رواية "بيلان".. رائحة الطاعون والخراب على الأرض السورية : ت ضاهر عيطة
ربما أكثر ما يرعبنا ويذهلنا في رواية "بيلان"، للكاتب السوري، موسى رحوم عباس، أنها تجعلنا نستغرق في أحداثها ونحن شبه مطمئنين، لاعتقادنا أنها تسرد وتروي أحداثًا تاريخية، تعود إلى فترة الستينيات، وأواخر السبعينيات، من القرن الماضي، ولا تربطنا بها أية مشتركات سوى الذكريات عن ذلك الماضي، لكن كلما استغرقنا فيها أكثر، وكشفت النقاب عن تفاصيلها، نستدرك شيئًا فشيئًا، أنها لا تتحدث إلا عنا، وقد بتنا نسخة عن شخصية حسينوه، ونجمة، وحاج طريف، وأبو إبراهيم، وأم الوجعات.. مطاردين، مهجرين، مشردين نبحث عن هويتنا، وقوت يومنا في أصقاع الأرض.
ومن خلال رشاقة السرد، وشاعرية اللغة، ينسل من الرواية عالم مضمخ بالحسرات والفواجع، غير أنها لا تفصح عنه بسهولة، إنما تتركه ليتشكل ببطء في عوالم الشخصيات، ومجريات الأحداث، لنجد أنفسنا بغتة أمام لوحة شديدة الحراك، أشبه ما تكون برياح صفراء لا يستقر عويلها أبدًا، فهي تستمر في عصفها وهديرها كجرس إنذار يواصل قرع ناقوس الخطر في آذاننا. هذا التدفق في الأحداث، وحركة الزمن، والغليان الذي يسري في أعماق الشخصيات، يجعل رواية "بيلان" تبدو وكأنها تنبعث من وسط الجحيم، فالرواح والمجيئ من حيز مكاني إلى آخر، بين درب بيلان في كسرة مريبط، والسفيرة، وساحة باب الفرج، ومنبج، والرقة والطبقة.. يوشك أن يقطع الأنفاس، ويحرض القارئ على التماهي مع الشخصيات والأحداث إلى حد الذوبان فيها، فمنذ البداية يخيل لنا من أثر لغة السرد الشفيفة، وشاعريتها، كأننا أمام عمل أسطوري متخيل، لكن سرعان ما نستدرك بأنه يحاكينا نحن الذين نقف الآن على هذه
"التدفق في الأحداث، وحركة الزمن، والغليان الذي يسري في أعماق الشخصيات، يجعل رواية "بيلان" تبدو وكأنها تنبعث من وسط الجحيم"
الأرض، لنشم رائحة طاعون مقبلة نحونا، فلا ندري كنهها ومصدرها، إلا حينما نتورط في عملية تفكيك الأحداث والشخصيات والأزمنة والأمكنة، حتى نصل إلى ما تسعى الرواية للكشف عنه، وقد كنا قبلها أمام أحجية ترمي بخيوطها إلينا، وما علينا إلا جمعها لنستدرك أن النيران التي تكتوي بها الأراضي السورية في الوقت الراهن لم تكن وليدة اللحظة الحاضرة، إنما كانت قد تشكلت وبدأت تحفر مجراها في عمق حياتنا منذ قيام سلطة البعث، لكن أحدًا منا لم ينتبه، أو لم يشأ أن يولي ذلك اهتمامه، إلى أن تسنى لهذه المأساة التهام الجميع على هذا النحو الذي نحن فيه، فشخصية حسينوه، هذا الكائن العفوي، والطيب، بدا وكأنه أول ثائر على النظام البعثي، وأول من أعلن رفضه للظلم، والتحرر من سلطة القمع، حتى من دون أن يدرك معنى تلك المفاهيم والقيم، حالمًا بحياة خالية من قهر الإنسان للإنسان منذ أن كان طفلًا، وهكذا يهجر المدرسة للخلاص من سطوة الأستاذ، وليعيش وجوده الإنساني بعيدًا عن أية سلطة قهرية. غير أن قسوة المناخ والطبيعة من حوله، والفقر وقلة الحيلة، كانت بدورها عوامل قاهرة أيضًا، مما يجعل وجوه القهر والظلم، تتشابك وتتداخل في أحداث الرواية، فبينما كان يفترض من المؤسسات الحكومية أن تحرر الكائن الإنساني من قسوة الطبيعة والفقر والعزلة، نراها وبحجة تحريره من مثل هذا القهر، تستخدم أدوات أشد فتكًا وقهرًا. وقد تجسد ذلك من خلال سلطة المدرس، وسلطة المختار، وسلطة رئيس المخفر.. هذه السلطات القهرية تفوقت بدرجات على قهر الطبيعة ومناخها القاسي، إذ أدرك حسينوه إمكانية التحرر من مثل هذا القهر، بالابتعاد عن منطقة بيلان في كسرة مريبط، مقر الحدث الرئيسي، والمضي إلى أمكنة أخرى، لاكتشاف طبيعة خلابة يصدح فيها صوت الشحرورة صباح، حينما مضى برفقتها، وبرفقة فيلمون وهبي
"حسينوه، الكائن العفوي، والطيب، بدا وكأنه أول ثائر على النظام البعثي، وأول من أعلن رفضه للظلم، والتحرر من سلطة القمع"
إلى منطقة الحويجة، في حين كلفته محاولة التحرر من سلطة البعث ثمنًا باهظًا، وأكثر ما تجلى ذلك القهر من خلال مشروع سد (الثورة)، أو ما عرف بـ(ببحيرة الأسد)، فبذريعة الحفاظ على سكان المنطقة من طوفان مجرى نهر الفرات، حاصرت مياه بحيرة السد أبناء المنطقة، وداهمهم طوفان أخطر وأعم وأشمل، بهدف اقتلاعهم من جذورهم، وتشريدهم، لينتهي بهم المطاف في بيوت من الصفيح.
