قراءة فى كتاب النصيحة الولدية وصية أبي الوليد الباجي لولديه
رضا البطاوي
خاص ألف
2020-09-05
مؤلف الكتاب أى الوصية هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى: 474هـ)
قبل الدخول فى موضوع الكتاب نجد الوصية المطلوبة من كل أب أو ام من المسلمين هى وصية واحدة وهى عبادة الله وحده أى اتخاذ الإسلام دينا كما قال تعالى "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا أنتم مسلمون"
ومن ثم فأى كتاب يتناول وصايا جزئية ليس وصية تامة رغم كثرة التفاصيل فيها كما فى هذا الكتاب وواجب كل مسلم هو نحو أولاده هو التربية التى تعنى غذاء الجسم وغذاء النفس وغذاء النفس هو تعليمهم أحكام الإسلام ولذا طلب الله من كل ولد أو بنية الدعاء للأبوين فقال " وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا"
وهذه التربية تكون متدرجة فليس مطلوبا أن يعلم الوالدين الأطفال الأحكام مرة واحدة أو حتى على مئة مرة وإنما المطلوب التعليم حسب الظرف فمثلا الرضع يعلمون أن خدش أو ضرب الأخرين أو صفعهم حرام ويكون هذا التعليم بالقول المتكرر هذا حرام هذا عيب مع العبوس فى وجوههم عند الفعل حتى ينتهوا ومثلا يتم تعليمهم وجوب دخول الحمام عندما يريدون التبول او التبرز تدريجيا حتى يتعلموا فى النهاية ألا يتبولوا أو يتبرزوا أمام أحد فيعرفون أن كشف العورة أمام ألآخرين حرام
وصية الباجى لولديه هى وصية كما قلنا وصية جزئية فهى لا تتناول الأحكام كلها والولدين كمانا مقبلين على سن البلوغ وسببها كما قال هى خوفه من ان يموت قبل تعليمهم وفى هذا قال :
"يا بني هداكما الله وأرشدكما ووفقكما وعصمكما وتفضل عليكما بخير الدنيا والآخرة ووقاكما محذورهما برحمته إنكما لما بلغتما الحد الذي قرب فيه تعين الفروض عليكما وتوجه التكليف إليكما وتحققت أنكما قد بلغتما حد من يفهم الوعظ ويتبين الرشد ويصلح للتعليم والعلم لزمني أن أقدم إليكما وصيتي وأظهر إليكما نصيحتي مخافة أن تخترمني منية ولم أبلغ مباشرة تعليمكما وتدريبكما وإرشادكما وتفهيمكما فإن أنسأ الله تعالى في الأجل فسيكثر النصح والتعليم والإرشاد والتفهيم وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون بيده قلوبكما ونواصيكما وإن حال بيني وبين ذلك ما أتوقعه وأظنه من اقتراب الأجل وانقطاع الأمل ففيما أرسمه من وصيتي وأبينه من نصيحتي ما إن عملتما به ثبتما على منهاج السلف الصالح وفزتما بالمتجر الرابح ونلتما خير الدنيا والآخرة وأستودع الله دينكما ودنياكما وأستحفظه معاشكما ومعادكما وأفوض إليه جميع أحوالكما وهو حسبي فيكما ونعم الوكيل"
وقد بين الباجى للولدين أن لا أحد يهمه مصلحة الأولاد أكثر من والديه ومن ثم يجب طاعة النصائح المسداة لهم من الوالدين فقال:
"واعلما أن لا أحد أنصح مني لكما ولا أشفق مني عليكما وأنه ليس في الأرض من تطيب نفسي أن يفضل علي غيركما ولا أرفع حالا في أمر الدين والدنيا سواكما وأقل ما يوجب ذلك عليكما أن تصيخا إلى قولي وتتعظا بوعظي وتتفهما إرشادي ونصحي وتتيقنا أني لم أنهكما عن خير ولا أمرتكما بشر وتسلكا السبيل التي نهجتها وتمتثلا الحال التي مثلتها"
ويحدقهما عن أقاربهم كانوا أهل دين وأن عليهم أن يكونوا ثالحين مثلهم فيقول:
"واعلما أننا أهل بيت لم يخل بفضل الله ما انتهى إلينا منه من صلاح وتدين وعفاف وتصاون فكان بنو أيوب بن وارث عفا الله عنا وعنهم أجمعين جدنا سعد ثم كان بنو سعد سليمان وخلف وعبد الرحمن وأحمد
وكان أوفر الصلاح والتدين والتورع والتعبد في جدكم خلف كان مع جاهه وحاله واتساع دنياه منقبضا عنها متقللا منها ثم أقبل على العبادة والاعتكاف إلى أن توفي رحمه الله ثم كان بنو خلف عماكما علي وعمر وأبوكما سليمان وعماكما محمد وإبراهيم فلم يكن في أعمامكما إلا مشهور بالحج والجهاد والصلاح والعفاف حتى توفي منهم على ذلك عفا الله عنا وعنهم وكأنني لاحق بهم ووارد عليهم ويصير الأمر إليكما فلا تأخذا غير سبيلهم ولا ترضيا غير أحوالهم فإن استطعتما الزيادة فلأنفسكما تمهدان ولها تبنيان وإلا فلا تقصرا عن حالهم"
وبعد هذا أوصاهما بالوصية الجامعة وهى البقاء على دين الإسلام الذى هو الصلاح فى الفقرة السابقة فقال:
"وأول ما أوصيكما به ما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} البقرة 132 وأنهاكما عما نهى عنه لقمان ابنه وهو يعظه {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} لقمان 13 وأؤكد عليكما في ذلك وصيتي وأكررها حرصا على تعلقكما وتمسككما بهذا الدين الذي تفضل الله تعالى علينا به فلا يستزلكما عنه شيء من أمور الدنيا وابذلا دونه أرواحكما فكيف بدنياكما فإنه لا ينفع خير بعده الخلود في النار ولا يضر ضير بعده الخلود في الجنة {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} آل عمران 85 فإن متما على هذا الدي� � الذي اصطفاه الله واختاره وحرم ما سواه فأرجو أن نلتقي حيث لا نخاف فرقة ولا نتوقع إزالة ويعلم الله تعالى شوقي إلى ذلك وحرصي عليه كما يعلم إشفاقي من أن تزل بأحدكما قدم أو تعدل به فتنة فيحل عليه من سخط الله تعالى ما يحله دار البوار ويوجب له الخلود في النار فلا يلتقي مع المؤمنين من سلفه ولا ينفعه الصالحون من آبائه يوم لا يغني {والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}"
وقد قسم الباجى الوصية لجزئين الأول هو واجباتهم فى الإسلام والثانى علاقتهما ببعضهما وهو تقسيم خاطىء فعلاقة الأخوين هى من ضمن أحكام الإسلام فقال: "وتنقسم وصيتي لكما قسمين فقسم فيما يلزم من أمر الشريعة أبين لكما منه ما يجب معرفته ويكون فيه تنبيه على ما بعده
وقسم فيما يجب أن تكونا عليه في أمر دنياكما وتجريان عليه بينكما"
ثم تناول واجباتهم فى الإسلام فقال :
"فأما القسم الأول فالإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله والتصديق بشرائعه فإنه لا ينفع مع الإخلال بشيء من ذلك عمل والتمسك بكتاب الله تعالى جده والمثابرة على تحفظه وتلاوته والمواظبة على التفكر في معانيه وآياته والامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه وزواجره روي عن النبي (ص)أنه قال تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله تعالى وسنتي عضوا عليها بالنواجذ وقد نصح لنا النبي (ص)وكان بالمؤمنين رحيما وعليهم مشفقا ولهم ناصحا فاعملا بوصيته واقبلا من نصحه وأثبتا في أنفسكما المحبة له والرضا بما جاء به والاقتداء بسنته والانقياد له والطاعة لح� �مه والحرص على معرفة سنته وسلوك سبيله فإن محبته تقود إلى الخير وتنجي من الهلكة والشر
وأشربا قلوبكما محبة أصحابه أجمعين وتفضيل الأئمة منهم الطاهرين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونفعنا بمحبتهم وألزما أنفسكما حسن التأويل لما شجر بينهم واعتقاد الجميل فيما نقل عنهم فقد روي عن النبي (ص)أنه قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدكم ولا نصيفه فمن لا يبلغ نصيف مده مثل أحد ذهبا فكيف يوازن فضله أو يدرك شأوه وليس منهم رضي الله عنهم إلا من أنفق الكثير ثم تفضيل التابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء رحمهم الله والتعظيم لحقهم والاقتداء بهم والأخذ بهديهم والاقتفاء لآثارهم والتحفظ لأقوالهم واعتقاد إصابتهم"
ويبدو أن ما يتكلم عنه إلى هنا الجزء الخاص بالعقيدة وبعد هذا يتناول الواجبات العملية الستة التى سماها الأعمدة فيقول:
"وإقام الصلاة فإنها عمود الدين وعماد الشريعة وآكد فرائض الملة في مراعاة طهارتها ومراقبة أوقاتها وإتمام قراءتها وإكمال ركوعها وسجودها واستدامة الخشوع فيها والإقبال عليها وغير ذلك من أحكامها وآدابها في الجماعات والمساجد فإن ذلك شعار المؤمنين وسنن الصالحين وسبيل المتقين ثم أداء زكاة المال لا تؤخر عن وقتها ولا يبخل بكثيرها ولا يغفل عن يسيرها ولتخرج من أطيب جنس وبأوفى وزن فإن الله تعالى أكرم الكرماء وأحق من اختير له ولتعط بطيب نفس وتيقن أنها بركة في المال وتطهير له وتدفع إلى مستحقها دون محاباة ولا متابعة هوى ولا هوادة ثم صيام رمضان فإنه عبادة ا لسر وطاعة الرب ويجب أن يزاد فيه من حفظ اللسان والاجتهاد في صالح العمل والتحفظ من الخطأ والزلل ويراعى في ذلك لياليه وأيامه ويتبع صيامه قيامه وقد سن فيه الاعتكاف ثم الحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا فهو فرض واجب وقد روي عن النبي (ص)أنه قال الحج المبرور ليس له جزاء عند الله إلا الجنة ثم الجهاد في سبيل الله إن كانت بكما قدرة عليه أو عون من يستطيع إن ضعفتما عنه فهذه عمد فرائض الإسلام وأركان الإيمان حافظا عليها وسابقا إليها تحوزا الخير العظيم وتفوزا بالأجر الجسيم ولا تضيعا حقوق الله فيها وأوامره بها فتهلكا مع الخاسرين وتندما مع المفرطين"
