سديم دافئ
2008-06-16
بخارُ الماء حجبَ الرؤية, موَّهَهَا, غيَّبَها حيناً وأظهَرَهَا حيناً آخرَ من خلفِ السديم المخضب بصابون الغار وعطور الزنجبيل والياسمين. كنَّ جالسات لا يستر عُريهنَّ إلاَّ الأزر البيضاء, المقلمة بدروب خضراء فاهية. الصبايا منهنَّ كنَّ عارياتٍ, يتخطرن بين سحب البخار الدافئ على الرغم من أنَّ أوامر نائب دمشق, سيف الدين منجك, تقضي بإلزام الناس, نساء ورجال, بالتستر بالمآزر في الحمامات.
من بين سحب البخار الحليبي كانت عيون النساء الواسعة كعيون البقر تتفحص تخطرهنَّ بدقة ودربه. تتسلط على النهود, على امتلاء الأفخاذ, على البطون والمؤخرات. عينُ رضى من هنا, وعينُ سخط من هناك.
لم يخلُ المكان من أنفاس تشهق بتأوه مكتوم, وعيونٌ مجربة تستحلب النشوة, كما لم يخلو من نسوة يبحثن عن الكمال. ولأن الصبايا مللن التخطر فقد بدأن يتراشقن بطاسات المياه, وعيونهنَّ من خلف السديم الدافئ تسترق نظرات السماح إلى النسوة الكبيرات.
قالت منيرة البلانة: بس يا بنات لعب.
ففتر لعبهن, ولم يعد البخار الكثيف يعانق المياه العابثة.
همست أم نادر بأذنها: يا ليت خليتيهم عم يلعبوا..
فهمَتْ الأخرى. فهمَتْ جيدا: هيك قولك؟
فنادت البلانة: العبن يا صبايا..
عادت البنات للعبهن بفرح غامر, وعادت نظرات الكبيرات تنغرز في لحمهن, تستلهم تلويهن, تستأنس تخطرهن, تغوص في ثنايا وانحناءات أجسادهن فاحصة. معان جديدة للجمال كانت تسال كالسديم,وكانت أصوات الصبايا, وصراخهن, وضحكهن ينجدل ضفيرة واحدة مع نظرات فاحصة حاسمة لا تعرف المهاودة.
قالت منيرة البلانة: شو قلت أم نادر؟
أجابت أم نادر: الثانية التي أمام الجرن.
هذه اسمها سميرة.. والله مزوقة يا أم نادر. البنت حلوة وأكابر. جمال ومال وأخلاق وبنت عائلة. (وأشارت إلى المقصورة الثانية وتابعت) هذه أمها.. أم تيسير زوجة الفاكهاني بتم سوق الهال
قالت أم نادر:
باين عليها بنت ناس. ألم تلاحظي أنها لم تلعب بالماء كثيرا.
نقول على بركة الله.. ونحكي مع أمها؟
أعطني كم يوم يا منيرة.
**
وقت العصاري, في الفرنكة المطلة على أرض ديار البيت, والشمس حلوة الملمس من وراء الزجاج المعشق, المفروش بألوانه الحمراء والصفراء والخضراء والزرقاء على فسحة المكان... كانت أم نادر جالسة على الكنبة تقول لابنها نادر.. لا يجوز يا أبني أن أصف لك أكثر من ذلك. البنت كاملة مكملة.. أنت بتعرف ذوق أمك.
وقبل أن تغيب الشمس, التمس نادر خلوته المنفتحة على السماء ونجومها.. قضى وقتا يستحلب تصوراته على سطح الدار, تحت عريشة عنب بلدي, فيما شرعت الشمس تلملم ضوء النهار, وتنشر كتل العتمة فوق المدينة القديمة وهي تغوص من خلف صفائح التوتياء المسورة لحدود السطح. لذَّهُ الهدوء النسبي وهو يداعب خيالاته الغفلة محاولا أن ينسج صورة لتلك الأنوثة السديمية.
هي بضع كلمات جادت بها أمه. بضع كلمات فقط استطاعت أن تتمطى في خياله راسمة في فضاء ذهنه صورة واحدة لأنثى لم ترها عين ولم تسمع بها أذن. وسرعان ما احتوته الصورة وذهبت به إلى قرار عميق من اللهفة والوله, وشملته سكرة الرؤى, وتمنى ألا يفيق من غيابه الفردوسي. ومع انغماس الليل في العتمة, وانتشار الصمت وفوح الياسمين في فضاء المكان, غاب نادر في رؤية بيضاء فارعة الطول, ممشوقة القد, نهداها يتبرعمان كزري ورد, وشعرها الأسود مخضب بالدفء, مسترسل على الكتفين كأبجدية عصية على الفهم, غائرة في السرية.
سياتل 26 كانون الأول 2005
القصة من مجموعتي (سديم دافئ)
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |