يعيش إنسان العصر الحديث في عالم معروف له ومفهوم من قبله. فنحن نعرف اليوم، وبعد زمن طويل من تأمل الطبيعة ودراستها، كيف تَشَّكل كوكبنا الذي نعيش عليه، ومتى. ونعرف كيف تشكلت بقية الكواكب السيارة، والقوانين التي تحكم حركتها ودورانها حول الشمس. ولدينا فكرة صحيحة إلى حد كبير عن تاريخ الكون برمته وصولا إلى الانفجار الأعظم البدئي الذي تولدت عنه المجرات، وما زالت تفر في كل اتجاه بسرعات خيالية. ونعرف أن الأرض لا ترتكز على قرن ثور ولا يحملها على ظهره إله جبار، ونعرف عن حركتها حول الشمس وهي الحركة التي تولد الليل والنهار، وتدفع حركة الفصول السنوية. ونعرف سر أطوار القمر الشهرية والسبب في خسوفه. ونعرف عن أسباب الزلازل والبراكين وحركة الرياح وكيف تهطل الأمطار والثلوج نتيجة دورة الماء في الطبيعة.
ونعرف عن أسباب المرض الجسدي والنفسي وطرق معالجتها. وباختصار فلقد اقتحم عقلُ الإنسان الطبيعة وجردها من كثير من أسرارها، وما زال ماضياً في طريقه هذا نحو مزيد من الفتوح والاكتشافات العلمية. وفي كل خطوة من خطواته كان الإنسان ينتزع جزءاً من المساحة المعطاة للآلهة والأرواح والعفاريت وبقية القوى المجهولة، ليضعه بين يدي قوانين الطبيعة وإرادة الإنسان الفاعلة في الطبيعة.
والآن، إذا تصورنا إنسان العصر الحديث وقد حُرم من كل هذه المعارف، نستطيع أن نتصور وضع الإنسان القديم الذي أنتج الأسطورة، من خلال توقه إلى فهم نفسه وفهم الكون، وظواهر الطبيعة التي تتحكم بحياته، وتوقه إلى معرفة أصول وجذور شرطه الراهن. فمنذ أن انتصب إنسان العصور الحجرية القديمة على قائمتين، رفع رأسه إلى السماء فرأى نجومها وحركة كواكبها، وأدار رأسه فيما حوله فرأى من الألغاز على الأرض ما يوازي الألغاز في السماء. لقد أرعبته الصواعق، وخلبت لبه البروق والرعود. داهمته الأعاصير والزلازل والبراكين، ولاحقته الضواري، رأى الموت وعاين الحياة. كان الغموض يحيط به أنى توجه وكيفما أسند رأسه للنوم وداهمته الأحلام. وفي لحظات الأمان والفراغ من سعيه وراء سد رمقه، كان لديه متسع من الوقت للتأمل والتفكير: لماذا نعيش وكيف نموت؟ كيف خُلق الكون وكيف خلق الإنسان؟ من أين تأتي الأمراض؟ وما إلى ذلك من أسئلة حيرته ولم يجد جوابا عليها إلا من خلال الأسطورة. كان ابتداء الأسطورة أنْ رأى الإنسان كيف يمارس الأثر في الطبيعة من خلال إرادته وعمل يده، فاعتقد أن وراء كل مظهر من مظاهر الكون، وحركة من حركات الطبيعة روحاً إلهية فاعلة، فملأ السماء والأرض بالآلهة، ونظمها في مراتبية تتدرج من الأدنى نحو الأعلى، حيث ركز فعل الخلق والتكوين، وهو الفعل الذي يجل عن الأفهام، في شخصية الإله الأعلى الذي يحرك ويدير بقية الآلهة الموكلة بالمظاهر الجزئية. ومن خلال صياغته لقصص عن هذه الآلهة وعلائقها المتشابكة، وما ينجم عنها من ظواهر مرئية أو محسوسة، كان يصوغ منهجاً أسطورياً في فهم العالم واستيعابه، وفهم دوره في هذا العالم، ومآله. وهكذا فقد لعبت الأسطورة في الماضي الدور الذي يلعبه العلم والفلسفة في العصر الحاضر، وكلا الزمرتين تنشآن عن النوازع والتوجهات ذاتها. وإن توقنا إلى التعلم وفق المناهج العلمية الحديثة ينشأ عن الموقف القديم الذي كان يدفع أسلافنا لتلاوة الأساطير والاستماع إليها. فالأسطورة، والحالة هذه، هي قصة رمزية يلعب الآلهة الأدوار الرئيسية فيها. وتتميز موضوعاتها بالجدية والشمولية: وذلك مثل التكوين والأصول، والموت والعالم الآخر، ومعنى الحياة وسر الوجود. وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام الديني للجماعة، وتعمل على توضيح معتقداته، وتدخل في صلب طقوسه. ومن هنا تأتي قدسيتها وسلطتها العظيمة على عقول الناس. وغالبا ما تصاغ في قالب شعري يساعد على ترتيلها في المناسبات الطقسية، وتداولها شفاهة، ويزودها بسلطان على العواطف والقلوب.
تتخذ أساطير الخلق والتكوين مكان المركز والبؤرة في أي منظومة ميثولوجية. فهي التي تتحدث عن أصل الكون وكيف ظهر العالم إلى الوجود، وعن أصل الآلهة وأنسابها ومراتبها وعلائقها مع بعضها بعضاً. وهذا ما سوف نلتفت إليه فيما يلي، متخذين من ميثولوجيا التكوين الرافدينية نموذجاً.
في الأساطير السومرية، وهي أول الأساطير المدونة في تاريخ الحضارة الإنسانية، تبدأ عملية خلق وتكوين العالم انطلاقاً من مادة بدئية أزلية هي المياه الأولى، التي دعاها السومريون «نمّو». ففي أعماق هذه المياه تشكلت بذرة الكون الأولى على هيئة جبل قبته هي السماء، وقاعدته هي الأرض، وكانا ملتصقين. بعد ذلك أخذ الهواء بالتشكل في داخل هذه الكتلة اليابسة، الأمر الذي أحدث فجوة في داخلها. وكلما أخذ الهواء بالتزايد والتمدد كلما توسعت هذه الفجوة، إلى أن باعدت بين الأرض المنبسطة وقبة السماء التي تغطيها من كل جهاتها. ثم أن هذا العنصر الغازي الذي يملأ المسافة بين الأرض والسماء أنتج القمر والشمس وبقية الأجرام المضيئة. وكان من نتيجة فصل السماء عن الأرض إتاحة الشروط المناسبة لظهور الحياة الطبيعية والكائنات الحية.
ولكن العقل الأسطوري لم يكن يعالج الأمور بهذه الطريقة العلمية التي بسطناها، بل بلغته الخاصة التي تُحول الظواهر الكونية والطبيعانية إلى شخصيات إلهية. ففي البدء، على ما نفهم من شذرات نصوص سومرية لم تصلنا كاملة، كانت الإلهة نمو، المياه الأولى. ثم إن هذه الإلهة البدئية أنجبت ولداً وبنتاً، الأول هو«آن» إله السماء المذكر، والثانية هي «كي» إلهة الأرض المؤنثة. وكان الاثنان ملتصقين ببعضهما بعضاً في كتلة تهيم في الأعماق المائية. ثم إن آن تزوج كي وأنجبا بكرهما إله الهواء إنليل الذي باعد بينهما فرفع السماء نحو الأعلى وبسط الأرض تحتها. بعد ذلك أنجب إنليل إله القمر «نانا»، وإله القمر أنجب إله الشمس «أوتو». وبعد ذلك انطلقت عملية التكوين التدريجي، عن طريق زواج الآلهة وتناسلهـا.
