رحلة الأمة تودد من "ألف ليلة" إلى الأدب العالمي / ماريبيل فييرو
2020-08-15
حكاية "ألف ليلة وليلة"
يحكى أن رجلًا ثريًا من بغداد كان يرغب بشدة في أن ينجب ولدًا. وبعد طول صبر تحقق دعاؤه وأنجب طفلًا ذكرًا سمّاه أبو الحسن. عند موت أبيه بدد أبو الحسن ما ورثه عن أبيه، ولم يبق له إلا ملكية شابة أمة تسمى تودد. وحين رأت الفتاة يأس سيدها، توسلت إليه أن يشتري لها ثيابًا فخمة وزينات وأن يبيعها للخليفة العباسي هارون الرشيد، بأعلى ثمن ممكن (10 آلاف دينار). وقالت له إن الثمن المرتفع لن يكون لجمالها فحسب، وإنما لحكمتها كذلك، إذ أنها تحيط بكل الفنون والعلوم، بالإضافة لكونها محيطة بمعارف عن الشطرنج والموسيقى.
حين ساقها إلى الخليفة، أراد هارون الرشيد أن يتحقق من حكمة الأمة ومعارفها التي أكدها سيدها. فأرسل في طلب الحكيم إبراهيم بن سيار النظام من البصرة، وكان أحكم أهل الأرض، ليعقد جلسة في القصر يحتمع فيها كل العلماء من شتى العلوم ليختبروا معارف تودد. وهكذا مرت الأمة باختبارات في علوم القرآن والحديث، الحقوق والطب، علم النجوم والحساب والفلسفة: كل واحد من العلماء وجّه إليها مجموعة من الأسئلة لتجيب عنها، ثم بعد انتهاء أسئلتهم وأجوبتها يأتي دورها لتوجه لهم الأسئلة، فمن يعجز عن الجواب ينصرف من المجلس. في النهاية، استطاعت تودد حل سلسلة من الألغاز والأحجيات، وبرهنت على معارفها في الموسيقى ولعب الشطرنج.
هكذا أجابت تودد على كل الأسئلة الموجهة لها، وأذهلت المشاركين في المجلس بذكائها وحكمتها وحسن معارفها بشتى المواضيع. وأجابت على الفقيه في مسائل الشرع بما يتفق مع المذهب الشافعي، وفي الطب أشارت إلى جالينوس وبرهنت على معرفتها بنظرية الأمزجة الأربعة، والعلامات الظاهرة والباطنة للأمراض، وأهمية النظام الغذائي المتوازن؛ استعرضت كذلك معارفها حول الأوعية الدموية. لقد انهزم العلماء وأهينوا وتحتم عليهم خلع ثيابهم أمام معارفها، وتلقت تودد من الخليفة شهادة بعلمها ونصرها.
ثم دفع الخليفة لأبي الحسن عشرة آلاف دينار هو الثمن الذي طلبه لبيع تودد، وأمر الأمة أن تطلب أمنية يحققها لها. فكانت أمنيتها أن تعود إلى سيدها.
هذه إحدى حكايات شهرزاد في "ألف ليلة وليلة"، حكايات روتها لتنقذ حياتها (وحياة أخريات) بعد أن قرر مليكها شهريار أن يذبح زوجاته بعد قضاء ليلة معهن انتقامًا من خيانة زوجته ولأنه افترض في كل النساء الخيانة. تقع هذه الحكاية في الليالي من 436 وحتى 462. وتشبه تودد شهرزاد، إذ أنها مثلها تستخدم الكلمات، معارفها، فطنتها وخيالها، وفي حالتها من أجل إنقاذ سيدها.
في العالم الإسلامي
الحكاية المذكورة في "ألف ليلة وليلة" (وهو سفر تكوين معقّد بدأ تكوينه من القرن العاشر وحتى التاسع عشر) طارت واستقلت بعيدًا عن الكتاب الأم، سواء في شكل شفاهي أو مكتوب. ثمة ميل إلى أن الحكايات ترجع إلى بغداد رغم أنها تعرضت لتعديلات في مصر. وثمة نسخة كُتبت في الأندلس، أغلب الظن في القرن الثالث عشر ومحفوظة في مخطوطة بالأكاديمية الملكية للتاريخ بمدريد تحت عنوان "حكايات الفتاة تودور". في هذه النسخة يتعرض التاجر للإفلاس (لا ذكر للرغبة في إنجاب ولد)، والخليفة هو المنصور (وقد يكون خليفة الموحدين الذي يحمل نفس الاسم) والأمة تتمتع كذلك بمعارف صوفية، بالإضافة للخط والتطريز وصياغة الذهب، وثمة قائمة بعلامات المرأة الجميلة.
