أُغنية ثانية لباب توما
خاص ألف
2020-06-06
(1)
حلوة عيونُ الحالمينَ في باب توما
حلوة حلوة
أولئكَ الذينَ شيّدوا أزقّةً حجريّةً
بالحِمَمِ والأظافرِ والرُّموز
مظلّاتُهم على السٌّطوح ترنو إلى الله
ووعودُهُم تُكوِّرُ الجهاتِ بلا ارتيابٍ
يعزفونَ اللّحنَ مرَّةً واحدة
ويُخلِّدهُ على الجدرانِ
رجُلٌ بخّاخٌ من مجدِ الأسرار الغابرة.
...
تولدُ الكلماتُ من حنينِ كَمَانٍ طَموح
وتعرفُ الدُّروبُ على أيّةِ جهةٍ في القلبِ تميلُ
عشرونَ عاماً، وأنا أُقبِّلُ بابَ توما
أُراقِبُ كطفلٍ مدهوشٍ كيفَ تُوقِعُ بوّابةٌ مُعتِمةٌ
الحَمَامَ في غَرامِها
وكيفَ تنتقِمُ مشربيَّةٌ مُزركشةٌ
من غزاةٍ يُكرِّرونَ الغوايةَ نفسَها.
...
عشرونَ عاماً، وتسعةُ مصابيحَ ثوريّة:
وأنا أُعيدُ صياغةَ المُعجزة
تنخفِضُ سماءُ الحريق قليلاً
تحطُّ غيمةً غيمةً في صحون البيوت العربية
تستنشقُ ما تستطيعُ من الياسمين
وما لا تستطيعُ
تُحرِّرُهُ عَرَاضَةٌ شاميّةٌ
تيهاً على شُرفات المَجاز.
(2)
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط
في ساحة باب توما صوَّرتُكِ
كنتِ دُرَّةَ قوسِ الفرادة
كُلَّما تقدَّمَ نهداكِ خُطوةً
دوَّرتُ سوقَ مدحت باشا
على سور الشّام القديم
حدّاً بلا حدٍّ يألفُهُ الجنونُ
مثلما يخطُّ بردى الذَّهبيُّ الفقيرُ
خصراً مُشترَكاً
لباب توما والقصّاع.
...
كنتُ شاعراً أكثَر ممّا يسمحُ بهِ الخرابُ
مشيتُ أهجسُ بالبِنى والبناء
الرُّؤى تستدرجُ اختراقاً مريراً
وأنا لم أقسِ المواعيدَ على خُمولٍ مُهترىء
لا يتلو الدَّليلُ السِّياحيُّ الجَمالَ من كتابٍ
هيَ حروفٌ مُتحفِّزة كالنَّراجيلِ
تُدغدِغُ رحمَ الحفريّاتِ تحتَ بيتٍ عتيقٍ يتداعى
وتقطفُ ثمارَ التُّوتِ الأحمَرِ فوقَ بِركَةٍ تُجوِّدُ القرآنَ.
...
من مقهى النَّوفرة
إلى قلعة دمشق
صافحَ المسكُ
أهدابَ المكتبة الظّاهريّة
قبَّلَ سوقُ الحميديّة
قصرَ العظم
وارتمى إيوانٌ بكاملِ أُصُصِهِ
في أحضانِ خان أسعد باشا.
...
تدلَّلي يا امرأةً
كغزالةٍ تتبخترُ بينَ الأواني الفضِّيّة
علِّقي الأزياءَ الشَّعبيَّةَ
على مشجبِ الفُلِّ والحِنّة
وعمِّدي بالطِّيبِ السِّحريِّ
أعشابَ البزوريّة.
...
تدلَّلي ودلِّلي شعوبَكِ المُهاجِرة تحتَ الجلد
لكِ في فضاء الأرابيسك مدىً يورقُ بالمقامات الشَّرقيّة
ولنا بينَ خصلاتكِ الطّائرة فرعٌ جديدٌ من نهرِ بردى.
(3)
_ هذهِ ليستْ نزهةُ مديحٍ للشّام
التَّفكيكُ إنذارٌ غنائيٌّ يتواصلُ بالنّارِ
والنِّداءُ طوّافاتُ عُبورٍ بلا وجلٍ.
...