بعد أن أخذ الكون شكله وانتظمت دورة النهار والليل وحركة الفصول؛ وبعد أن أخرجت الأرض زرعها وشجرها وتفجرت ينابيعها؛ وبعد أن ظهرت الحيوانات بأنواعها، صار المسرح مهيئا لظهور الإنسان، الذي ترى الأسطورة السومرية أنه خلق لكي يحمل عبء العمل ويرفعه عن كاهل الآلهة. فقبل ظهور الإنسان على الأرض كان الآلهة يقومون بكل الأعمال التي تحفظ حياتهم وتُيسر معاشهم، من فلاحة وزراعة وحصاد، وما إليها. ولكنهم تعبوا من ذلك ورفعوا عقيرتهم بالشكوى إلى إله الماء والحكمة «إنكي»، عله يجد لهم مخرجاً. ولكنه، وهو المضطجع في الأعماق المائية، لم تصله شكواهم، فمضوا إلى أمه الإلهة نمو، المياه البدئية التي أنجبت الجيل الأول من الآلهة، لتكون واسطتهم إليه. فمضت إليه قائلة:
أي بني، انهض من مضجعك، واصنع أمراً حكيماً.
اجعل للآلهة عبيداً يخدمونهم ويقومون بأوَدهم.
فتأمل إنكي مليا في الأمر، ثم دعا الحرفيين الإلهيين المهرة ليقوموا بتشكيل البشر انطلاقا من عجينة من طين، وقال لأمه نمو:
إن الكائنـات التـي ارتأيتِ خلقــها ستوجـــد،
وسوف نصنعهــا علـى شبـــه الآلهـــة.
اغرفـي حفنة من طيـن من فوق ميـاه الأعماق،
وأعطها للحرفيين الإلهيين ليعجنوا الطين ويكثفوه.
وبعد ذلك قومي أنت بتشكيل الأعضاء،
بمعونة ننماخ، الأم - الأرض.
عندها ستقف إلى جانبك ربات الولادة،
وتُقَدِّرين للمولود الجديد يا أماه مصيره،
وتعلق ننماخ عليه صورة الآلهة
إنه الإنسان.
هذا وتتكرر قصة خلق الإنسان في نص سومري آخر يتحدث عن خلق إله الماشية «لهار» وإلهة الحبوب «أشنان» لإطعام الآلهة التي لا تشبع، والتي كانت في مطلع الأزمان أشبه بالإنسان البدائي:
كالبشر عندما خلقوا في الماضي البعيد،
لم يعرف الآلهة أكل الخبز،
لا ولم يعرفوا لُبس الثياب،
بل التقطوا النباتات بأفواههم،
ومدوا رؤوسهم لشرب الماء من الجداول.
في تلك الأيام، وفي «دولكوج» بيت الآلهة،
في حجرة الخلق، جرى خلق لهار وأشنان،
ومما أنتج لهار وأشنان،
أكل الآنوناكي ولم يكتفوا،
ومن الحظائر المقدسة شربوا اللبن،
ولكنهم أيضاً لم يرتووا
لذا، ومن أجل العناية بطيبات حظائرهما،
جرى خلق الإنسان.
لقد تحدثت الأساطير السومرية عن خلق البشر الأوائل دفعة واحدة، ولكن الأساطير البابلية اللاحقة تحدثت عن خلق زوجين أوليين تناسل منهما بقية الجنس البشري. وقد جرى خلق هذين الزوجين من عجينة طينية ممزوجة بدم إله (أو أكثر) تم تقديمه قرباناً لعملية الخلق. وكما هو الحال في الميثولوجيا السومرية، فإن الإله إنكي (أو إيا، كما يدعوه البابليون). نقرأ في نص لم يصلنا كاملاً ما يلي:
عندما خَلق الآلهة في مجمعهم كل الأشياء،
بعد أن شكلوا الأرض وكوّنوا السماء؛
بعد أن أخرجوا للوجود الكائنات الحية؛
قام إيا بخلق زوجين شابين،
وأعلى من شأنهما فوق جميع المخلوقات.
وفي نص آخر نجد الآلهة وقد تعبوا من عناء الكدح والعمل، يستعطفون الأم - الأرض «مامي» (أو ننتو) لكي تخلق لهم كائنات تحمل عنهم نير العمل:
«أنت عون الآلهة، مامي، أيتها الحكيمة.
أنت الرحم الأم أيتها الخالقة.
