العلاقة الجدلية بين الطائفية والحوكمة في سورية
ألف
2020-05-23
لا شك في أن التعصّب، سواء أكان طائفيًا أم سياسيًا، هو نوع من الموروثات أو الآراء أو المعتقدات التي تخاصم “الآخر”[1]. وبهذا المعنى تكون الطائفية عملية تحويل الاختلاف إلى توتر وصراع، ويمكننا القول إن معظم الاختلافات في المجتمعات نشأت نتيجة الخلافات السياسية أو الاقتصادية أو الأيديولوجية، أو بعض هذه العوامل مجتمعة معًا. وفي حالات أخرى، يمكن ملاحظة أن جذور هذه الاختلافات قد تعود إلى صراعاتٍ حدثت منذ وقت طويل، أو ربما نشأت أخيرًا، وفق التغيّرات السياسية والأيديولوجية والاجتماعية في المجتمع والدولة.
يقودنا هذا الوصف، على مستوى الدولة، إلى أن الطائفية تؤدي إلى تقسيم الدولة إلى مجموعات أو مجتمعات متباينة، على أساس الانتماء الاثني أو الديني، ويؤدي ذلك إلى “الترويج والتداول المعتمِد على الولاء، على أساس الطائفة، من أجل تحقيق غايات سياسية معينة”[2]. ومن ناحية أخرى، يرى هينبوش أن الأنظمة السياسية بشكل عام قد تلعب دورًا محوريًا وحيويًا في تشكيل الهيكلية السياسية للدول التي توجد فيها، وبذلك تصبح تلك الهيكليات مصيرية وفعّالة في خلق الطائفية أو تعزيزها أو القضاء عليها. وفي هذا السياق، يأتي مفهوم الحوكمة ليضبط هذه القضية، ويحدد علاقتها بالنظام السياسي. ومن هذا الجانب، يُقصد بالحوكمة الرشيدة سياسات النخب الحاكمة وتكتيكاتها، وضبط طرق الإدارة في مؤسسات الدولة، وعندما تختفي الحوكمة الرشيدة أو تضعف، يمكن أن تسود أشكال الحكم التي تنتمي إلى ما قبل تشكّل الدولة الحديثة، أو ما يُعرف في هذه الحال بنظام حكم “شبه الدولة”[3].
تُظهر هذه النظريات والتعريفات أن بين الطائفية والحوكمة الرشيدة، علاقةً عكسيةً في معظم الحالات، حيث إن الحوكمة السيئة تستطيع بسهولة أن تشعل الطائفية، خصوصًا عندما تفشل مؤسسات الدولة في النظام الديمقراطي في تنفيذ مسؤولياتها. في الواقع، تمَّ التأكد، من خلال اختبارات واسعة، أن الحوكمة الرشيدة تتيسر من خلال هوية وطنية عامة ومشتركة ضمن الدولة، لتحقيق التماسك في الهياكل الاجتماعية، وحين تطغى الحوكمة السيئة، تظهر الطائفية بقوةٍ داخل هياكل المجتمعات، معيدة عقارب الساعة للوراء، ودافعة المجتمع إلى علاقات وروابط ما قبل الوطنية. أي أن الحوكمة السيئة تؤدي إلى تفسخ الروابط الوطنية، ومن ثم قد تؤدي إلى العداء تجاه “الآخر”، ثم إلى صعود الطائفية. وبالمقابل، فمن المرجح أن تؤدي الطائفية إلى اضطرابات سياسية، تقود حتمًا إلى ممارسات حكم فاسدة على مستوى الدولة. وفي الواقع، أصبح العراق، بعد عام 2003، نموذجًا مثاليًا لهذه الحالة الرجعية بين فساد الحكم وانتشار الطائفية.
ومن المهم أن نوضح أيضًا أن التنوع الديني ضمن الدولة يمكن أن يمثل تحديًا للحوكمة الرشيدة، ولكنه لا يؤدي بالضرورة إلى فشل أو إعاقة تطبيق الحوكمة الرشيدة نفسها، مع أنه يُعدّ تحديًا لها في الوقت نفسه. وفي الواقع، أظهرت مجموعة من الدراسات الحديثة أن التنوع الديني في البلد ربّما يقلل من فرص الممارسات الديمقراطية بنسبة 8.4 في المئة فقط، وذلك في حالة استثناء التركيز على طبيعة النظام نفسه ونوع الممارسات المرتبطة به. ففي كثير من الحالات، تصبح طبيعة النظام الحاكم وتكتيكاته سببًا في زيادة أو تأجيج الطائفية في الدولة.
في الحالة السورية، وفي ما يتعلق بالعلاقة الجدلية بين الطائفية والحوكمة الرشيدة، يمكننا اعتبار أن الدولة السورية قد مرت بثلاث مراحل متميزة في تاريخها الحديث: في المرحلة الأولى التي تمتد بين عام 1946 إلى 1963، كانت الحوكمة ضعيفة، وصاحبَتها نزعة طائفية ضعيفة؛ وفي المرحلة الثانية التي تمتد من عام 1963 إلى عام 2010، مرّت البلاد بمرحلة تتميز بحوكمة ضعيفة ترتبط تمامًا بالاستبداد الذي لعبت فيه الطائفية دورًا، تدرجت فيه لاحقًا حتى أصبحت الطائفية في المراحل المتقدمة تلعب دورًا جوهريًا ومفصليًا، وهذا كان ملاحظًا في الحقبة الثالثة التي تمتد من عام 2011 إلى وقتنا الحالي، حيث شهدت هذه المرحلة ضعفًا شديدًا في دور الحوكمة الرشيدة، مترافقًا مع دور قوي للطائفية.
أدى استقلال سورية عن فرنسا في عام 1946 إلى نشوء دولة في سورية ذات مؤسسات ديمقراطية محدودة، إذ واجهت سورية -كدولة ناشئة- عقبات عدة في تأسيس الديمقراطية الخاصة بها. وكانت التوترات والصراعات الاجتماعية شديدة في تلك الحقبة، وقد نشأت هذه التوترات بسبب شعور عميق بين السكان السوريين بانعدام الأمن بينهم، نتيجة عدم المساواة الاقتصادية، والتدخل العسكري في الحياة السياسية على نحو صارخ. وقد قاد ذلك إلى عدم استقرار الدولة السورية. ومن هنا؛ يمكننا القول إن الدولة الوليدة كانت -في نظر كثير من السوريين- دولةً وهميةً وغير حقيقية ضمن حدودها الجغرافية، ونتيجة لذلك انتشرت تيارات مختلفة بين السوريين، تنوعت بين القومية العربية والإسلامية والاشتراكية والقومية السورية وغيرها. وفي ظل دولة غير مستقرة كهذي؛ أصبح تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أمرًا شائعًا ومرافقًا لضعف مؤسسات الدولة وممارساتها، وفي هذه الأجواء، ازداد الانتماء إلى المجتمعات ما قبل الوطنية، وكان هذا واضحًا في حالة المجتمعات العَلوية والدرزية بشكل خاص. وقد أعاد العديد من الباحثين هذه الإخفاقات في تطبيق ممارسات الدولة، إلى التأثير الفرنسي، حتى بعد الاستقلال في عام 1946، حيث شجعت فرنسا على الانقسام الطائفي والحكم الذاتي للمناطق، كما في لبنان وسورية. وفي الخمسينيات من القرن الماضي، بعد سنوات من الاستقلال، لوحظ صعود جيل جديد يتبنى العروبة، كأيديولوجية علمانية قائمة على لغة مشتركة وتاريخ مشترك، ويمتد أفق هذا الجيل فوق الجغرافية السورية، ويتجاوز بأفكاره أطر الدولة الناشئة نفسها. وقد كان لانتشار التعليم وازدياد نسبته في الريف، وكذلك في المدن الكبيرة مثل حلب ودمشق، دورٌ كبيرٌ في انتشار هذا التوجه، وبناء على هذه العوامل من انتشار الثقافة والانفتاح والتحرر؛ انتشرت الأفكار الديمقراطية في المجتمع بشكل أفضل من السابق. ويربط العديد من الدارسين في مجال العلوم السياسية بين زيادة انتشار التعليم، والانفتاح السياسي، وهذا ما قاد إلى ما سمي بالعصر الذهبي للديمقراطية في سورية. فبين عامي 1954- 1958، شهدت البلاد انتخابات تنافسية، وظهر برلمان اختير ديمقراطيًا بدرجة كافية، وانتشرت حريّة الصحافة والطباعة انتشارًا جيدًا، وصعدت مجموعة من الأحزاب الجديدة إلى الساحة السياسية، مثل حزب البعث والحزب الشيوعي السوري، وقد كانت هذه الظواهر من بين أهمّ السمات الأساسية في تلك المرحلة التي ميزت الواقع السوري.
وتجدر الإشارة إلى أن الصراع الطائفي المبنيّ على أساس الصراع الطبقي، لا على أساس الصراع الطائفي النقي، كان سمة مميزة لهذه المرحلة، ففي السنوات اللاحقة حتى عام 1963، حقق حزب البعث نجاحًا كبيرًا في تجنيد العديد من السوريين تحت شعار العروبة، وشملت عملية التجنيد نسبة عالية من الطوائف، خصوصًا من الفلاحين وأبناء الطبقة الوسطى في البلاد. وقد شجعت أهداف البعث، في العروبة والاشتراكية، الفلاحين السوريين والأقلّيات، على الانضمام إلى رؤى البعث، سعيًا إلى تحقيق المساواة في المواطنة، كونهم رأوا في حزب البعث وشعاراته حزبًا عابرًا للأقليات وممثلًا حقيقيًا عن الشعب السوري بكل أطيافه.
ولكن بحلول عام 1963، بدأت حقبة جديدة ظهرت من خلالها وقائع كانت غير واضحة، إلى حد ما، فقد ظهر لاحقًا أن التمثيل العلوي أصبح تمثيلًا مهمًا في صفوف حزب البعث في سورية. ومرة أخرى أدت هشاشة المؤسسات السياسية السورية، والاختلال في التجنيد في حزب البعث، إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية المتتالية، التي انتهت بوصول حافظ الأسد في عام 1971 إلى الرئاسة. وعلى الرغم من كل هذه الأحداث، يمكن القول إن الصراع في سورية كان حتى ذلك الوقت صراعًا طبقيًا، ولم يكن صراعًا طائفيًا، وقد أدت هذه الأوضاع والصراعات الحادة بالنتيجة إلى تسييس الجيش، خاصة بعد أن أصبحت الأقليات، ولا سيّما العلويين، تهيمن على قيادة الجيش وقوات الأمن. وقادت هذه الحالة إلى مرحلةٍ من عدم الاستقرار في البلد، في الثمانينيات، إذ ظهرت شرائح من المجتمع ترفض السيطرة الكلّية للأقليات على شؤون الدولة والمجتمع، وترفض نفي رأي الأغلبية، كما كانوا يرونها، مقابل صوت الأقلية.
عمل حافظ الأسد على مأسسة حزب البعث، ليكون نسخة شعبوية تمهّد لتوريث السلطة، استخدم فيها الطائفية للسيطرة الاستبدادية على سورية. وبحسب العديد من الباحثين، فقد حكم الأسد الأب البلدَ بنظام استبدادي، يتميز بقليل من مظاهر الطائفية الواضحة على السطح، ولكن في العمق كانت تجري على المدى الطويل ممارسات طائفية لخدمة نيّات حافظ الأسد في سيطرة العائلة على السلطة، وفي كثير من المناسبات كان هذا يتم على حساب المجتمع العلوي نفسه، وزج هذا المكون في مواجهة مع الأغلبية السنية في بلد متعدد الطوائف. وقد كانت سياسة حافظ تعتمد على الترويج لنظامه على أنه نظام علماني، يقوم بإصلاحات اجتماعية، إلا أن حقيقة الأمر كانت أن طبقة خاصة من العلويين كانوا هم الذين يهيمنون على مراكز القوى في هذه الدولة.
