ليكتب عن الجوهر، مستشرفاً دفء فترة خروشوف القادمة: "بوابة بوكروفسكي" معرض كامل من الشخصيات المضحكة، العبثية، التي تحرّك العواطف، أصبحت ممكنةً فقط بسبب حقيقة أنّه لم يعد ضرورياً أن تكون متشابهةً، وأنّ عليها النضال في سبيل مستقبلٍ أكثر إشراقاً. لقد أصبح بإمكانها أن تعيش فقط بمرحٍ وسهولةٍ كما الإنسان. عندما ظهرت "بوابة بوكروفسكي" على خشبة المسرح، لم يكن من باب المصادفة أن يشنّ موظفو الأدب حملة شعواء على المؤلف، باعتبار عمله "تافهاً من حيث الموضوع". وحده الحبّ الجماهيري الشعبي كان من احتضن فيلم المخرج كوزاكوف، ووحده من حوّل نصّ زورين إلى جملة اقتباساتٍ، ليعطي المسرحية بطاقة مرورٍ إلى المستقبل.