ثمة نسخ باللهجة المغربية (مخطوطة إحداها محفوظ بمدرسة الدراسات العربية بغرناطة) ونسخ أخرى جالت بأفريقيا الصحراوية، مثل التي ترجمتها فلوريال سان أجوستين. في الوقت الحالي، تبدو الحكاية شعبية جدًا في إندونيسيا وماليزيا، حيث تسمى الفتيات باسم تودد.
ترجمت الحكاية العربية إلى الفارسية في القرن السادس عشر، حينها صارت تودد "حسنية". في هذه النسخة، ستدخل تعديلات على الجزء اللاهوتي والقضائي ليتفق مع أسس الشيعة الاثني عشر، رغم أن السياق سيظل القصر العباسي. حسنية شديدة الإقناع فيما تستعرضه حتى أن أكثر من 400 شخص من الحضور سيتحولون من السنية إلى الشيعية. هذا التعديل لا يجب أن يفاجئنا: فالترجمة إلى الفارسية كانت بيد شاه طهمباسب (1524-1576)، الحاكم الثاني من الأسرة الصفوية التي تحتها حدث تبني الشيعية الاثني عشر كعقيدة رسمية لإيران.
هذه النسخة انتقلت من ثم إلى تركيا العثمانية عبر متصوفة البكتاشية، وكانت مادة للتفنيد العام بأمر من السلطان عبد الحميد (1876- 1909).
لوحة لبساط الريح من رسم الفنان الروسي فيكتور فاسنستوف
خارج العالم الإسلامي
في لحظة يضعها الباحثون بين القرن الـ 11 والـ 13، بعضهم يميل للتاريخ الأقدم وبعضهم للتاريخ الأحدث، تُرجمت حكاية تودد إلى الإسبانية (لا يبدو أن ثمة ترجمة سابقة في اللاتينية) لتُعرف بذلك باسم "الفتاة تيودور" la doncella Teodor. وهذا الاسم، وليس "تودد"، هو ما يظهر في المخطوطة العربية المحفوظة في الأكاديمية الملكية للتاريخ.
هذه النسخة في الإسبانية بتعديلاتها لا تزال محفوظة في مخطوطات، وعقب وصول المطبعة، تحولت لنسخة مطبوعة. العناصر الدينية تتنصّر، والمشاهد ذات المحتوى الجنسي ستحذف بالتدريج وحجم الحكاية سيتضاءل حيث يصير العلماء الممتحنون ثلاثة فقط. التاجر سيصير مجريًا ويبتاع في تونس الأمة الجميلة المسماة تيودور؛ وشخصية إبراهيم ابن سيار النظام ستكون أبراهام (وهكذا سيغدو يهوديًا في بعض النسخ).
سيكون للأمة تيودور حضور لافت في الأدب الشعبي، ما يبرهن على انتشارها في الأجواء الشعبية حيث ذاع صيتها عبر غناء حكايتها أو القراءة العامة في الأسواق والمعارض. هذه الشعبية دليل أيضًا على أن المسرحي الإسباني الكبير لوبي دي بيجا (1562-1635) سيخصص لها إحدى مسرحياته الشهيرة والمعنونة "الفتاة تيودور".
الأدب الشعبي سيساعد كذلك في نقل قصة تيودور إلى أميركا اللاتينية، إذ أن طابعها الأخلاقي والتعليمي جعل من الممكن تسللها بين كتب كانت مبعوثة إلى ما وراء البحر. قبائل المايا يدخلونها في تراثهم السردي، مثلًا في كتب قبائل يوكاتان.
لم يلفت انتباه المايا الحكاية كاملة، إذ محوا مثلًا الجزء الأول، وإنما ما يشير بالتحديد لعلم التنجيم والألغاز، وهو ما يتصل مباشرة بتقاليد ثقافتهم (الألغاز والأحجيات كانت تستخدم في ثقافة المايا لإنجاح المرشحين المتطلعين للسلطة السياسية ومن كانوا يرسبون كانوا يقلعون ثيابهم).