إن التحليل المنطقي يشير إلى أن المزج بين هذه الممارسات بوضوح قد تمّ بسبب ضعف دور الحوكمة الرشيدة، حيث كانت المؤسسات ضعيفة، معززة بانتشار الفساد وانعدام الشفافية في مؤسسات الحكم، وقد أدى هذا إلى انعدام العدالة على صعيد الأفراد والمؤسسات، وبذلك أصبحت ممانعةُ هذه المؤسسات والأفراد ومقاومتها لأشكال الحكم الأسدي، هشةً وضعيفةً، ثم أصبحت شبه معدومة وأدت إلى السيطرة الكاملة على هذه المؤسسات، من قاعدتها إلى هرمها، من قبل نظام الحكم نفسه.
لقد كانت استراتيجية النظام تسعى إلى تمكين شخصيات عابرة للطوائف، يمكن الاعتماد عليها في قوات الأمن والجيش، وفي الوقت نفسه تم إقحام الشركات الاقتصادية السنية إلى دائرة النظام، من خلال ربط مصالحها الاقتصادية بالجيش ومؤسسات النظام الأخرى. ولتجنب ظهور صورة طائفية واضحة، نفذ الأسد استراتيجية مميزة، تضمن تمثيل كل الجماعات الطائفية في المكتب السياسي للحزب وفي مجلس الوزراء، ولكن القوة الفعلية كانت في يد تابعيه فقط. وبذلك الزخم كان النظام يهدف إلى مبادلة الولاءات السياسية بالفوائد والمزايا، بصرف النظر عن الانتماء الطائفي، إلى حد ما، بما يتناسب مع مصالحه في الحفاظ على سدة الحكم بيد العائلة الأسدية نفسها؛ ولتعزيز شعبيته وتخدير الشعب وصرف نظره عن آليات الحكم الرشيد ومطالبه العادلة، عمد النظام إلى مجموعة من السياسات لقبول التأييد العام، ومنها: إتاحة التعليم العالي المجاني والوظائف الحكومية للطبقة المتوسطة بأجر مقبول؛ توفير الأمن الوظيفي للعمال الصناعيين؛ توزيع الأرض للفلاحين؛ الغذاء المدعوم للجماهير الحضرية؛ والتنقل التصاعدي الكبير لسكان الريف من مختلف الطوائف. وقد أدت هذه السياسات والاستراتيجيات إلى نجاح النظام، نسبيًا، على المستوى الداخلي، كما استطاع تحقيق نجاحات متوازية على الصعيد الخارجي والقومي، فقد روّج نفسه بنجاح كبير، كحزب قومي عربي يقف ضد الإمبريالية والصهيونية.
غير أن هذه الممارسات التكتيكية للنظام شهدت مرحلة جديدة، اتسمت بزيادة اعتماده على الروابط الطائفية، ويظهر ذلك جليًا مع اندلاع حركة “الإخوان المسلمين” في الثمانينيات، حيث نجح فيها النظام في إظهار الحركة السنّية بأنها تمثل تهديدًا على الأقليّات السورية، وأنها وضعت الثراء الاثني والنسيج الديني السوري في خطر، ولقد كان لهذه الدعاية مفعول كبير على استطاعة النظام تجييش الأقليات في المجتمع السوري لجانبه، وخصوصًا أتباع الطائفة العلوية. ومع هذا كله فقد حافظ النظام على نوع من الروابط الطائفية العابرة بين مختلف أطياف المجتمع، سهلت عليه عملية خلق الانقسام في العلاقة بين جميع المستويات المختلفة للطبقات السورية، ولا سيما الطبقات الريفية/ الحضرية، بغض النظر عن انتمائها الطائفي.
