الكورونا في مهب الشمولية والديمقراطية
فواز حداد
2020-04-18
أظهرت الصين فعالية استثنائية تكاد أن تكون مثالية في احتواء خطر وباء الكورونا، ما أثار حسد الأمريكان والأوربيين. الأخبار الواردة منها تؤكد أنها باتت نظيفة من الفيروس، وما يظهر منه يأتي مع الوافدين إليها…. ليس لدينا سبب لتكذيبها أو تصديقها. ببساطة، في الصين، يصنعون أخبارهم ويصدّرونها، ما يجب التعويل عليه، والاستفادة منه هو أن المهارة التي أظهرتها الدولة الشمولية أفضل من الميوعة التي أظهرتها الدول الديمقراطية. أما كيف عالجتها، وما التكلفة الفعلية، فلا يمكن معرفتها الا في حال تسربت من داخل الستار الحديدي، وهو في الواقع جدار، ولا نقصد جدار الصين.
ما يجب التوقف عنده أن الجدار الحديدي لا مرئي، مثلما كان سابقاً في زمن ماو تسي تونغ وستالين، لكن وجوده رغم لامرئيته، كشفت عنه فضيحة الكورونا. لم يشكل حاجزاً أمام الوباء، وإن كان الرد على زعمنا هذا، أن الفيروس جاء من الداخل، لو جاء من الخارج لجرت مصادرته عند الحدود.
لا تتخلى الدكتاتوريات عن كل ما يحجب حقيقتها عن العالم، الجدار الحديدي شكّل في الدول الشمولية مناعة من رياح الخارج، واعتبر الوقاية من الأمراض التي تنوء بها الدول الرأسمالية، وأصبح جزءا لا يتجزأ من منظومتها الراسخة، لا تسير آلة الدولة من دون الاطمئنان إلى وجوده، ما دام الغرب يتربص بها، مع أنها تمتلك ايديولوجيا تصلح علاجاً لجميع الأزمات. من قبل كان مجرد الاطلال على العالم، يقال بأنه يهدد مفاصل الدولة الحديدية بالتخلخل، لكن الصين الجديدة أصبحت تتغلغل في العالم بوسائل من حرير، وأثبتت ما قاله الحكيم ماو، الامبريالية نمر من ورق.
لم تأت رياح التغيير إلى الصين من الخارج فقط، بل من الداخل أيضاً. وكان تعاملها مع الغرب انتقائياً، أخذت منه وحشية النمو الرأسمالي، واستبقت لنفسها الأيديولوجية الشيوعية بإحكام السيطرة المطلقة على الدولة، وحققت قفزة هائلة لم تكن نحو المجهول، أصبحت بلداً مزدهراً تفوق اقتصادياً على أعتى الديمقراطيات، مظاهر التقدم العمراني أقرب إلى الخيال، مع رفاهية تطرق أبواب الغرب، أصبح عادياً منظر الصينيين يتبضعون من العواصم الأوربية أغلى الملابس والعطورات، لمجرد انها تحمل علامة بيوتات الأزياء المشهورة.
بينما تمتعت الدول الديمقراطية بالواقعية في معالجتها للوباء، بعدما فاتتها الكفاءة التي تحلت بها الصين في وقت مبكر، جرت محاولات لتعويضها، باقتراح حل يعتمد “الاصطفاء الطبيعي”، تفسيره أن البقاء للأصلح، أي للأقوى، التبرير الحقيقي له، هو أن كبار السن يشكلون عائقاً في مسار التقدم الاقتصادي، خاصة أن التنافس مع الصين بات حقيقة واقعة، وكسب السباق لا يسمح بتعطيل وعود الرفاهية، زاد عليها الادعاء بأن توقف عجلة النمو، سيجعل البشر يعانون من الجوع، عندئذ سيفوق أعداد ضحايا الاقتصاد ضحايا الكورونا، وهكذا أصبح التخلص من كبار السن ضرورة، ولم يبق سوى أن يودع الناس أحباءهم.
طبعاً، الاحتجاجات أنصفت كبار السن، ورفضت التضحية بهم، ورضخت الحكومات الديمقراطية، خاصة أن التوقعات قاربت أن تُجمع قبل كورونا على أن الاقتصاد غير معافى، والأزمة قادمة. عموماً لا حل سحري في قتل كبار السن، صحيح انهم لم يحاولوا التخلص منهم عمداً، وإنما تركوا لأقدارهم، أي لكورونا.
تتجه أنظارنا نحن السوريين إلى العالم، ونفكر تحت وطأة الوباء القادم، وتذهب مخاوفنا إلى بلدنا، فالخطر جلي، ما دام هناك دول ديمقراطية رفعت علم الصين تقديراً لمساعداتها، ولو أن الكثير منها لم يكن بلا ثمن، حتى أنها باعت شحنة من الأدوات الطبية كانت متوجهة إلى فرنسا، بثلاثة أمثال سعرها إلى أمريكا، فالتجارة ليست تبرعاً، ولا تنمو بالخسارة، ثم أن العامل الإنساني ولو كان دعاية طيبة للرأي العام، لكنه لا يعوض عن جني الأرباح الفاحشة.
السوريون محبطون، بعد حرب استمرت تسع سنوات، ولم تنته بعد، يفاجئهم الكورونا، مع عدم قناعتهم بأن الحكومة قادرة على احتوائه، والأمثلة كثيرة على عجز حكومات متعاقبة عن حل أزمات باتت مزمنة. وكمثال مأساة الخبز، ففي سورية أخفق النظام في إيجاد حل لها طوال خمسة عقود، وأصبح أزمة دورية، تتجدد من وقت لآخر. اليوم يتآمر الخبز مع الكورونا، طالما الخبز يجمعهم أمام الأفران، والكورونا تتطلب تباعدهم.
المشكلة أن الكورونا منحت شهادة حسن سلوك للمعالجة الصينية، وأصبحت نموذجاً ملهماً يتذرع به قادة دول يتشبثون بالسلطة طالما هم أحياء، وتوريثها لأولادهم بعد الموت. ولا يستبعد أن النظام في سورية سيجترح مثل الصين علاجاً غامضاً، لا أقل من الانكار والإهمال، يصبح قدوة لبلدان ترغب في تبديل أنظمتها في المنطقة نحو الشمولية، بدعوى عدم الكفاءة. فلا نتصور نحن الذين ابتلينا بنظام شمولي رث، أن مثل هذا النظام قد يصبح الدولة المنشودة.
إذا كانت الرأسمالية ليست بالمثال الطيب، فلنتذكر أيضاً أن الأنظمة الدكتاتورية ليست بالمثال المنقذ، وإذا كانت من قبل استولدت أمراضها من ايديولوجيات متحجرة، فاليوم تستمدها من الية الفساد والنهب، وسلطة جشعة إلى الهيمنة.