النسخة البرتغالية للفتاة تيودور حققت انتشارها الكبير في البرازيل أيضًا كأدب شعبي، واتخذت شكلًا شعريًا، ما سهّل حفظها وبالتالي تحقيق تأثير في قطاعات كبيرة من الشعب. لقد اشتغل سلفادور بينيا (مترجم ألف ليلة للإسبانية) على التلقي الحديث لكتاب الليالي في العالم الإسباني/الأميركي اللاتيني.
قد لا يبدو أن ثمة انتشارًا حققته الحكاية وراء جبال البرانس، رغم أن تشوسر (1343-1400) لا بد قد عرف الحكاية، إذ أنه في إحدى حكاياته يشير إلى "تيودورا" كوجه معروف.
في عمل "ألغاز"، وهو مجموعة من الألغاز جمعها كاهن أجوستيني يدعى كلاريتوس دي سولنثيا في نهاية القرن الرابع عشر، يؤكد الكاهن أنه حضر امتحانًا أمام ملك وكان فيه فتاة تجيب عن كل الألغاز التي اقترحها حكيم، لكن حين طرحت هي أحجيتها لم يستطع الحكيم أن يجيب. يوضح كلاريتوس أنه قرر حينئذ أن يكتب هذه الأحجيات حتى لا يتعرض حكيم آخر للذل في موقف مشابه. في هذه الحالة من يروي الحكاية يريد أن يتعرف مستمعوه على أنفسهم في الحكيم، وليس في الفتاة.
ثمة نسخة جديدة بالإنكليزية ظهرت كذلك في 2005 في ماليزيا، بترجمة محمد عبد الرؤوف وبعنوان:
The story of Tawaddud: a brilliant and beautiful girl and a model of good moral conduct
تعكس هذه النسخة الشهرة المشار إليها لهذه الحكاية بين الشعوب المسلمة بجنوب شرق أسيا.
ما أصل الحكاية؟
يرى المتخصصون أن أصل الحكاية لا يرجع لفارس ولا للهند التي كانت مهدًا لحكايات جالت بالعالم العربي والإسلامي مثل حكايات كلية ودمنة. ثمة ميل إلى الأصول اليونانية للحكاية، بالاتكاء على ما ذكره مرجع بغداد ابن النديم (995) إذ أشار إلى أنه من بين الأعمال المترجمة التي ذاع صيتها في عصره "كتاب عن الفيلسوف الذي اختبر الشابة الأمة كيتار".
يسبق هذه الإشارة ما ورد في القصة التوراتية عن ملكة سبأ التي سألت سليمان لتتأكد من حكمته المشهور بها.
تعتبر صورة تودد مستلهمة من حكاية كاترين الإسكندرانية، وهي شهيدة مسيحية من القرن الرابع يقال إنها، عقب اعتناقها المسيحية، شاركت في مناظرة مع حكماء وثنيين أمام الإمبراطور مكسنتيوس أغسطس (حكم من عام 306 إلى 312)، وفي هذا الجدال خرجت منتصرة لكن انتصارها لم يمنع أن يُحكم عليها بالإعدام في النهاية. لكن الكثيرين ممن حضروا المناظرة اعتنقوا المسيحية، ولا بد أن ذلك حدث لذكاء الفتاة وحكمتها، وهو ما سيتكرر بعد ذلك في النسخة الشيعية مع حسنية. وبدورها، كانت صورة كاترين السكندرية مؤولة كالقصة المعاكسة لـ هيباتيا (370- 415)، وهي الفيلسوفة والرياضية الوثنية التي أبت اعتناق المسيحية، وتجسدت سيرتها في السينما في فيلم المخرج أليخاندرو أمينابار.
إماء حكيمات
تختلف كاترين السكندرية عن تودد في أنها نبيلة وليست أمة. لقد شكّلت الإماء الحكيمات ظاهرة معتادة في عالم القصور الإسلامية. أغلبهن تلقى المعارف الموسيقية والشعر، إذ كانت وظيفتهن تسلية الحضور في مجالس الذكور داخل القصر الملكي وفي أماكن الترفيه وأجنحة النبلاء وأماكن تناول الموضوعات المختلفة. في هذه المجالس كانوا يسمعون الشعر والموسيقى ويأكلون ويشربون. وكلما تمتعت الأمة بمهارات أكثر، زاد سعرها في السوق. وأحيانًا كان السادة من يعملون على إعدادهن لخدمتهم والاستفادة من ذكائهن ومهارتهن، فمثلًا لو كان السيد صانع كتب يعلمهن الخط ليصنعن نسخًا من المخطوطات.