وبسبب الانخفاض في الموارد، وخاصة من النفط، خلال فترة حكم بشار الأسد، ظهرت سياسة جديدة لتحرير الاقتصاد، بهدف الحفاظ على الديمومة الاقتصادية للنظام وضخ أموال كافية لإدارة مختلف عملياته، وقد تم هذا من أجل الحفاظ على شمولية النظام الشعبوية التي سعى لبنائها على مدى العقود المنصرمة. إلا أن سياسات بشار المغايرة في بعض أجزائها، عن سياسات أبيه، دفعت المجتمع إلى نزعات طائفية – عائلية أكثر وضوحًا، للأسباب التالية[4]: 1- إن اعتزام بشار تركيز السلطة في يديه بشكل أساسي قد دفع زمرة أبيه السنية خارج المشهد السياسي في سورية. وقد عدّ كثير من السوريين هذه المحاولات بمنزلة تطهيرٍ لمنزل الحكم من القطاع السني. 2- إن تدفق الاستثمارات العربية وغيرها من الاستثمارات الداخلية قد انتهى دائمًا إلى أيدي عائلة الأسد وأقاربه، هذه السياسات تخلت عن التاريخ الطويل السابق لرجال الأعمال السنّة، في تقاسم أجزاء معينة من السلطة والحصول على المزايا الاقتصادية من خلال التعامل مع النظام. وقد تسبب هذا في زيادة الانقسام بين العلويين من جهة، والشرائح السنية المتضررة من هذا النهج لبشار الأسد في المجتمع السوري من جهة ثانية. 3- تدني حالة الرفاهية، وانخفاض أسعار منتجات الفلاحين، ووقف المساعدات الغذائية وتخفيف دعم الدولة للوقود، وتوقف تقديم الإعانات للمحتاجين والمتضررين، وموجة الجفاف الشديدة التي ضربت البلاد خلال السنوات العشر الأولى لحكم الأسد الابن، كل هذه العوامل أوصلت رسالة واضحة إلى أطياف الشعب: أن انخفاض دعم النظام لقطاعات كبيرة من الفلاحين وشرائح الطبقة الدنيا للمجتمع، أصبح سياسة عامة ونهجًا جديدًا للنظام الحالي. وبالتزامن مع هذا الشعور، فقد خلقت هذه السياسات شعورًا عامًا آخر، بأن النظام يميل إلى السياسات الطائفية، وذلك من خلال تركيز الامتيازات بيد القلة القليلة، وخضوع الدولة كلّها إلى سلطة الأسرة. وقد ترافقت هذه السياسات مع قرارات من النظام بمنع العمل السياسي للأحزاب المعارضة، ومن ضمنها التيار الإسلامي الحركي، بعد وعوده بانفتاح وانفراج سياسي وديمقراطي. وقد كان هناك شعور عام بالإحباط، بالنسبة إلى كثيرين، من مجموعة القرارات والسياسات المذكورة آنفًا، وكان ذلك كالحطب لانتفاضة عام 2011.
حلّ العام 2011 مؤرخًا لمرحلة جديدة وفاصلة في تاريخ يتعلق بجدلية الحوكمة والطائفية في سورية. في الحقيقة يمكننا القول إن هناك جدلية واسعة، مفادها أن الانتفاضة السورية في عام 2011 لم تكن ذات طبيعة طائفية منذ البداية، على الرغم من أنها مالت إلى مزيد من الصراع الطائفي في مراحل لاحقة، وإن التفاوتات الطبقية الناتجة والناجمة عن الابتعاد عن الشعبوية إلى الرأسمالية المتوحشة تُعدّ، لدى كثير من الباحثين، أحد الأسباب الرئيسة لانتفاضة 2011. ومن المهم أن نذكر بأن بداية الانتفاضة السلمية شهدت انخراطًا من الفئات المتعلمة الريفية ذات خلفيات طائفية متنوعة، رافقه مطالب من الطوائف المتعددة تدعو إلى قيام دولة مدنية ديمقراطية ضد نظام شمولي. وفي هذا دليل قوي على حالة الاستياء العامة، لدى مختلف الأطياف عمومًا، من فشل مؤسسات الدولة والنظام في القيام بواجباته الحقيقية تجاه الشعب السوري أجمع. ولكن من ناحية أخرى، كان استخدام النظام للجيش وقوات الأمن، التي يسيطر عليها قيادات علوية منتفعة في السلطة، وإطلاق الرصاص الحي ضد الانتفاضة، عاملًا مهمّا في اتخاذ الحراك الشعبي جانبًا حديًا ضد ما أصبح ينظر إليه بوضوح كنظام طائفي متجذر للنظام.