فالطوفان البعثي الناتج عن سد الثورة يطبق بخناقه على أعناق الشخصيات في الرواية، ويغرقهم في قسوته، مستخفًا بحياتهم ومصائرهم، وكأنه بداية لمشروع يؤسس لطوفان أوسع. فضاء الحدث في الرواية (كسرة مريبط) يعود تاريخيًا إلى آلاف السنين، حيث هي الرقعة الجغرافية التي منحت البشرية أول معاني الوجود الإنساني، وأول خبز من القمح والشعير، إذًا هي بوابة سورية إلى العالم، وبوابة العالم إلى سورية، وهذا الشريان بين السوريين والعالم هو من عملت سلطة البعث على خنقه، ومحو وجوده بمستنقع مائي، إمعانًا في محو كل المعاني الحضارية والإنسانية والتاريخية وإرثها عن الوجود.
يقابل هذه المشهدية المرعبة إنهماك الشخصيات بحفر المقابر لاستخراج عظام الموتى منها قبل أن تجتاحها مياه السد، يجمعونها في أكياس. وهل هناك من إشارة أكثر إيجازًا وإيلامًا من أن يغدو تاريخ بلد بحاله مجرد عظام محمولة في أكياس؟
هذه المجزرة، وما يعقبها، تجري بإشراف مهندسين روس، كما لو أن ثمة حدسًا ينبعث من بنية
"درب بيلان في الرواية يقسم منطقة كسرة المريبط إلى ضفتين متصارعتين، شبيه بالتقسيم الحاصل لسورية الآن على يد التنظيم الأسدي، الذي أحال شعبها إلى قسمين متناحرين، قتلة وضحايا"
أحداث الرواية، ليقول إن الروس الذين أشرفوا وخططوا لإقامة سد (الثورة)، وأغرقوا وهجروا سكان المناطق المحيطة به، سوف يغرقون في يوم قادم كل ما بقي من تاريخ سورية وحضارتها بصواريخهم وطائراتهم.
ما أشبه حسينوه، الذي يقف في وجه قرارات موفد الدولة البعثية إلى قرية كسرة المريبط، وإشهاره السلاح في وجه رئيس المخفر، بالثائر السوري في الوقت الراهن، الذي وقف في وجه سلطة البعث، بعد أن استفحل خطرها، وطال قمعها وإجرامها الهواء والماء، ولم يجد أمام هذا الطوفان، الذي يوشك أن يغرق جميع السوريين، إلا أن يصبح مهاجرًا ولاجئًا كحال حسينوه. بينما المهندس صالح، الذي تربى مع حسينوه، ودرس معه في المدرسة نفسها، يفترق عنه تمامًا، إذ يغدو رجل روسيا في سورية، ومشرفًا على تهجير وتشريد أبناء قريته وأهله من بيوتهم، بعد أن جمعت بينه وبين ابنة كبير الخبراء الروس علاقة غرامية. لكن تلك الابنة، وبعد إتمام دراستها في سورية، ترحل وتتركه، ليعيش على وهج صوتها المنبعث من الراديو، ولعل ذلك هو الوهم ذاته الذي يعمل تنظيم الأسد على جعله مسيطرًا على أعوانه من الموالين. ودرب بيلان في الرواية يقسم منطقة كسرة المريبط إلى ضفتين متصارعتين، شبيه بالتقسيم الحاصل لسورية الآن على يد التنظيم الأسدي، الذي أحال شعبها إلى قسمين متناحرين، قتلة وضحايا. لكن كم ترقى شخصية (أم الوجاعات) التي تداوي العيون، وشخصية العم سليمان، الذي يداوي الحاج طريف، بحرق مكان الوجع في جسده، عن طبيب العيون الذي يشرح ويمزق الجثث ليستأصل منها حلمها بالتحرر من سلطته.
عنوان الكتاب: بيلان المؤلف: موسى رحوم عباس