اخلقي لنا الإنسان فيحمل العبء،
ويأخذ عن الآلهة عناء العمل.
فتحت ننتو فمها وقالت للآلهة الكبار:
«لن يكون لي أن أنجز ذلك وحدي،
ولكن بمعونة إنكي سوف يُخلق الإنسان،
الذي سوف يخشى الآلهة ويعبدها.
فليعطني إنكي طينا أعجنه وأسويه بشراً».
فتح إنكي فمه قائلاً للآلهة العظام:
«في الأول والسابع والخامس عشر من الشهر،
سوف أُجهز مكاناً طهوراً،
وسيُذبح هناك أحد الآلهة.
عندها فليتعمد بدمه بقية الآلهة،
وبلحمه ودمائه سوف تعجن ننتو طيناً.
إله وإنسان معاً،
سيتحدان في الطين إلى الأبد.
ولدينا نص بابلي ثالث يقدم نفس القصة مع تنويعات طفيفة:
بعد أن شُكلت الأرض وسُوّيت،
بعد أن تحددت مصائر الأرض والسماء،
بعد أن استقرت شطآن دجلة والفرات،
عندها، الآلهة الكبار آنو وإنليل وإيا،
وبقية الآلهة المبجلين،
جلسوا جميعاً في مجلسهم المقدس،
وتذاكروا ما قاموا به من أعمال الخلق:
«أما وقد حددنا مصائر السماء والأرض،
وجرت القنوات في مجاريها،
واستقرت شطآن دجلة والفرات؛
ماذا نستطيع بعد أن نفعل؟
ماذا نستطيع بعد أن نخلق؟»
ثم توجه الحضور من الآلهة المبجلين،
توجهوا بالقول إلى إنليل:
«لنذبح بعض آلهة الحِرف،
ومن دمائهم فلنخلق الإنسان،
فنوكله بخدمة الآلهة على مر الأزمان.
سنضع في يديه السلة والمعول،
فيبني للآلهة هياكل مقدسة تليق بمقامهم،
ويسقي الأرض بأقاليمها الأربعة،
ويُخرج من جوفها الخيرات الوافرة،
ويستخرج الماء العذب ويحتفل بأعياد الآلهة.
سنخلق زوجين ويكون اسمهما:
أوليجار وألجار»
على أن أجمل النصوص البابلية الأسطورية قد وصلنا منقوشاً على سبعة ألواح فخارية، وهو يحمل عنوان «إينوما إليش» أي «عندما في الأعالي»، وهي الجملة الاستهلالية التي ابتدأ بها. فعندما في الأعالي، لم يكن هنالك سماء، وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض، لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثلة في ثلاثة آلهة مائية هم «تيامة» ماء المحيط البدئي المالح، التي أنجبت الماء العذب «أبسو» وتزوجته، وابنهما «ممو» الضباب المنتشر فوقهما. وكان هؤلاء الثلاثة يعيشون في تمازج وتناغم، وصمت وسكون مطلق. انطلاقا من هذه المادة المائية الهيولية ابتدأ الخلق والتكوين، عندما أنجب الآلهة الثلاثة الجيل الثاني من الآلهة:
عندما في الأعالي لم يكن هنالك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض.
لم يكن من الآلهة سوى أبسو أبوهم،
وممو، وتيامة التي حملت بهم جميعاً،
يمزجون أمواههم معاً.
قبل أن تتشكل المراعي وسبخات القصب،
قبل أن يظهر للوجود الآلهة الآخرون،
قبل أن تُمنح لهم أسماؤهم وتُرسم أقدارهم.
في ذلك الزمان خلق الآلهة الثلاثة في أعماقهم
«لخمو» و«لخامو» ومنحوا لهما اسميهما
ومن لخمو ولخامو تناسل الجيل الثاني من الآلهة البدئية، وصولاً إلى آنو وابنه إيا الذي صار سيداً لآبائه وأسلافه بسبب قوته وحكمته وسعة إدراكه. ولكن الجيل الجديد من الآلهة كان كثير النشاط والحركة. وبما أنهم ما زالوا في جوف المياه البدئية، فإن هذه الحركة أقلقت الآلهة القديمة الميالة إلى الراحة والسكون، فاقترح أبسو على تيامة القضاء على الآلهة الشابة، وأيده في ذلك ممو:
فتح أبسو فمه قائلاً لتيامة بصوت مرتفع:
«لقد غدا سلوكهم مؤلماً لي.