هُنا سبعةُ مدنٍ تُذيبُ الموسوعاتِ
في كؤوسِ التَّمر هندي
هُنا العطرُ مُجنَّدٌ تحتَ إمرةِ الغواية
لا شيءَ يُفلِتُ من تعاويذِ الفيضِ
ولا شيءَ يُتقنُ الكنايات
كالبَخورِ الهائِمِ
عليلاً
بينَ
القناديل.
...
هُنا فنونُ الأنوثةِ مكشوفةً لقمر الدّين
هُنا ما يُكوِّرُ الوركَ العريقَ في حمّامٍ شرقيّ
استعصى على حيازةِ المخطوطات
وهُنا اختصارُ البديهيّات بانسيابِ الحريرِ سرداً وخُطى
البدائلُ لا تكونُ بلا جرائمَ جَماليّة تنبسطُ سجّاداتٍ سجّادات
والفخاخُ أنْ يقذفنا المُقدَّسُ في عطلةٍ كونيَّةٍ دائمة
الولاداتُ وهجٌ فسيحٌ كبُستان هشام
وأوجُ الحياةِ والموتِ
لثمُ أندلسٍ فوقَ ظَهر الغياب.
...
هُنا..
ما لم يتغيَّر في العالَم
وما تغيَّرَ
الغموضُ يلفُّ الأنفاسَ
والياقةُ مُتردِّدةٌ
السَّلالمُ أكثَرُ من عزلاء
والقناطرُ مُوغِلةٌ في الوحشة
الأحجارُ مُهمَلةٌ
والرَّوائحُ دمارُ الأجوبةِ دفعةً واحدة
هَوادِجُ الإناثِ يَعبرنَ
وفي أيديهنَّ الجوّالاتُ الحديثة
الإناثُ الأجمَلُ في التّاريخ
وأنا الغريبُ
كالنَّسائمِ المُتهادية على أكتاف المنازل
أبحثُ عن سُرَّةٍ تلمُّ ما يتسرَّبُ من روحي
أبحثُ عن عينين تائهتين تغادران المقهى برفقتي للتَّوّ
وعن أنامِلَ أرضعُها، وأنسى الأحلامَ العظيمة:
المرأةُ الدِّمشقيَّةُ في هذهِ الجحيم العاطفيّة الحارّة
هي حتماً مُستقبَلُ الرَّجُل.
(4)
يا أثينا الجميلة الخضراء
هذه ليستْ نزهةُ مديحٍ للشّام
خالتُكِ باكيةٌ في حفرةٍ ملساء الحوافّ
تجلسُ القرفصاء في القاع الزَّمنيّ المَسنون
وتُدخِّنُ ساهِمَةً كقطرةِ ماءٍ تجفّ.
...
يُحدِّثُها بولس الرّسول
عن إنجيلٍ هاجَرَ عارياً من أورشليم
وارتدى الرّيحَ رُؤيا
بينَ أصابعِ كنيسة حنانيا.
...
يُحدِّثُها الوليدُ بن عبد الملك
عن جامعٍ تتمايَلُ مآذنه
كُلَّما تمايَلَ النَّسيمُ الأعلى
مع زهور عبّاد الشَّمس.
...
جدَّتُكِ يا روما ثكلى
تتسكَّعُ بينَ قصيدةٍ للأخطل التَّغلبيّ
ومخطوطٍ لابن عساكرَ
وتقطعُ مَسارِبَ عبَرَتْها
خيولُ خالد بن الوليد
كي تُحيِي الذَّريعةَ الوارفة
لمجيءِ الضَّوءِ مُجنَّحاً.
...
جميعُهُم مرّوا
وأنتِ ما زلتِ تجلسينَ القرفصاء
وتدخنينَ ساهِمَةً في مَطالعِ الأزمنة
تتجاذبينَ أطرافَ الحديثِ الدّمويِّ
مع خناجرَ تتوارى خلفَ الظُّهورِ
مُنتظرةً قدومَهُم صاغرينَ كالعادة
يشهدُ شارعُ النَّصر بكامل ازدحامه
وقطارُ الزَّبداني يُؤكِّدُ الأمرَ
وترعدُ المسافةُ الغرائبيّة
بينَ قبرَيْ صلاح الدين وابن عربيّ.