كشفت الثورة السورية ظاهرة جديدة للنظام تميّز هذه المرحلة، وهي ضعف الحكم ممزوجًا بالممارسات الطائفية الوحشية الفجة التي اعتمدها في التعامل مع معارضيه. وعلى الرغم من أن بعض الجنرالات العلويين لم يوافقوا على استخدام الجيش أو القوة ضد المواطنين، مثل قائد الأركان العلوي، اللواء علي حبيب، إلا أن القيادات المتشددة التي كان معظمها من العلويين، مثل شقيق الرئيس ماهر الأسد وبعض الجنرالات العلويين الآخرين، دفعت باتجاه العنف والتصعيد، وتمّ لاحقًا بمنهجية إعفاء وتهميش غالبية من عارضوا استخدام العنف المسلح ضد المحتجين. وقد يُنظر إلى هذا أيضًا على أنه ظاهرة مثيرة جدًا للاهتمام، مقارنة بأنظمة حكم دكتاتورية أخرى، حيث استخدم نظام الأسد الحاكم عناصر متشددة من الطائفة العلوية، وربط مصير هذه الطائفة ببقاء النظام ككل، كأداة لتعزيز أهدافه المتمثلة في سيطرة الأسرة وسلطتها والحفاظ عليها، مهما كلف الثمن. من ناحية أخرى، مثلت صلاة الجمعة رمزًا مهمًا للمظالم الطائفية والاجتماعية والسياسية ضد النظام الحالي، ويمثل الوصف الأولي الذي أعطاه النظام للمتظاهرين بأنهم “جهاديون وإرهابيون”، إضافة إلى دعم الميليشيات الشيعية الإقليمية لنظام بشار، نموذجًا آخر للطبيعة الطائفية الخاصة للنظام وردّة فعل الشعب عليها. وخلال السنوات الخمس الأولى من عمر الثورة، أصبح نظام الأسد يربط مصيره داخليًا بمصير طائفته العلوية وبقائها، وخارجيًا بمصير مشروع طائفي إقليمي عابر للحدود. ومع ذلك، فإن هذا النوع من طائفية الأسد ظل يحاول أن يُظهر جانبًا علمانيًا وقوميًا وشعبيًا، ويُخفي جانبًا طائفيًا عميقًا لخدمة بقاء النظام الذي أصبح يرتكز على الأسرة كهدف أخير.
سورية هي واحدة من البلدان الفريدة لموطن جماعات عرقية ودينية متنوعة. ومع ذلك، شهد تاريخُها الحديث ثلاث مراحل مميزة، من حيث العلاقة بين الحكم والطائفية. لعب فيها حزب البعث الذي كان يسيطر عليه نظام الأسد، (الأب والابن) دورًا رئيسًا في جعل مؤسسات الدولة ضعيفةً وهشة، من خلال اللعب على التصدعات الطائفية، وتعزيز قبضة النظام على السلطة والسيطرة على الدولة. وقد كشفت ثورة عام 2011 عن توترات طائفية دفينة، خلقها استخدام النظام سياسات البقاء والوجود على حساب جميع الطوائف من دون استثناء، وذلك من خلال ربط مصير الطوائف بمصير النظام، وكان اللعب على حبال الطائفية يتمّ، في كثير من الأحيان، بإتقان ومنهجية، حيث كان النظام يزيد النّعرة الطائفية، أو يقللها، أو يخمدها، في البلد بحسب دواعي المرحلة، بما يخدم بقاءه ومصالحه. وبذلك كانت العلاقة العكسية، بين الطائفية والحوكمة الرشيدة في سورية، تقوى أو تضعف، بحسب رغبة النظام الذي يتحكم فيها، بهدف سيطرة عائلة الأسد وبقائها في سدة الحكم، ولو على أنقاض مجتمع “غير متجانس” وتعفّن مؤسسات الدولة وموتها.