في النهار لا أستطيع راحة وفي الليل لا يحلو لي رقاء.
لندمرنًّهم ونضع حداً لفعالهم،
فيخيم الصمت، ونخلد عندها للنوم»
فلما سمعت منه ذلك،
ثار غضبها وصاحت بزوجها:
«لماذا ندمر من وهبناهم نحن الحياة؛
إن سلوكهم لمؤلم حقاً، ولكن دعونا نلجأ إلى اللين»
ثم نطق ممو ناصحاً أبسو،
وفي غير صالح الآلهة جاءت نصيحة ممو:
«نعم يا والدي، دمّرهم وخلصنا من فوضاهم،
لكي تستريح في النهار وترقد في الليل»
غير أن ما دار بين المتآمرين قد وصل بشكل ما إلى الآلهة الشابة التي تجهزت للمعركة وعينت إيا قائداً عليها. وعندما التقى الطرفان قام إيا بقتل أبسو وأسر ممو. وفوق أبسو - الماء العذب - أقام مسكنا له، ومنذ ذلك الوقت صار إلهاً للماء العذب الباطني، يمسك بممو الأسير بحبل، أي بالرطوبة والضباب الملازمين للماء أنى وجد.
ولكن المعركة لم تُحسم بعد، وكان على الآلهة الشابة خوض معركة فاصلة بقيادة ابن للإله إيا، بكره الذي دعاه مردوخ، والذي كان أعظم آلهة الجيل الثالث من الآلهة:
تخلب الألباب قامته، تلمع كالبرق عيناه،
يخطو بعنفوان ورجولة، إنه زعيم منذ البداية.
بفن بديع تشكلت أعضاؤه،
لا تدركه الأفهام، ولا يحيط به خيال.
أربعة كانت آذانه، أربعة كانت عيونه،
تتوهج النيران كلما تحركت شفتاه.
كان الأعلى بين الآلهة وما لهيئته من نظير،
هائلة أعضاؤه، سامقة قامته.
ثم خلق آنو الرياح الأربعة وسيَّرها،
وأسلم قيادها لسيد الجماعة،
لمردوخ الذي أحدث بها الأمواج فاضطربت لها تيامة؛
قلقه صارت، تجول على غير هدى.
أتت بأسلحة لا تقاوَم؛ أفاع هائلة
حادة أسنانها، مريعة أنيابها،
مُلئت أجسادها سماً بدل الدم.
أتت بتنانين ضارية تبعث الهلع،
توجتها بهالة من الرعب وألبستها جلال الآلهة.
أحد عشر نوعاً من الوحوش أظهرت إلى الوجود،
ومن الجيل الأول من الآلهة الغاضبة في مجلسها،
اختارت الإله كينغو ووضعته أمام جيشها قائداً».
وصلت أنباء الاستعدادات الجديدة أسماع الآلهة الشابة، فمضى جدهم أنشار يبحث عن قائد يتصدى للإلهة الغضبى وحشْدِها، ولكن الجميع تقاعس عن المهمة إلا مردوخ الذي جاء إلى أنشار في عدة الحرب الكاملة وانتصب أمامه معلناً عن قبوله لمنصب القيادة. فدعا أنشار الآلهة إلى مأدبة فشربوا وأكلوا حتى نسوا مخاوفهم، ولمردوخ البطل أسلموا مصائرهم، وأعطوه أعلى قوة إلهية وهي قوة الكلمة الخالقة. ولكي يتأكدوا من قوة كلمته جاؤوا إليه بثوب وضعوه في وسطهم وقالوا له:
سلطانك أيها الرب هو الأقوى بين الآلهة.
ليفن الثوب بكلمة من فمك،
وليرجع سيرته الأولى بكلمة أخرى.
فأمر مردوخ بفناء الثوب فزال،
ثم أمر به فعاد ثانية.
فلما رأى آباؤه الآلهة قوة كلمته،
ابتهجوا وأعطوه ولاءهم: مردوخ ملكاً.
وها هو يستعد للمعركة:
صنع قوساً وأعلنه سلاحاً له،
جعل للسهام رؤوساً مسنونة وشد لقوسه وتراً؛
رفع الهراوة وأمسكها بيمينه؛
وربط القوس والجعبة إلى جنبه،
ثم أرسل البرق أمامه،
وملأ جسده بالشعلة اللاهبة.
صنع شبكة يوقع بها تيامة،
وصرَّف الرياح الأربعة تُمسك بأطرافها لاحتواء تيامة.
أطلق فيضان المطر، سلاحه الهائل،
ثم اعتلى مركبة لا تُقهر، مركبة العاصفة؛
وقد حفت به الآلهة، حفت به الآلهة؛
وقد تدافعت حوله الآلهة، تدافع آباؤه الآلهة.
وعندما التقى الجمعان دعا مردوخ تيامة إلى منازلة فردية بينهما
تقدما من بعضهما، تيامة ومردوخ أحكم الآلهة؛
اشتبكا في قتال فردي والتحما في عراك مميت.
نشر الرب شبكته واحتواها في داخلها،
وفي وجهها أفلت الرياح الشيطانية التي تهب وراءه،
وعندما فتحت فمها لابتلاعه،
دفع في فمها الرياح الشيطانية فلم تقدر على إطباقه،
وامتلأ جوفها بالرياح الصاخبة،
فبطنها منتفخ وفمها فاغر على اتساعه.
ثم أطلق الرب من سهامه واحداً مزق أعماقها،
تغلغل في الحشا وشطر منها القلب.
فلما تهاوت أمامه أجهز على حياتها؛
طرح جثتها أرضاً واعتلى عليها؛
وقف على جزئها الخلفي،
وبهراوته العتية فصل رأسها،
وقطع شرايين دمائها،
التي بعثرتها ريح الشمال إلى الأماكن المجهولة.
ثم اتكأ الرب يتفحص جثتها المسجاة،
ليصنع من جسدها أشياء رائعة؛
شقها نصفين فانفتحت كما الصدفة،
ثم نزع شبكته عنها وقد تحولت إلى سماء وأرض.
بعد ذلك يعمد مردوخ إلى خلق هيئات ومظاهر الطبيعة من جسد تيامة القتيلة، فمن لعابها صنع الضباب والغيوم المحملة بالمطر، ومن رأسها صنع التلال، ومن ثدييها الجبال، وفجر من أعماقها المياه فاندفع من عينيها نهرا دجلة والفرات. ومن جزئها العلوي صنع النجوم والسيارات، قسَّم الوقت فرسم خط السمت وحدود السنة التي قسمها إلى أشهر وأيام. أمر القمر بالسطوع وأوكله بالليل وبشهور السنة، وخلق الشمس التي تحدد الأيام. بعد ذلك أنبت من الأرض الزرع والشجر، ولم يبق سوى خلق الإنسان. وكما كان الأمر في الأسطورة السومرية القديمة، فقد كان لا بد من التضحية بأحد الآلهة ليُصنع من دمه الإنسان. وهنا يؤتى إليه بالإله كينغو زوج تيامة، والمتهم بتحريضها على شن الحرب، فقُطعت شرايين دمائه، ومن دمائه قام إيا بخلق البشر الذين أسكنهم مردوخ مدينة بابل التي رفع بنيانها أمهر الحرفيين الإلهيين، فأوكل البشر بالعمل وحرر الآلهة من عبئه. بعد الانتهاء من كل ذلك اجتمع كل الآلهة في معبد مردوخ الذي بنوه في بابل واحتفلوا بانتهاء أعمال الخلق والتكوين، وأعلنوا لمردوخ خمسين اسماً مقدساً، يشف كل واحد منها عن صفة من صفاته أو فاعلية من فاعلياته التي تطال الأرض والسماء.
تعليق
الإسم