(5)
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط:
عودي إلينا أيَّتها السَّجينةُ
غُرفتُكِ العُلويَّةُ مرَّتْ عليها آلافُ الحملاتِ
ومازالتِ الوسائدُ تُنتِجُ الحبَّ والمغفرة
ومازالَ بابُ كيسان يداعبُ حارةَ الزَّيتون
والفجوةُ العسليّة بينَ ساحة المسكيّة وباب توما تزدحمُ بالعشّاقِ والطّائفينَ.
...
عودي إلينا أيَّتُها المرجومةُ
يا حبيبتي النَّحيلة البعيدة في قبضتي
هل دفعتِ أُجرة هذا الشَّهر دماً؟
ليتني إذن وردةٌ جوريّةٌ على طرف حديقة القشلة
يقطفُني شاعرٌ كئيبٌ، ويُهديني لرسّامٍ في باب شرقيّ
تزحفُ الجيوشُ والضَّوضاءُ الكسولةُ
ومن أسفلِ ثدي الأُمّ
تسيلُ ترنيمةُ طفلٍ على أرجوحةِ أرض الدِّيار.
...
ليتني سائحٌ سطحيٌّ هُنا
ألتقطُ الصُّوَرَ
وأقولُ للعابرين: Hello
وأمضي
دونَ أنْ أعرفَ شيئاً عن الخلود والأشواق
عن الجوع والمرض والشَّوارع الدّامسة
عن أرشيف التَّراحُم المرير
وشبابيك التَّمنِّي الأخضر.
...
كنتُ شاعراً أكثَر ممّا يسمحُ بهِ الخرابُ
الشَّمسُ تتأرجحُ فوقَ باب توما
على صليبِ أُنثى مُرصَّعٍ بالأُعطيات
اللهُ لا يغادرُ حانةَ الخشب الأحمر
إلاّ وقد أصلَحَ الأطيافَ بينَ حبيبيْن
الصَّفصافةُ مازالتْ هزيلةً بساقٍ مُتورِّمة
والعذراءُ مازالتْ تقلي السَّمكَ لحبيبها العائد من المقهى
وأنا _ بحربٍ أو بلا حرب _ ما زلتُ وحيداً
أُنظِّفُ كُلَّ صباحٍ أجراسَ الكنائسِ في قلبي
وأبتهلُ إلى المجهولِ أنْ تنتهيَ بروتوكولات الحبّ الكاذبة
فلتمضي الكنيسةُ المريَميّة في طريقها
ولتمضي مئذنةُ الشَّحمِ في طريقها
يكفي أنْ نجدَ المصلَ الشّافيَ لصعودِ الغيمةِ فوق جبل قاسيون
ولو في أقدمِ دكّان أنتيكا.
(6)
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط
وهوى الشّام محسوبٌ على خَيال
تبدأُ الحكاياتُ من محطّة الحجاز
من رسومِ المهندس فرناندو دي أرنادو
ورقصةِ الطِّراز الإسلاميّ مع الطِّراز الأوروبّيّ
تبدأُ الحكاياتُ من مبنى وزارة السِّياحة
وانقلابِ العُيون على القوالب
والبحثِ عن المجد الأزرق في الشَّرق
فكَّرتُ بهذا
وكان الشَّحّاذونَ يمدّونَ حفلةَ الآنِ بالحُفر
والمُشرَّدونَ كانوا أصابعَ نصف مطويّة على ظلِّ مدينةٍ مكسور
ضحكَ الجمعُ الغفيرُ، وقهقهه قفصٌ
ها هُم (يُفيِّشونَ) البطاقات الشَّخصيّة على حواجز السَّراب
النَّوافذُ لاذتْ بفراغها كارهةً حُطام القلوب
والثُّريّا خفتَتْ قليلاً لتُموِّهَ الموقفَ
فيمرُّ الوقتُ أسمرَ عجولاً
ويتلاشى الظَّنُّ المريبُ
كالخمر المُتبخِّرِ من كؤوسٍ لم نشربْها بعدُ.
...
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط
أشهرتُ إفلاسي
فصرتُ الأغنى في ساحة يوسف العظمة
_ ماذا علَّمتكَ الحربُ؟
_ علَّمتني أن أكونَ الأرقَّ في شارع العابد
وها هيَ ذي دمعتي تُرحّب بالأسئلة
تسعُ سنواتٍ، وباعةُ الكتب لم يغادروا أرصفة الحلبوني
الرَّغباتُ نايٌ يبحثُ عن عودٍ
والصَّوتُ يُؤاخي في الظَّلام صوتاً
هذي البيوتُ في الميسات ارتباكُ التّاريخ
أمامَ الأسماءِ المُموَّهة
أخيلةٌ واسعة كبذَّة العيد
تتركُ لنا الألمَ في قبوِ المرجة كما يختبئُ ماءُ بردى تحتها
لا لن أكونَ دمشقياً بعد الآن
إلا بالتَّناقضِ والتَّضادِّ
حانَ الوقتُ للصُّراخِ خيولُ يُوتوبيا خلفَ خيولِ يُوتوبيا
حان الوقت لتلوين سُترة التَّمرُّد بالمُحال:
في شارع الباكستان
حتّى الباطونُ مُرهقٌ
من ثقلِ فراشةِ التَّغيير.
(7)
_ هذي ليستْ نزهةُ مديحٍ للشّام
التَّفكيكُ إنذارٌ غنائيٌّ يتواصلُ بالنّارِ
والنِّداءُ طوّافاتُ عُبورٍ بلا وجلٍ.
...
أنتظركِ..
كأنّكِ كلّ صبايا شارع الحمراء.. كأنّكِ كلّ القصائد التي كُتِبتْ وقُرِأتْ في مقهى الرّوضة.. كأنّكِ نحلةٌ تهاجرُ مرّتين في اليوم من حديقة السّبكي إلى حديقة المدفع. أُخطِّطُ لشهوةٍ ساحرة من المزّة إلى ساحة الأمويّين، ومن جسر فكتوريا إلى السّبع بحرات: هكذا؛ كأنَّني حافلةُ الورد تحفظُ معالمكِ.. يا حبيبتي التي قبَّلتْني كأنّها مئذنةُ العروس.
...
أنتِ بائعُ الصّبار في ساحة الرّوضة. أنتِ مغناج محلاّت الصّالحيّة، وربّاتُ البُيوت المُنتشرات كالقُبلات في سوق الشّعلان. أنتِ الجواسيس وكُتّاب التقارير في مقهى الهافانا، والمُتسوِّلاتُ حبّاً يتسكّعنَ تحت جسر الثّورة. أنتِ ساحةُ يوسف العظمة تُصبِّحُ على تمثال المالكيّ، وحيُّ أبو رمّانة يحنّ إلى شارع بغداد. أنتِ مكتباتُ البرامكة نسيتُ فيها كتاباً بلا غلاف، ومسرحُ الحمراء يغفو في حزن البرلمان. أنتِ واجهةُ قصر الحير الشَّرقيّ تمشي على قدميها من حديقة المتحف الوطنيّ إلى المُهاجرين، والتَّكيّة السُّليمانيّة تهبط من الجسر الأبيض لتُبايع الولَهَ الهائمَ بين حديقة التِّجارة وحيّ القصور.
(8)
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط
وأنا شاعرٌ أكثَر ممّا يسمحُ به الخرابُ
نازلاً في سرفيس الكراجات
من ساحة ذي قار إلى الجامعة
غيومُ الشِّتاء تحتشدُ فوقَ دمشق
والبردُ لسعةُ اشتياقٍ
على ريشةِ ذكرى.
...
من نافذة وزارة التَّعليم العالي اختَطَفني كلّ ما يمنحُني غرابةً. أينَ أنتَ أيّها الحبّ المُضرَّج بثورةٍ وحروب؟ لا تقُلْ لي لكَ حبيبةٌ في ساحة النَّجمة، وفي ساحة عرنوس لكَ نُدامى. لا تتلاعبْ بالاستعاراتِ الحُرّة بينَ مطاعم الميدان وخرافات ساروجة. أُفكِّكُ دمشقَ لأنَّني ساعي بريد الإنذارات: الهدمُ الآن للبناء كما العتابا والميجانا للفراديس.
...