ثم بين لهما أن واجبهما بعد هذا هو تعلم العلم فالأحكام التى ذكرها لا تعرف إلا بتعلم العلم فقال :
"واعلما أنكما إنما تصلان إلى أداء هذه الفرائض والإتيان بما يلزمكما منها مع توفيق الله لكما بالعلم الذي هو أصل الخير وبه يتوصل إلى البر فعليكما بطلبه فإنه غنى لطالبه وعز لحامله وهو مع هذا السبب الأعظم إلى الآخرة به تجتنب الشبهات وتصح القربات فكم من عامل يبعده عمله من ربه ويكتب ما يتقرب به من أكبر ذنبه قال الله تعالى" قل هل ننبئكم بالأخسرين أعملا الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا الكهف " وقال تعالى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب " وقال تعال إنما يخشى الله من عباده العلماء" وق ال تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"
ثم بين لهما فضائل العلم ونتيجته فقال :
"والعلم سبيل لا يفضي بصاحبه إلا إلى السعادة ولا يقصر به عن درجة الرفعة والكرامة قليله ينفع وكثيره يعلي ويرفع كنز يزكو على كل حال ويكثر مع الإنفاق ولا يغصبه غاصب ولا يخاف عليه سارق ولا محارب فاجتهدا في طلبه واستعذبا التعب في حفظه والسهر في درسه والنصب الطويل في جمعه وواظبا على تقييده وروايته ثم انتقلا إلى فهمه ودرايته
وانظرا أي حالة من أحوال طبقات الناس تختاران ومنزلة أي صنف منهم تؤثران هل تريان أحدا أرفع حالا من العلماء وأفضل منزلة من الفقهاء يحتاج إليهم الرئيس والمرؤوس ويقتدي بهم الوضيع والنفيس يرجع إلى أقوالهم في أمور الدنيا وأحكامها وصحة عقودها وبياعاتها وغير ذلك من تصرفاتها وإليهم يلجأ في أمور الدين وما يلزم من صلاة وزكاة وصيام وحلال وحرام ثم مع ذلك السلامة من التبعات والحظوة عند جميع الطبقات والعلم ولاية لا يعزل عنها صاحبها ولا يعرى من جمالها لابسها وكل ذي ولاية وإن جلت وحرمة وإن عظمت إذا خرج عن ولايته أو زال عن بلدته أصبح من جاهه عاريا ومن حاله عاطلا � �ير صاحب العلم فإن جاهه يصحبه حيث سار ويتقدمه إلى جميع الآفاق والأقطار ويبقى بعده في سائر الأعصار"
ثم بين لهما مراتب العلوم فاعتبر علم الشريعة أعلاها ومن ثم واجبهما التفقه فى الدين قائلا:
"وأفضل العلوم علم الشريعة وأفضل ذلك لمن وفق أن يجود قراءة القرآن ويحفظ حديث النبي (ص)ويعرف صحيحه من سقيمه ثم يقرأ أصول الفقه فيتفقه في الكتاب والسنة ثم يقرأ كلام الفقهاء وما نقل من المسائل عن العلماء ويدرب في طرق النظر وتصحيح الأدلة والحجج فهذه الغاية القصوى والدرجة العليا"
ثم بين لهما أن القاصر عن تعلم الشريعة عليه بالفقه على مذخب واختار لهما مذهب مالك فقال:
" ومن قصر عن ذلك فليقرأ بعد تحفظ القرآن ورواية الحديث المسائل على مذهب مالك فهي إذا انفردت أنفع من سائر ما يقرأ مفردا في باب التفقه وإنما خصصنا مذهب مالك لأنه إمام في الحديث وإمام في الرأي وليس لأحد من العلماء ممن انبسط مذهبه وكثرت في المسائل أجوبته درجة الإمامة في المعنيين وإنما يشاركه في كثرة المسائل وفروعها والكلام على معانيها وأصولها أبو حنيفة والشافعي وليس لأحدهما إمامة في الحديث ولا درجة متوسطة"
ثم بين الباجى أن عليهما البعد عن قراءة كتب المنطق والفلسفة فى مطلع شبابهما حتى يتعلما الدين لأن تلك الكتاب تؤدى للضلال ما دام ليس هناك اساس من الدين فقال:
