كأنّكِ كلّ صبايا شارع الحمراء. كأنّكِ كلّ القصائد التي كُتِبتْ وقُرِأتْ في مقهى الروضة. كأنّكِ نحلةٌ تهاجرُ مرّتين في اليوم من حديقة السبكي إلى حديقة المدفع. أُخطِّطُ لشهوةٍ ساحرة من المزّة إلى ساحة الأمويّين، ومن جسر فكتوريا إلى السبع بحرات: هكذا؛ كأنَّني حافلةُ الورد تحفظُ معالمكِ يا حبيبتي التي قبَّلتْني كأنّها مئذنةُ العروس.
...
أنتِ بائعُ الصّبار في ساحة الروضة. أنتِ مغناج محلاّت الصالحيّة، وربّاتُ البيوت المنتشرات كالقُبلات في سوق الشعلان. أنتِ الجواسيس وكُتّاب التقارير في مقهى الهافانا، والمتسوِّلاتُ حبّاً يتسكّعنَ تحت جسر الثورة. أنتِ ساحةُ يوسف العظمة تُصبِّحُ على تمثال المالكيّ، وحيُّ أبو رمّانة يحنّ إلى شارع بغداد. أنتِ مكتباتُ البرامكة نسيتُ فيها كتاباً بلا غلاف، ومسرحُ الحمراء يغفو في حزن البرلمان. أنتِ واجهةُ قصر الحير الشرقيّ تمشي على قدميها من حديقة المتحف الوطنيّ إلى المُهاجرين، والتكيّة السليمانيّة تهبط من الجسر الأبيض لتُبايع الولَهَ الهائمَ بين حديقة التجارة وحيّ القصور.
(8)
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط
وأنا شاعرٌ أكثَر ممّا يسمحُ به الخرابُ
نازلاً في سرفيس الكراجات
من ساحة ذي قار إلى الجامعة
غيومُ الشِّتاء تحتشد فوق دمشق
والبردُ لسعةُ اشتياقٍ
على ريشةِ ذكرى.
...
من نافذة وزارة التعليم العالي اختَطَفني كلّ ما يمنحُني غرابةً. أينَ أنتَ أيّها الحبّ المُضرَّج بثورةٍ وحروب؟ لا تقُلْ لي لكَ حبيبةٌ في ساحة النجمة، وفي ساحة عرنوس لكَ نُدامى. لا تتلاعبْ بالاستعاراتِ الحُرّة بينَ مطاعم الميدان وخرافات ساروجة. أُفكِّكُ دمشقَ لأنَّني ساعي بريد الإنذارات: الهدمُ الآن للبناء كما العتابا والميجانا للفراديس.
...
أتلبَّسُ عباءةَ التُّقاة وأحجّ بين باب مصلّى وحيّ العسالي. أدخلُ موجات الآذان في الشاغور، وأكونُ شاعراً أكثَر ممّا يسمحُ به الخرابُ، وأهجو الشام كقبضة باب نحاسيّة في باب سريجة: ينبغي أنْ نعيدَ ترتيبَ المفرداتِ في مُعجم الماضي، وأنْ نهزَّ سريرَ الغيوم في كفرسوسة، ونلاعبَ صيفاً في الدويلعة، مُنتظرينَ ربيعاً آخَر: مِنْ بُرعمٍ يتيمٍ في الغوطة يُبنَى برجٌ مختلفٌ في هذه الأحجية.
(9)
مطرُ الشام اليوم
المطرُ
المُنمَّقُ
الخجولُ
الشاهقُ الجميلُ الحنونُ
ذكَّرني بالزّوابعِ التي تضربُ الرحيقَ لحظةَ صُعودِهِ
فتشفي.
...
لم تكُنْ نزهةً للمديح، والرمّانة ستنفرط حبّاتُها: اربطي شَعركِ بورود الربوة، وكوني مُغويةً أكثر من دمّر. هذا النهارُ سلّةُ الآلامِ الجريئة وبيتُ اليعسوب الضائع في الهوى. شاعرٌ وحربٌ وخرابٌ ومنجمٌ ثوريٌّ وزاهرةٌ وقزّازٌ وجوبر. على مسرح المعرض القديم تقمَّصْتُ "رقصةَ ستّي". كنتُ كمشاتلِ العدويِّ أستحضرُ روايات شغفٍ مُستحيلة: لن أمدحَ ما ينبغي أنْ يُصفَعَ، وأنْ يُنادى: إنَّهُ وقتُ الاستيقاظ.
...
في تُرابكِ يا حديقةَ الجاحظِ تُخبِّئينَ هُتافاتِ المُتظاهرين، وهذا موعدٌ آخَر مع برزة والقابون وركن الدّين. للجزماتيّة والمُجتهد وعين الكرش ما يتناثر كرذاذ الأغاني. المزرعةُ من جهةٍ، وساحةُ العباسيّين من جهةٍ، وأنا أُغيِّرُ اسمَ باب الجابية، وأطلبُ من باعةِ الكتبِ تحتَ جسر الرئيس تفويضاً من الغار الحنطيّ لـِ: انزياح دمشق.
(10)
كنتُ شاعراً أكثَر ممّا يسمحُ به الخرابُ
عابرَ سبيلٍ مكتظٍّ بالعابرينَ في ساحة السبع بحرات
أموتُ إذا ماتَ "الربيعُ العربيّ"
واستيقظَ الصدأُ فوقَ المسافات
الحنينُ عطرُ المُؤلمِ
أو المُدوَّرُ الآتي كمتاهةٍ
أمام نافذةِ الهلال الأحمر
يحتشدُ النازحونَ كفوانيس مُطفأة
ومن خلفِ النجماتِ المُضرِبَةِ عن الطعام
مضاربُ خيام اللاجئين تومضُ سلالاً من سلاسلَ
يا شاحنةَ الرحيلِ المعقوف
كلّ الأرصفةِ سَفَرٌ في مفردات مقهى الكمال
بمجرّد أنْ أغويتُ امرأةً على طرف المُتحلِّقِ الجنوبيّ
صرتُ آخَري الذي فَنِيَ بولادتِهِ
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط.
...
لن أكونَ هُنا
لأنِّي لن أكونَ
ولن أكونَ هُناكَ
لا لن أكونَ
لا أبقى ولا أسافرُ
أتقلَّبُ كالمحمومِ على إيقاع المطارق المعدنيّة لأبواب الشام القديمة
يُقلِقني شارع 29 أيّار:
- ها قد صارَ النزفُ دمشقيّاً!
فأُقلِقُ النسيمَ:
الهُوِيَّةُ تُمنَحُ على نُدرة المآل.
بالتناسلِ أُفقيّاً
أم بالدموعِ عموديّاً
يأخذونَ أتاواتٍ في الحارات
يُغلقونَ شوارعَ لأسبابٍ أمنيّة
واليمامةُ لا تدفعُ بدَلَ خدمةِ العلَم
تريدُ أنْ تتفحَّصَ ملمسَ الصهيلِ الطائشِ:
- هل نحن في الفَجوةِ العذراءِ
كمثلِ زهرةٍ في الرقصةِ الأخيرةِ
قبلَ مُنعطفِ الشَّمس؟!
...
هذا المكانُ رمّانةٌ بحاجةٍ إلى الفرط
وأنا شاعرٌ أكثَر ممّا يسمحُ به الخرابُ
لمجرَّدِ أنْ نقَّبتُ عن معبد جوبيتير
رمقني الجامعُ الأمويّ بالقُبَلِ
وانتفضَ سوقُ الحميديّة كمن دغدغهُ من ظَهرِهِ
لن أمتلكَ المجدَ ولا الانتماءَ
بمجرَّدِ أنْ أُربِّتَ على كتفِ قاسيون
لم يصلِ التيّارُ الكهربائيُّ إلى شارعنا اليوم
والازدحامُ على الأفران يومُ قيامةٍ مقلوبٌ
خُذْ حاجزاً طيّاراً بيدكَ، وأغلقِ الأيديولوجيا في محارة الشام
إنَّها قصيدةٌ مُغبرّة
في هذه الهفوةِ الوجوديّة
السهلُ الهضبةُ البركانُ
من الهامةِ إلى حرستا
ومن عشِّ الورور إلى داريّا
هي الرحلةُ المثقوبةُ لمعتقلٍ قضَى التشبيهُ تعذيباً على شفتيهِ
لا لن أكونَ
ولا أكونُ
لأنَّني لم أكُنْ
إلا بنّاءَ أقواسِ قزحٍ وسحاباتِ عبَقٍ غزير.
(11)
هذهِ ليستْ نزهةُ مديحٍ للشام
مهما كنتُ شاعراً يفرطُ رمّانةَ المكان
قدَّرتُ مواعيدَ المطر
وقلتُ: ثمَّةَ خللٌ دائمٌ ها هنا كأنَّهُ الكمالُ
وقالَ الحُلْمُ الحضاريُّ على سفوح حرمون:
- أنا أشهدُ بجميعِ الأهازيجِ:
مدينتي تريدُ إعادةَ تأليفِ نفسِها بنفسِها
مدينةً لبداياتِ البداياتِ
في شرقٍ أسيرٍ
في موتٍ ولادة
في مُطاردةِ السنينِ والأغاني والنهود
فيما قبلَ طوابيرِ الغاز وقوائمِ الأدوية المفقودة
فيما بعدَ رقصةِ الغلاء وشكاوى التجار والتعفيش
هل أتى الفيول أخيراً
مثلما فتحتِ الشاورما السوريّة العالَم
جارُنا خسر تجارتَهُ، وأغلقّ محلَّهُ
وباصُ النقل الداخليّ الأخضر
مضى إلى الشمالِ الحزينِ إلى غيرِ عودة
الحربُ رحبةٌ في النظريات الكبرى
ومشنقةٌ في الساحات
يا الغربُ المُراهقُ العجوزُ
خُنْتَ نفسَكَ
عندما خُنْتَ شامكَ.
...
في شاحنةِ الرحيلِ الداكن
حمَّلتُ سؤال الزمانِ والمكانِ
هل أبقى
أم أنأى؟
ليتني كنتُ بلا دعائمَ حبريّة
الثورة شاركتني الوسادةَ تسعَ سنوات ونيّفا
والحربُ نمَّقتِ اللغةَ بينَ الكوابيس
لا تسلني عن سعر صرف الدولار
دوريّةُ أمنٍ كالقملِ في شَعر الحيّ
أو بينَ عقربَي ساعةِ الشيطان
أو في سلسلةٍ تدلَّتْ من عُنُقِ القمرِ الذبّيح
المشاعرُ في بخارِ القهوة أخيِلةٌ
العائلاتُ في مُباغتةِ الكتابات بنزهةٍ لفظيّة
والصوتُ بهمسةٍ تغرقُ في صحنِ التسقية
والقُبلةُ بقِبلةٍ في حيِّ القدم
ليلُ العسلِ أم شعاعُ ما قبلَ الفجرِ
عصافيرُ فاكهةِ الصباحِ...
ظهيرةُ رؤوسِ الأشجارِ...
عصرُ بيتِ نظام في الأساطيرِ
فكاهاتُ العجائزِ وميلانُ الأوجاعِ في مقامِ النبي هابيل
في طريقِ العودةِ إلى حيثُ تفقدُ العيونُ مشاهدَها
لأنَّ ما نلمسهُ في النارِ لا يلمسُ نفسَهُ أبداً.
...
أشهرتُ إفلاسي كي أنأى أقصى ما يكونُ
وداعاً يا شامُ
لا تُذكّريني برئاتِ النوافذِ عند حمّام البكري
ولا برائحةِ الأطعمةِ في القيمريّة
لا تذكّريني بالخزفيّات والأنتيكات والمُنمنمات
ولا بالفقراء عند مكتب عنبر
هذه النزهة المُوجعة ليستْ مديحاً للشام
وأنا لا أُصدِّقُ سوى الألم
سأحملُ بعض قطع البرازق
قد أنثُرها على شواطئ المحيطات
طعاماً لأسماك العار
سأرحلُ بسرعةٍ إذن
لأنَّني لا أريدُ التراجُعَ
أو ربَّما فاتَ الأوانُ
ولا بدَّ من البقاءِ ما حييتُ
ها قد أمسكتني من يدي للتوّ
أجملُ مغازلاتي القديمة في باب توما:
- لكِ الظِّلُّ الوارفُ في شراييني
كي تكوني زهرتي المختبئة، فأطمئنُّ..
ولي العصافيرُ العامرةُ في تلفُّتِ عينيكِ
كي ننأى بعيداً عن هذا المكان
لكنَّنا ما زلنا نتسمَّرُ على أوتار وجنةٍ واحدة في دمشق
كالسهمِ المغروسِ في قلبٍ مرسومٍ على صفحة الهواء.
...
عودي إلينا أيَّتُها المُجنَّحةُ كالخُلود
مديحُنا لكِ هجاءٌ بحاجةٍ إلى الفرط
عودي بنقدِ الهزائمِ
سياطاً على ظَهْرِ الحضاراتِ المسعورة
وإخفاقاً دؤوباً لسلالاتِ المُحتلِّينَ
عودي بشُهُبِ المشروعِ المُبارِز
فارساً على سُطوعٍ عسليّ
بفضائلِ ابن النفيس
وانحرافاتِ أبي خليل القبّاني
عودي بما اختلفَ حتى تخلَّقَ
طلاقاً بائناً مع القناعات المُكوَّرةِ خُذلاناً
اقتصاصاً للأقدارِ الخائفة في رمّانةٍ بحاجةٍ إلى الجمع
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...