أتلبَّسُ عباءةَ التُّقاة وأحجّ بين باب مصلّى وحيّ العسالي. أدخلُ موجات الآذان في الشاّغور، وأكونُ شاعراً أكثَر ممّا يسمحُ به الخرابُ، وأهجو الشّام كقبضة باب نحاسيّة في باب سريجة: ينبغي أنْ نعيدَ ترتيبَ المفرداتِ في مُعجم الماضي، وأنْ نهزَّ سريرَ الغيوم في كفرسوسة، ونلاعبَ صيفاً في الدّويلعة، مُنتظرينَ ربيعاً آخَر: مِنْ بُرعمٍ يتيمٍ في الغوطة يُبنَى برجٌ مختلفٌ في هذه الأحجية.
(9)
مطرُ الشّام اليوم
المطرُ
المُنمَّقُ
الخجولُ
الشّاهقُ الجميلُ الحنونُ
ذكَّرني بالزّوابعِ التي تضربُ الرّحيقَ لحظةَ صُعودِهِ
فتشفي.
...
لم تكُنْ نزهةً للمديح، والرُّمّانة ستنفرط حبّاتُها: اربطي شَعركِ بورود الرّبوة، وكوني مُغويةً أكثر من دمّر. هذا النَّهارُ سلّةُ الآلامِ الجريئة وبيتُ اليعسوب الضّائع في الهوى. شاعرٌ وحربٌ وخرابٌ ومنجمٌ ثوريٌّ وزاهرةٌ وقزّازٌ وجوبر. على مسرح المعرض القديم تقمَّصْتُ "رقصةَ ستّي". كنتُ كمشاتلِ العدويِّ أستحضرُ روايات شغفٍ مُستحيلة: لنْ أمدحَ ما ينبغي أنْ يُصفَعَ، وأنْ يُنادى: إنَّهُ وقتُ الاستيقاظ.
...
في تُرابكِ يا حديقةَ الجاحظِ تُخبِّئينَ هُتافاتِ المُتظاهرين، وهذا موعدٌ آخَر مع برزة والقابون وركن الدّين. للجزماتيّة والمُجتهد وعين الكرش ما يتناثر كرذاذ الأغاني. المزرعةُ من جهةٍ، وساحةُ العباسيّين من جهةٍ، وأنا أُغيِّرُ اسمَ باب الجابية، وأطلبُ من باعةِ الكتبِ تحتَ جسر الرَّئيس تفويضاً من الغار الحنطيّ لـِ: انزياح دمشق.
(10)
كنتُ شاعراً أكثَر ممّا يسمحُ به الخرابُ
عابرَ سبيلٍ مكتظٍّ بالعابرينَ في ساحة السّبع بحرات
أموتُ إذا ماتَ "الرَّبيعُ العربيّ"
واستيقظَ الصَّدأُ فوقَ المسافات
الحنينُ عطرُ المُؤلمِ
أو المُدوَّرُ الآتي كمتاهةٍ
أمام نافذةِ الهلال الأحمر
يحتشدُ النّازحونَ كفوانيس مُطفأة
ومن خلفِ النَّجماتِ المُضرِبَةِ عن الطّعام
مضاربُ خيام اللاّجئين تومضُ سلالاً من سلاسلَ
يا شاحنةَ الرحيلِ المعقوف
كلّ الأرصفةِ سَفَرٌ في مفردات مقهى الكمال
بمجرّد أنْ أغويتُ امرأةً على طرف المُتحلِّقِ الجنوبيّ
صرتُ آخَري الذي فَنِيَ بولادتِهِ
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط.
...
لنْ أكونَ هُنا
لأنِّي لنْ أكونَ
ولنْ أكونَ هُناكَ
لا لنْ أكونَ
لا أبقى ولا أسافرُ
أتقلَّبُ كالمحمومِ على إيقاع المطارق المعدنيّة لأبواب الشّام القديمة
يُقلِقني شارع 29 أيّار:
_ ها قد صارَ النَّزفُ دمشقيّاً!
فأُقلِقُ النَّسيمَ:
_ الهُوِيَّةُ تُمنَحُ على نُدرة المآل.
بالتَّناسلِ أُفقيّاً
أم بالدُّموعِ عموديّاً
يأخذونَ (أتاواتٍ) في الحارات
يُغلقونَ شوارعَ لأسبابٍ أمنيّة
واليمامةُ لا تدفعُ بدَلَ خدمةِ العلَم
تريدُ أنْ تتفحَّصَ ملمسَ الصَّهيلِ الطّائشِ:
_ هل نحنُ في الفَجوةِ العذراءِ
كمثلِ زهرةٍ في الرَّقصةِ الأخيرةِ
قبلَ مُنعطفِ الشَّمس..؟!!.