"وإياكما وقراءة شيء من المنطق وكلام الفلاسفة فإن ذلك مبني على الكفر والإلحاد والبعد عن الشريعة والإبعاد قراءة كتب المنطق تكون بعد التمكن في الدين وأحذركما من قراءتها ما لم تقرآ من كلام العلماء ما تقويان به على فهم فساده وضعف شبهه وقلة تحقيقه مخافة أن يسبق إلى قلب أحدكما ما لا يكون عنده من العلم ما يقوى به على رده ولذلك أنكر جماعة العلماء المتقدمين والمتأخرين قراءة كلامهم لمن لم يكن من أهل المنزلة والمعرفة به خوفا عليهم مما خوفتكما منه ولو كنت أعلم أنكما تبلغان منزلة الميز والمعرفة والقوة على النظر والمقدرة لحضضتكما على قراءته وأمرتكما بمطال عته لتحققا ضعفه وضعف المعتقد له وركاكة المغتر به وأنه من أقبح المخاريق والتمويهات ووجوه الحيل والخزعبلات التي يغتر بها من لا يعرفها ويستعظمها من لا يميزها ولذلك إذا حقق من يعلم عند أحد منهم وجده عاريا من العلم بعيدا عنه يدعي أنه يكتم علمه وإنما يكتم جهله وهو ينم عليه ويروم أن يستعين به وهو يعين عليه وقد رأيت ببغداد وغيرها من يدعي منهم هذا الشأن مستحقرا مستهجنا مستضعفا لا يناظره إلا المبتدىء وكفاك بعلم صاحبه في الدنيا مرموق مهجور وفي الآخرة مدحور مبثور وأما من يتعاطى ذلك من أهل بلدنا فليس عنده منه إلا اسمه ولا وصل إليه إلا ذكره"
وهى نصيحة من مجرب فالرجل تعاطى الفلسفة زمنا طويلا وكتب قيها وفى نقدها
ثم بين لهما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الولاة فى الخير فقال :
"وعليكما بالأمر بالمعروف وكونا من أهله وانهيا عن المنكر واجتنبا فعله وأطيعا من ولاه الله أمركما ما لم تدعيا إلى معصية فيجب أن تمتنعا منها وتبذلا الطاعة فيما سواها"
ثم طالبهما بالصدق والبعد عن الكذب دون بيان لوجود صدق محرم وكذل حلال فقال:
"وعليكما بالصدق فإنه زين وإياكما والكذب فإنه شين ومن شهر بالصدق فهو ناطق محمود ومن عرف بالكذب فهو ساكت مهجور مذموم وأقل عقوبات الكذاب ألا يقبل صدقه ولا يتحقق حقه وما وصف الله تعالى أحدا بالكذب إلا ذاما له ولا وصف الله تعالى أحدا بالصدق إلا مادحا له ومرفعا به" وطالبهما بأداء الأمانة فقال:
"وعليكما بأداء الأمانة وإياكما والإلمام بالخيانة أديا الأمانة إلى من ائتمنكما ولا تخونا من خانكما وأوفيا بالعهد إن العهد كان مسؤولا" وطالبهما بإتمام الكيل والميزان فقال:
"وفيا الكيل والوزن فإن النقص فيه مقت لا ينقص المال بل ينقص الدين والحال
ونهاهما عن المحرمات وذكر من أمثلتها المشاركة في سفك الدماء المحرمة وعن الزنى والخمر والربا و عدم أكل مال اليتيم فقال:
وإياكما والعون على سفك دم بكلمة أو المشاركة فيه بلفظة فلا يزال الإنسان في فسحة من دينه ما لم يغمس يده أو لسانه في دم امرىء مسلم قال الله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}
واجتناب الزنى من أخلاق الفضلاء ومواقعته عار في الدنيا وعذاب في الأخرى قال الله تعالى {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} وإياكما وشرب الخمر فإنها أم الكبائر والمجرئة على المآثم وقد حرمها الله تعالى في كتابه العزيز فقال عز من قائل {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} وحسبكما بشيء يذهب العقل ويفسد اللب وقد تركها قوم في الجاهلية تكرما فإياكما ومقاربتها والتدنس برجسها وقد وصفها الله تعالى بذلك وقرنها بالأنصاب والأزلام فقال عز من قائل إنما الخمر والميسر والأنصاب و� �لأزلم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) فبين تعالى أنها من عمل الشيطان ووصفها بالرجس وقرن الفلاح باجتنابها فهل يستجيز عاقل يصدق البارىء في خبره تبارك اسمه ويعلم أنه أراد الخير لنا منها حذرنا عنه مما أن يقربها أو يتدنس بها وإياكما والربا فإن الله تعالى قد نهى عنه وتوعد بمحاربة من لم يتب منه فقال عز من قائل يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربوا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله "وقال تعالى"يمحق الله الربوا ويربى الصدقات " ولا تأكلا مال أحد بغير حق وإياكما ومال اليتيم فقد قال عز وجل {إن الذين يأكل� �ن أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} "
ثم حثهما على طلب الحلال فقال :"وعليكما بطلب الحلال واجتناب الحرام فإن عدمتما الحلال فالجآ إلى المتشابه
ثم عاد للحديث عن المحرمات فنهماهما عن الظلم والنميمة والحسد والغيبة والكبر والبخل حيث قال :
