السيسي وعبد الناصر ومكر التاريخ
محمد أحمد بنيس
2020-07-25
ظل الإرث الناصري، حتى عهد قريب، مثار استقطاب مستمر بين فريقين. ينظر أحدهما إليه بغير قليل من التقدير، إيمانا منه بالدور الذي لعبه الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في قضايا التنمية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني ودعم حركات التحرّر. وفريق ثانٍ لم ير في هذا الإرث إلا عنوانا للاستبداد والإخفاق المتواتر على أكثر من واجهة، داخلية وخارجية.
غذّى ذلك الاستقطاب مساحة من السجال الفكري والسياسي العربي عقودا. واستمر حتى بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، إذ وجدت صور عبد الناصر من يرفعها في ميدان التحرير في القاهرة إبّان ثورة 25 يناير. ولم يكن حضورها احتجاجا على غياب الديمقراطية والحريات السياسية، بقدر ما كان تأكيدا على شرعية خيارات العهد الناصري، سيما في ما يتعلق بدعم الفئات الفقيرة والوسطى التي شكلت القاعدة الاجتماعية لحكم عبد الناصر. وإذا كانت تبرئة الزعيم الراحل مما آلت إليه دولة يوليو قد صارت رهانا أساسيا بالنسبة للناصريين خلال ثورة يناير، فإن طيفا عريضا من القوى المدنية والثورية كان يتطلع، في واقع الأمر، إلى إقامة الجمهورية الثانية، بما قد يعنيه ذلك من وضع عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك في سلة واحدة، باعتبارهم تنويعات مختلفة لمنظومة سياسية واحدة، استنفدت كل مقومات شرعيتها.
وفي وقتٍ بدت ثورة يناير وكأنها تتطلع نحو القطع النهائي مع الإرث السياسي لدولة يوليو، وإرساءِ دولة مدنية وديمقراطية، جاءت مظاهرات "30 يونيو" (2013) لتجهض ذلك، وتعيدَ إنتاج هذه الدولة، بعد أن تكفل عبد الفتاح السيسي بإخراج نسختها الأكثر سوءا في انقلابه المعلوم على الرئيس المنتخب محمد مرسي.
ولم يكن إعلام السيسي، في تسْويده الممنهج حكم مرسي الذي لم يدم سوى سنة يتيمة، يعزّز شرعية هذا الانقلاب فحسب، بل كان يعيد إلى الأذهان الصورة السلبية التي أشاعها الإعلام الناصري عن الملك فاروق، بالتوازي مع رسم صورة بطولية للقائد (العسكري بالضرورة) الذي يُخلص الشعب من محنته ويستجيب لمطالبه، ما يعني تسفيها مقصودا (مزدوجا) أولا للتمرين الديمقراطي النسبي الذي عاشته مصر قبل 1952، وثانيا لحكم مرسي (2012-2013). وبذلك عزّز نظام السيسي ما ترسّخ في الأذهان عن معاداة دولة يوليو الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان.
أعاد إعلام السيسي عهد الملك فاروق إلى الأذهان من حيث لا يقصد، حين استلهم النموذج الإعلامي الناصري في تسفيه حكم الرئيس مرسي، مثلما فعل نظام عبد الناصر مع الملك فاروق. وفي هذا الصدد، لعب قطاع واسع من الناصريين دورا لافتا في تقديم ''ثورة'' 30 يونيو وكأنها امتدادٌ لـ ''ثورة'' 23 يوليو التي قادها الجيش المصري ضد الملكية المصرية، بما يدل عليه ذلك من شرعنة الانقلاب الذي قام به السيسي لكي يُصبح، لاحقا، ''مرشحَ الضرورة''، بتعبير محمد حسنين هيكل.
أصبح نظام السيسي عنوانا صارخا لكل مثالب دولة يوليو منذ قيامها (1952)، وكأن الأمر يتعلق بمكرٍ ما ثاوٍ في تاريخ هذه الدولة. لقد أعاد هذا النظامُ تعريف حركة 1952 انقلابا عسكريا، وليس ثورة اجتماعيةً، كما دأبت الأدبيات القومية على نعتها. وإذا كان عهد عبد الناصر قد شهد إصلاحات اجتماعية واسعة (تحسب له بالطبع)، ذلك يعود إلى خياراته وقناعاته الشخصية. وما ارتدادُ السادات عن هذه الإصلاحات إلا دليل على أنها لم تكن مُمأسسةً، بسبب ارتهانها بشخص عبد الناصر.
وظّف السيسي الإرث الناصري للتحكم في ديناميات التعبئة الاجتماعية التي أحدثتها ثورة 25 يناير. لكنه لم يوظفه في مواجهة الكيان الصهيوني والرجعية العربية اللذيْن باركا انقلابه وتنكيله بخصومه السياسيين. ولعل هذا ما يُوسِّع مساحة التناقض، حين ننظر إلى دولة يوليو بوصفها منظومة متكاملة، تأسست على احتفاظ العسكر بالسلطة، وما يرتبط بها من مكاسب ومصالح مختلفة.
يصعب القفز على حقيقة أن نظام السيسي امتدادٌ لدولة يوليو في تمظهراتها الأكثر تعارضا مع الديمقراطية ومشتقاتها، إذ أخذ أسوأ ما في عهودها الثلاثة، وأعاد إنتاج ذلك كله في نسخة هجينة غير مسبوقة.