...
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط
وأنا شاعرٌ أكثَر ممّا يسمحُ به الخرابُ
لمجرَّدِ أنْ نقَّبتُ عن معبد جوبيتير
رمقني الجامعُ الأمويّ بالقُبَلِ
وانتفضَ سوقُ الحميديّة كمن دغدغهُ من ظَهرِهِ
لن أمتلكَ المجدَ ولا الانتماءَ
بمجرَّدِ أنْ أُربِّتَ على كتفِ قاسيون
لم يصلِ التَّيّارُ الكهربائيُّ إلى شارعنا اليوم
والازدحامُ على الأفران يومُ قيامةٍ مقلوبٌ
خُذْ حاجزاً طيّاراً بيدكَ، وأغلقِ الأيديولوجيا في محارة الشّام
إنَّها قصيدةٌ مُغبرّة
في هذهِ الهفوةِ الوجوديّة
السَّهلُ الهضبةُ البركانُ
من الهامةِ إلى حرستا
ومن عشِّ الورور إلى داريّا
هيَ الرِّحلةُ المثقوبةُ لمعتقلٍ قضَى التَّشبيهُ تعذيباً على شفتيهِ
لا لنْ أكونَ
ولا أكونُ
لأنَّني لم أكُنْ
إلا بنّاءَ أقواسِ قزحٍ وسحاباتِ عبَقٍ غزير.
(11)
هذهِ ليستْ نزهةُ مديحٍ للشّام
مهما كنتُ شاعراً يفرطُ رمّانةَ المكان
قدَّرتُ مواعيدَ المطر
وقلتُ: ثمَّةَ خللٌ دائمٌ هاهُنا كأنَّهُ الكمالُ
وقالَ الحُلْمُ الحضاريُّ على سفوح حرمون:
_ أنا أشهدُ بجميعِ الأهازيجِ:
مدينتي تريدُ إعادةَ تأليفِ نفسِها بنفسِها
مدينةً لبداياتِ البداياتِ
في شرقٍ أسيرٍ
في موتٍ ولادة
في مُطاردةِ السِّنينِ والأغاني والنُّهود
فيما قبلَ طوابيرِ الغاز وقوائمِ الأدوية المفقودة
فيما بعدَ رقصةِ الغلاء وشكاوى التُّجار و(التَّعفيش)
/هل أتى الفيول أخيراً
مثلما فتحتِ الشّاورما السُّوريّة العالَم/
جارُنا خسر تجارتَهُ، وأغلقّ محلَّهُ
وباصُ النَّقل الدّاخليّ الأخضر
مضى إلى الشَّمالِ الحزينِ إلى غيرِ عودة
الحربُ رحبةٌ في النَّظريات الكُبرى
ومشنقةٌ في السّاحات
يا الغربُ المُراهقُ العجوزُ
خُنْتَ نفسَكَ
عندما خُنْتَ شامكَ.
...
في شاحنةِ الرَّحيلِ الدّاكن
حمَّلتُ سؤالا الزَّمانِ والمكانِ
هل أبقى
أم أنأى؟
ليتني كنتُ بلا دعائمَ حبريّة
الثَّورة شاركتني الوسادةَ تسعَ سنوات ونيّف
والحربُ نمَّقتِ اللُّغةَ بينَ الكوابيس
لا تسلني عن سعر صرف الدّولار
دوريّةُ أمنٍ كالقملِ في شَعر الحيّ
أو بينَ عقربيْ ساعةِ الشَّيطان
أو في سلسلةٍ تدلَّتْ من عُنُقِ القمرِ الذَّبّيح
المشاعرُ في بخارِ القهوة أخيِلةٌ
العائلاتُ في مُباغتةِ الكتابات بنزهةٍ لفظيّة
والصوتُ بهمسةٍ تغرقُ في صحنِ التّسقية
والقُبلةُ بقِبلةٍ في حيِّ القدم
ليلُ العسلِ أم شعاعُ ما قبلَ الفجرِ
عصافيرُ فاكهةِ الصَّباحِ..
ظهيرةُ رؤوسِ الأشجارِ..