"وإياكما والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة والظالم مذموم الخلائق مبغض إلى الخلائق وإياكما والنميمة فإن أول من يمقت عليها من تنقل إليه وقد روي عن النبي (ص)أنه قال لا يدخل الجنة قتات وإياكما والحسد فإنه داء يهلك صاحبه ويعطب تابعه وإياكما والفواحش فإن الله تعالى حرم ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وإياكما والغيبة فإنها تحبط الحسنات وتكثر السيئات وتبعد من الخالق وتبغض إلى المخلوق وإياكما والكبر فإن صاحبه في مقت الله متقلب وإلى سخطه منقلب وإياكما والبخل فإنه لا داء أدوأ منه لا تسلم عليه ديانة ولا تتم معه سيادة
ثم طالبهما بمراقبة الله في السر والعلن والعدل في الحكم فقال:
وإياكما ومواقف الخزي وكل ما كرهتما أن يظهر عليكما فاجتنباه وما علمتما أن الناس يعيبونه في الملأ فلا تأتياه في الخلاء فإن بلغ أحدكما أن يسترعيه الله أمة بحكم أو فتوى فليمتثل العدل جهده ويجتنب الجور وغدره فإن الجائر مضاد لله في حكمه كاذب عليه في خبره مغير بشريعته مخالف له في خليقته قال الله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} وقد روي أن الخلق كلهم عيال الله وأن أحب الخلق إلى الله أحوطهم لعياله وروي (ما امرؤ استرعي رعية فلم يحطها بنصيحة إلا حرم الله تعالى عليه الجنة)"
ثم عاد للنهى عن المحرمات كشهادة الزور والرشوة فقال :
"وإياكما وشهادة الزور فإنها تقطع ظهر صاحبها وتفسد دين متقلدها وتخلد قبح ذكره وأول من يمقته وينم عليه المشهود له وإياكما والرشوة فإنها تعمي عين البصير وتحط قدر الرفيع"
ثم تحدث عن مضيعات الوقت من اللهو كالغناء ولم يبين الحلال والحرام فيه وكذاك النرد والشطرنج والكهانة والتنجيم مبينا الحلال فى علم الفلك فقال:
وإياكما والأغاني فإن الغناء ينبت الفتنة في القلب ويولد خواطر السوء في النفس وإياكما والشطرنج والنرد فإنه شغل البطالين ومحاولة المترفين يفسد العمر ويشغل عن الفرض ويجب أن يكون عمركما أعز عليكما وأفضل عندكما من أن تقطعاه بمثل هذه السخافات التي لا تجدي وتفسداه بهذه الحماقات التي تضر وتردي وإياكما والقضاء بالنجوم والتكهن فإن ذلك لمن صدقه مخرج عن الدين ومدخل له في جملة المارقين وأما تعديل الكواكب وتبيين أشخاصها ومعرفة أوقات طلوعها وغروبها وتعيين منازلها وبروجها وأوقات نزول الشمس والقمر بها وترتيب درجاتها للاهتداء به وتعرف الساعات وأوقات الصلوا� � بالظلال وبها فإنه حسن مدرك ذلك كله بطريق الحساب مفهوم قال الله تعالى {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} وقال عز من قائل {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون}
وفى القسم الثاني من الوصية تناول كيفية معاملة كل منهما لأخيه فقال :
"وأما القسم الثاني مما يجب أن تكونا عليه وتتمسكا به فأن يلتزم كل واحد منكما لأخيه الإخلاص والإكرام والمراعاة في السر والعلانية والمراقبة في المغيب والمشاهدة وليلزم أكبركما لأخيه الإشفاق عليه والمسارعة إلى كل ما يحبه والمعاضدة فيما يؤثره والمسامحة لكل ما يرغبه ويلتزم أصغركما لأخيه تقديمه عليه وتعظيمه في كل أمر بالرجوع إلى مذهبه والاتباع له في سره وجهره وتصويب قوله وفعله وإن أنكر منه في الملأ أمرا يريده أو ظهر إليه خطأ فيما يقصده فلا يظهر إنكاره عليه ولا يجهر في الملأ بخطيئته وليبين له ذلك على انفراد منهما ورفق من قولهما فإن رجع إلى الحق وإلا فليتبعه على رأيه فإن الذي يدخل عليكما من الفساد باختلافكما أعظم مما يحذر من الخطأ مع اتفاقكما ما لم يكن الخطأ في أمر الدين فإن كان في أمر الدين فليتبع الحق حيث كان وليثابر على نصح أخيه وتسديده ما استطاع ولا يحل يده عن تعظيمه وتوقيره ولا يؤثر أحدكما على أخيه شيئا من عرض الدنيا فيبخل بأخيه من أجله ويعرض عنه بسببه أو ينافسه فيه ومن وسع عليه منكما في دنياه فليشارك بها أخاه ولا ينفرد بها دونه وليحرص على تثمير مال أخيه كما يحرص على تثمير ماله وأظهرا التعاضد والتواصل والتعاطف والتناصر حتى تعرفا به فإن ذلك مما ترضيان به ربكما وتغيظان به عدوكما لا تقاطعو ا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وإياكما والتنافس والتقاطع والتدابر والتحاسد وطاعة النساء في ذلك فإنه مما يفسد دينكما ودنياكما ويضع من قدركما ويحط من مكانكما ويحقر أمركما عند عدوكما ويصغر شأنكما عند صديقكما ومن أسدى منكما إلى أخيه معروفا أو مكارمة أو مواصلة فلا ينتظر مقارضة عليها ولا يذكر ما أتى منها فإن ذلك مما يوجب الضغائن ويسبب التباغض ويقبح المعروف ويحقر الكبير ويدل على المقت والضعة ودناءة الهمة وإن أحدكما زل وترك الأخذ بوصيتي في بر أخيه ومراعاته فليتلاف الآخر ذلك بتمسكه بوصيتي والصبر لأخيه والرفق به وترك المقارضة له على جفوته والمتابعة له على سوء معاملته فإنه يحمد عاقبة صبره ويفوز بالفضل في أمره ولا يكون ما يأتيه أخوه كبير تأثير في حاله واعلما أني قد رأيت جماعة لم تكن لهم أحوال ولا أقدار أقام أحوالهم ورفع أقدارهم اتفاقهم وتعاضدهم وقد رأيت جماعة كانت أقدارهم سامية وأحوالهم نامية محق أحوالهم ووضع أقدارهم اختلافهم فاحذرا أن تكونا منهم"
ورغم تعهده بكون القسم الثانى فى معاملتهم لبعضهما إلا أنه تحدث عن معاملتهم للأقارب فقال :
"ثم عليكم بمواصلة بني أعمامكما وأهل بيتكما والإكرام لهم والمواصلة لكبيرهم وصغيرهم والمشاركة لهم بالمال والحال والمثابرة على مهاداتهم والمتابعة لزيارتهم والتعاهد لأمورهم والبر لكبيرهم والإشفاق على صغيرهم والحرص على نماء مال غنيهم والحفظ لعيبهم والقيام بحوائجهم دون اقتضاء لمجازاة ولا انتظار مقارضة فإن ذلك مما تسودان به في عشيرتكما وتعظمان به عند أهل بيتكما وصلا رحمكما وإن ضعف سببها وقربا ما بعد منها واجتهدا في القيام بحقها وإياكما والتضييع لها فقد روي عن النبي (ص)أنه قال من أحب النسأ في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه وهذا مما يشرف به ملت� �مه ويعظم عند الناس معظمه وما علمت أهل بيت تقاطعوا وتدابروا إلا هلكوا وانقرضوا ولا علمت أهل بيت تواصلوا وتعاطفوا إلا نموا وكثروا وبورك لهم فيما حاولوا"
ثم حدثهما عن كيفية معاملة بالجار فقال :
"ثم الجار عليكما بحفظه والكف عن أذاه والستر لعورته والإهداء إليه والصبر على ما كان منه فقد روي عن النبي (ص)أنه قال لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه وروي عنه (ص)أنه قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه واعلما أن الجوار قرابة ونسب فتحببا إلى جيرانكما كما تتحببان إلى أقاربكما ارعيا حقوقهم في مشهدهم ومغيبهم وأحسنا إلى فقيرهم وبالغا في حفظ غيبهم وعلما جاهلهم"
ثم تحدث عن كيفية معاملة أصحاب الأب وأصحابهما فقال :
"ثم من علمتما من إخواني وأهل مودتي فإنه يتعين عليكما مراعتهم وتعظيمهم وبرهم وإكرامهم ومواصلتهم فقد روي عن عبد الله بن عمر أنه حدث عن النبي (ص)أنه قال إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ثم إخوانكما عاملاهم بالإخلاص والإكرام وقضاء الحقوق والتجافي عن الذنوب والكتمان للأسرار وإياكما أن تحدثا أنفسكما أن تنتظرا مقارضة ممن أحسنتما إليه وأنعمتما عليه فإن انتظار المقارضة تمسح الصنيعة وتعيد الأفعال الرفيعة وضيعة وتقلب الشكر ذما والحمد مقتا"
وبعد هذا بين لهما وجوب الصبر على أذى الناس فقال:
"ولا يجب أن تعتقدا معاداة أحد واعتمدا التحرز من كل أحد فمن قصدكما بمطالبة أو تكرر عليكما بأذية فلا تقارضاه جهدكما والتزما الصبر له ما استطعتما فما التزم أحد الصبر والحلم إلا عز ونصر ومن بغي عليه لينصرنه الله وقد استعملت هذا بفضل الله مرارا فحمدت العاقبة واغتبطت بالكف عن المقارضة"
ثم قام بنصحهما نصائح مختلفة:
"ولا تستعظما من حوادث الأيام شيئا فكل أمر ينقرض حقير وكل كبير لا يدوم صغير وكل أمر ينقضي قصير وانتظرا الفرج فإن انتظار الفرج عبادة وعلقا رجاءكما بربكما وتوكلا عليه فإن التوكل عليه سعادة واستعينا بالدعاء والجآ إليه في البأساء والضراء فإن الدعاء سفينة لا تعطب وحزب لا يغلب وجند لا يهرب وإياكما أن تستحيلا عن هذا المذهب أو تعتقدا غيره أو تتعلقا بسواه فتهلكا وتخسرا الدين والدنيا وربما دعوتما في شيء فنالكما مع الدعاء معزة أو وصلت إليكما معرة فازدادا حرصا على الدعاء ورغبة في الإخلاص والتضرع والبكاء فإن ما نالكما من المضرة بما سلف من ذنوبكما واكتسبت ماه من سيىء أعمالكما ومع ذلك فالذي ألهمكما إلى الدعاء ووفقكما لا بد أن يحسن العاقبة لكما وقد نجاكما بدعائكما عن الكثير وصرف به عنكما من البلاء الكبير وإذا أنعم عليكما ربكما بنعمة فتلقياها بالإكرام لها والشكر عليها والمسامحة فيها واجعلاها عونا على طاعته وسببا إلى عبادته والحذر الحذر من أن تهينا نعمة ربكما فتترككما مذمومين وتزول عنكما ممقوتين روي عن النبي (ص)أنه قال يا عائشة أحسني جوار نعم الله تعالى فإنها قل ما زالت عن قوم فعادت إليهم وإياكما أن تطغيكما النعمة فتقصرا عن شكرها أو تنسيا حقها أو تظنا أنكما نلتماها بسعيكما أو وصلتما إليها باجتهادك ما فتعود نقمة مؤذية وبلية عظيمة
ثم بين لهما كيفية تعاملهم مع الولاة بطاعتهم فى الخير وعدم التمرد على الحاكم العادل فقال:
"وعليكما بطاعة من ولاه الله أمركما فيما لا معصية فيه لله تعالى فإن طاعته من أفضل ما تتمسكان به وتعتصمان به ممن عاداكما وإياكما والتعريض للخلاف لهم والقيام عليهم فإن هذا فيه العطب العاجل والخزي الآجل ولو ظفرتما في خلافكما ونفذتما فيما حاولتما لكان ذلك سبب هلاككما لما تكسبانه من المآثم وتحدثان على الناس من الحوادث والعظائم ثم من سعيتما له ووثقتما به لا يقدم شيئا على إهلاككما والراحة منكما فإنه لا يأمن أن تحدثا عليه ما أحدثتما له وتنهضان بغيره كما نهضتما به "
ثم بين لهما كيفية التعامل مع السلطان الظالم فقال:
"فالتزاما الطاعة وملازمة الجماعة فإن السلطان الجائر الظالم أرفق بالناس من الفتنة وانطلاق الأيدي والألسنة فإن ربكما أمر ممن ولي عليكما أو وصلت منه أذية إليكما فاصبرا وانقبضا وتحيلا لصرف ذلك عنكما بالاستنزال والاحتمال والإجمال وإلا فاخرجا عن بلده إلى أن تصلح لكما جهته وتعود إلى الإحسان إليكما نيته وإياكما وكثرة التظلم منه والتعرض لذكره بقبيح يؤثر عنه فإن ذلك لا يزيده إلا حنقا وبغضة فيكما ورضا بإضراره بكما وابدآ بعد سد هذه الأبواب عنكما بترك منافسة من نافسكما ومطالبة من طالبكما فإنه قد يبدأ بهذه المعاني من يعتقد أنه لا يتوصل منها إلى محظور و� �ا يتشبث منها بمكروه ثم يفضي الأمر إلى ما لا يريده ولا يعتمده من مخالفة الرئيس الذي يقهر من ناوأه ويغلب من غالبه وعاداه"
وبالقطع هذه سياسة تخالف احكام الله والتى تخالف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما تخالف عدم الركون إلى الظلمة فى قوله تعالى " وتركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" وهذه السياسة هى مكنت الكفار من رقاب المسلمين بالخضوع لكل كافر يحكمنا على طريقة عيش نذل تموت مستور فى الدنيا وتدخل النار فى ألاخرة أو امش جنب الحيط
ولم يكتف الباجى بذلك بل طالبهم بالاعتزال حتى إن علموا واحد يدافع عن الحق فقال:
"وإن رايتما أحدا قد خالف من ولي عليه أو قام على من أسند أمره إليه فلا ترضيا فعله وانقبضا منه وأغلقا على أنفسكما الأبواب واقطعا بينكما وبينه الأسباب حتى تنجلي الفتنة وتنقضي المحنة"
وهو كلام لا يقوله فقيه يعرف كلام الله يعرف قوله تعالى "اذهبا إلى فرعون إنه طغى" ويعرف وجوب مخالفة ولاة الأمر عند الخطأ كما قال تعالى "وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله" ووجوب قتالهم كما قال تعالى " فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إإلى أمر الله"
ثم حثهما على الزهد فى الدنيا عدا الكفاف فقال:
"وإياكما والاستكثار من الدنيا وحطامها وعليكما بالتوسط فيها والكفاف الصالح الوافر منها فإن الجمع لها والاستكثار منها مع ما فيه من الشغل بها والشغب بالنظر فيها يصرف وجوه الحسد إلى صاحبها والطمع إلى جامعها والحنق على المنفرد بها"
وهذا الزهد سبب من أسباب ترك الحاكم الظالم يسرق وينهب ويأكل حقوق الناس وهو يعيد النصيحة الباطلة التى تخيف من اذية السلطان ولا تخيف من الله كما قال تعالى " ولا يخافون فى الله لومة لائم" وقال "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله" فيقول:
"فالسلطان يتمنى أن يزل زلة يتسبب بها إلى أخذ ما عظم في نفسه من ماله والفاسق مرصد لخيانته واغتياله والصالح ذام له على استكثاره منه واحتفاله يخاف عليه صديقه وحميمه ويبغضه من أجله أخوه شقيقه إن منعه لم يعدم لائما وإن بذله لم يجد راضيا"
ثم كرر النصيحة فى المال وهى الاكتفاء بالضروريات فقال :
"ومن رزق منكما مالا فلا يجعل في الأصول إلا أقله فإن شغبها طويل وصاحبها ذليل وهي ليست بمال على الحقيقة إن تغلب على الجهة عدو حال بينه وبينها وإن احتاج إلى الانتقال عنها تركها أو ترك أكثرها ومن احتاج منكما فليجمل في الطلب فإنه لا يفوته ما قدر له ولا يدرك ما لم يقدر له وقد ذكر الله تعالى ما وعظ به العبد الصالح ابنه في مثل هذا فقال "يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير "
ويكرر لولديه البعد عن السلطان وهى كلمة خاطئة فالمسلم شريك لكل ملك فى الملك ومن ثم لا يجب أن يبعد عنه وإنما يظل معه حتى لا يظلم أحد ويعود لتكرار مصاحبته فى الخير فيقول:
"واجتنبا صحبة السلطان ما استطعتما وتحريا البعد منه ما أمكنكما فإن البعد منه أفضل من العز بالقرب منه فإن صاحب السلطان خائف لا يأمن وخائن لا يؤمن ومسيء إن أحسن يخاف منه ويخاف بسببه ويتهمه الناس من أجله إن قرب فتن وإن أبعد أحزن يحسدك الصديق على رضاه إذا رضي ويتبرأ منك ولدك ووالداك إذا سخط ويكثر لائموك إذا منع ويقل شاكروك إذا شبع فهذه حال السلامة معه ولا سبيل إلى السلامة ممن يأتي بعده فإن امتحن أحدكما بصحبته أو دعته إلى ذلك ضرورة فليتقلل من المال والحال ولا يغتب عنده أحدا ولا يطالب عنده بشرا ولا يعص له في المعروف أمرا ولا يستنزلة إلى معصية الله تعا� �ى فإنه يطلبه بمثلها ويصير عنده من أهلها وإن حظي عنده بمثلها في الظاهر فإن نفسه تمقته في الباطن"
ثم نصحهما نصائح متعددة فى اتخاذ مقام فى المجتمع فقال :
ولا يرغب أحدكما في أن يكون أرفع الناس درجة وأتمهم جاها وأعلاهم منزلة فإن تلك حال لا يسلم صاحبها ودرجة لا يثبت من احتلها وأسلم الطبقات الطبقة المتوسطة لا تهتضم من دعة ولا ترمق من رفعة ومن عيب الدرجة العليا أن صاحبها لا يرجو المزيد ولكنه يخاف النقص والدرجة الوسطى يرجو الازدياد وبينها وبين المخاوف حجاب فاجعلا بين أيديكما درجة يشتغل بها الحسود عنكما ويرجوها الصديق لكما"
وبالقطع يذكرنى الباجى بالابن الذى قال لأمه أنت تريدين منى أن اكون الأول كى يحسدنى الناس
ثم عاد الباجى لحكاية السلطة فطالب ولديه بعدم طلب المناصب فقال:
"ولا يطلب أحدكما ولاية فإن طلبها شين وتركها لمن دعي إليها زين فمن امتحن بها منكما فلتكن حاله في نفسه أرفع من أن تحدث فيه بأوا أو يبدي بها زهوا وليعلم أن الولاية لا تزيده رفعة ولكنها فتنة ومحنة وأنه معرض لأحد أمرين إما أن يعزل فيعود إلى حالته أو يسيء استدامة ولايته فيقبح ذكره ويثقل وزره وإن استوت عنده ولايته وعزله كان جديرا أن يستديم العمل فيبلغ الأمل أو يعزل لإحسانه فلا يحط ذلك من مكانه"
ثم نصحهما فى المزاح بأن يقلا منها فقال :
"وأقلا ممازحة الإخوان وملابستهم والمتابعة في الاسترسال معهم فإن الأعداء أكثر ممن هذه صفته وقل من يعاديك ممن لا يعرفك ولا تعرفه فهذا الذي يجب أن تمتثلاه وتلتزماه ولا تتركاه لعرض ولا لوجه طمع فربما عرض وجه أمر يروق فيستزل عن الحقائق بغير تحقيق وآخره يظهر من سوء العاقبة ما يوجب الندم حيث لا ينفع ويتمنى له التلافي فلا يمكن"
وبعد هذا يقول لهما إنهما إن فقدا الورق المكتوب فيه الوصية فعليهما بوصية لفمان لابنه فى كتاب الله فقال :
"فإن فقدتما وصيتي هذه ونسيتما معناها فعليكما بما ذكر الله تعالى في وصية لقمان لابنه فإن فيها جماع الخير وهي {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} وإني لأوصيكما وأعلم أني لن أغني عنكما من الله شيئا إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون وهو حسبنا ونعم الوكيل
كملت الوصية المباركة والحمد لله رب العالمين وصل الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وآله الطيبين وصحابته المنتجبين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وذلك في يوم الخميس السابع لشهر ذي حجة مختتم عام تسعة وأربعين وسبعمائة"
ويبدو أن الوصية محرفة فما ذكر بعد كيفية التعامل بين ألأخوين كان مكانه فى القسم الأول لأنه من ضمنه