يُحكى عن الإمام الشيعي جعفر الصادق أنه كان لديه أمة تدعى سعيدة قد تعلمت منه التقاليد الدينية، من بينها التشهد. في حكاية أخرى من كتاب الليالي، ثمة أمة أخرى تدعى نزهة الزمان-في حكاية الملك عمر النعمان وأولاده- تضطر لإخضاع معارفها للاختبار أمام القضاة. وفي كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (463- 1071)، يذكر أن الأصمعي (740- 828) قد دعاه الخليفة هارون الرشيد ليختبر معارف شابتين أمتين في النحو والشعر والأدب، إذ كانتا هديتين إليه.
في الأندلس ترك لنا ابن بسام (1148-؟) صورة لـ ابن القطاني، وهو تاجر وحكيم كان عمله "تربية الإماء":
"لديّ في سلطتي أربع روميات كن بالأمس جاهلات، والآن حكيمات، طبيبات، منطقيات، فيلسوفات، هندسيات، موسيقيات، خبيرات في الأسطرلاب، منجمات، عالمات فلك، نحويات، مدققات، أديبات، خطاطات. دليل ذلك، لمن يتهمهن بالجهل، أن أكبر الدواوين مترعة بمخطوطاتهن حول علم الدلالة والمعاجم في القرآن وعلوم قرآنية أخرى، كذلك عن علوم العرب، مثل القصور القمرية والعُروض وبناء الجملة، وكتب المنطق والهندسة وطبقات الفلسفة المختلفة. هن يبذلن جهدًا في إعراب كل ما ينسخنه ويفعلن ذلك بكل دقة، سواء لفهم معناه أو من كثرة ما نسخن. ولديّ على ذلك شهادات كثيرة".
ابن بسام يحكي أيضًا كيف كان ملك طائفة بني الرزين، ابن رزين، على استعداد لدفع مبالغ طائلة للحصول على إماء مغنيات، حد دفع 3000 آلاف دينار في أمة اشتراها من ابن قطاني. وانتقده لذلك ملوك طوائف آخرون لأن نزقه أدى لارتفاع ثمن هذا النوع من الإماء. وعن واحدة منهن يقول "كانت فريدة بين أترابها من المغنيات، فلا مثيل لها ولا شبيهة. ولا امراة من نساء عصرها لها نفس الروح الرقيقة، والحركة الخفيفة، هي سهلة المعشر، لها صوت هو أفضل الأصوات، ولها غناء هو أجمل الغناء، لها خط راقٍ، وأدب فريد...".
عناصر فولكلورية
ثمة عناصر فولكلورية في حكاية تودد: الرغبة في إنجاب طفل؛ التضرع من أجل تحقيق الأمنية؛ السعادة بتحقيق الحلم؛ الاختبار في شكل أسئلة وأجوبة (وهو ما يظهر في كل روايات الحكاية وبالتالي فهو عنصر تعريفي لها). يضيف بينو باليرو عنصر الميراث الذي يبدو ظاهريًا بلا أثر: يبدو أبو الحسن كمن لا يقدّر قيمة الأمة تودد لتكون هي من ترد إليه ثراءه، مثله مثل الابن الصغير للطحان الذي لا يعرف قيمة القط الذي تركه له أبوه في قصة "القط ذو الحذاء" لـ شارل بيرو.
خلاصة
ثمة عناصر كثيرة مهمة في حكاية تودد، منها مثلًا شخصيتها التي تمثل موسوعة صغيرة للمعرفة، وتسليط الضوء على ما هو تربوي، وكيف تكون الفتاة تمثيلًا للنساء (إن كانت الفتاة الأمة تمثيلًا إيجابيًا، فالنساء الأكبر سنًا سيجدن متسعًا). تتمتع الأسئلة والأجوبة أيضًا بكثير من الأهمية لأنها تقدم رؤية للعالم تتلاقى فيها، على بعدهما، الثقافة العربية الإسلامية وثقافة المايا مثلًا.
ثمة باحثون في "ألف ليلة وليلة" يرون فيها قصة مملة ومستفزة. بعض آخر يقدر عناصر الدهشة التي لا بد وقعت في الماضي، مثل أنها تقدم صورة للمرأة الوسيطة، تلك التي تنتصر عبر ذكائها على الأعداء لتنقذ من تحب. لكنها، في النهاية، مثل أي حكاية جيدة، لها قراءات متعددة لا تتوقف عند ما رصدناه.
*أستاذة باحثة في معهد لغات وثقافات البحر المتوسط في إسبانياCSIC-