عصرُ بيتِ نظام في الأساطيرِ
فكاهاتُ العجائزِ وميلانُ الأوجاعِ في مقامِ النَّبي هابيل
في طريقِ العودةِ إلى حيثُ تفقدُ العيونُ مشاهدَها
لأنَّ ما نلمسهُ في النّارِ لا يلمسُ نفسَهُ أبداً.
...
أشهرتُ إفلاسي كي أنأى أقصى ما يكونُ
وداعاً يا شامُ
لا تُذكّريني برئاتِ النَّوافذِ عند حمّام البكري
ولا برائحةِ الأطعمةِ في القيمريّة
لا تذكّريني بالخزفيّات والأنتيكات والمُنمنمات
ولا بالفقراء عند مكتب عنبر
هذه النُّزهة المُوجعة ليستْ مديحاً للشّام
وأنا لا أُصدِّقُ سوى الألم
سأحملُ بعض قطع البرازق
قد أنثُرها على شواطئ المُحيطات
طعاماً لأسماك العار
سأرحلُ بسرعةٍ إذن
لأنَّني لا أريدُ التَّراجُعَ
أو ربَّما فاتَ الأوانُ
ولابدَّ من البقاءِ ما حييتُ
ها قد أمسكتني من يدي للتَّوّ
أجملُ مُغازلاتي القديمة في باب توما:
_ لكِ الظِّلُّ الوارفُ في شراييني
كي تكوني زهرتي المُختبئة، فأطمئنُّ..
ولي العصافيرُ العامرةُ في تلفُّتِ عينيكِ
كي ننأى بعيداً عن هذا المكان
لكنَّنا مازلنا نتسمَّرُ على أوتار وجنةٍ واحدة في دمشق
كالسَّهمِ المغروسِ في قلبٍ مرسومٍ على صفحة الهواء.
...
عودي إلينا أيَّتُها المُجنَّحةُ كالخُلود
مديحُنا لكِ هجاءٌ بحاجةٍ إلى الفرط
عودي بنقدِ الهزائمِ
سياطاً على ظَهْرِ الحضاراتِ المسعورة
وإخفاقاً دؤوباً لسلالاتِ المُحتلِّينَ
عودي بشُهُبِ المشروعِ المُبارِز
فارساً على سُطوعٍ عسليّ
بفضائلِ ابن النَّفيس
وانحرافاتِ أبي خليل القبّاني
عودي بما اختلفَ حتى تخلَّقَ
طلاقاً بائناً مع القناعات المُكوَّرةِ خُذلاناً
اقتصاصاً للأقدارِ الخائفة في رمّانةٍ بحاجةٍ إلى الجمع
وإعلاءً للمجهول محفوراً على خشبِ الثّاراتِ
حيثما يُحكِمُ الرَّفضُ زخارفَهُ المُتشعِّبةَ كالجُذور
وحيثما ينعكسُ اللهُ إرادةَ وردةٍ في زقاقٍ يتَّسع
زيغانَ وجودٍ على زجاجٍ مُعشَّق
وولعَ معماريٍّ بالأنوارِ الفالتة
في كناياتٍ شِعريَّةٍ نائية.
(12)
من سوق الخجا
حتّى المطار
مُوحلةٌ درّاجةُ الشِّعرِ، وباكيةٌ كعاشقيْنِ يفترقانِ تحتَ سورِ قلعة دمشق
أسنُدُها على حائطٍ عجوزٍ في أزقّة حنانيا
أسنُدُ حنانيا على عجلتيْها الدّائريتيْن كطاحونتَي هواء
يهمسُ الظّاهر بيبرس في قلقي:
قصائدي ستكونُ بخيرٍ
والهوى سيكونُ بخيرٍ
والشّامُ ستكونُ بخيرٍ
تجلسُ الآنَ القُرفصاء كالعادة
تُزاوِجُ الزَّنابقَ بالسَّجائرِ
تنسجُ مُعجزةً لا مثيلَ لها
وتعودُ معي راقصةً من المطار
إلى سوق الخجا
كنوتةِ أُغنيةٍ ثالثة لباب توما.
08-أيار-2021
15-أيار-2021 | |
30-كانون الثاني-2021 | |
31-تشرين الأول-2020 | |
19-أيلول-2020 | |
29-آب-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |