منذ بدأت تكلمه، وهو يُطيل في وصف الأشياء، ولمحت عن قرب رجلا يستطيع وصف كلّ شيء تقريبا، وبتعمّق، وأحيانا تنفصل هي عن فكرته لأنها تفكر في شيء آخر تماما.
هي شغوفة جدا بالمعمار الإسلامي، وحين تكلّم عن حمّام الصفارين بالذات، في البلدة القديمة، أصغت بتركيز.
دخل بها إلى سوق النحاس، واستطاعت أن ترى نساء موشّحات بسمرة داكنة، وابتسامة ثقيلة بسبب كدح نهار كامل، وحر لا يُطاق، ورطوبة دبقة في أغلب النواحي هنا.
كانت الزخارف المارينيّة في كلّ مكان، على الجدران والرواقين الخارجي والداخلي، والحمّام نفسه تحفة فنية.
تنهّد قبل متابعة الوصف المدهش للمكان الذي يقف فيه الآن، ثمّ تابع:
لنبدأ بالجزء الأهم "الزليج"، بألوانه المختلفة، ظهرت الفسيفساء كأرضية ثابتة، ربما من رتّب تفاصيلها مكث عدة أعوام، وهو ينقش ويُثبِّت، وكلما داست الأقدام سطحها زادت متانة وثباتا.
تألقت بعد مسافة دانية زخارف جميلة جدا "البرشلة"، ولكن فجأة قاطعت هي تلك الكلمات الواصفة، لأنها ترغب حقا في دخول المكان.
المكان داخل الحمّام مكون من عدة غرف على التوالي، الحجرة الأولى للثياب، وهي مرتفعة بشكل مقبول، بحيث يضع الزائر ثيابه، ويرتاح فيها. وإن لم يحتمل حرارة البخار ينتقل إلى الحجرة الوسطانية الباردة، وهي ملجأ من تعرض لبخار ساخن جدا كشط جلده الميت، ونظف مسامات جلده بشكل كبير، وذلك في الحجرة "الدخلانية"، ومصدر الماء الساخن من صهريج ماء اسمه "البرمة"، أو "الجفنة".
المشكلة أنها غفت قليلا بين الممرات التي تشبك الحجرات الثلاث: البرانية والوسطانية والدخلانية.
تداخلت فكرتان في رأسها، وحاولت أن تفهم طبيعة الأحاديث التي تدور بين الناس في هذه الأماكن الساحرة، ولم تتوقع ردا، ربما تكون أحاديث عادية، وأقلها شعبي سوقي عن تاجر مخدرات مثل "سويسيكا"، وشعرت بالقلق كيف يرتبط اسم مجرم خطير في هذه المحلة بمرحلة تغيير ما في الخلق أو التكوين!
الفكرة الثانية، ما نوع الرجال الذين ينظفون أجسادهم بتلك الأماكن القديمة!
وحين دخلت تلك البوابة الإلكترونية للقدس، نزلت دمعة غزت خدودها بشيء من ملوحة وانتظار، ولكنها لم تصلّ في الأقصى، وحاولت رؤية الجمهور الملتف حول البوابات كلها، ودرست ملامح الراجعين جبرا دون فرصة الصلاة في المسجد الأقصى.
استنفار الجنود دون سابق إنذار، ومنظر الشاب المتمدد تحت شمس حارقة، ودمه ينزف، ولا أحد يقترب، سوى كعاب بنادق لبشر أقل وصف لهم أنهم كلاب مسعورة.
كانت تخبره بتفاصيل ما يحدث، وكثيرًا ما يحدث أن تكلم أحد ما عن أحداث في مدينة ملتهبة بالخوف والموت والاحتلال، فيكلمك بالعادة والمتاح والانتظار، إلا هو تحدّث عن شيء رآه قبل عدة سنوات في الحارة الوحيدة التي سميت باسم بلده.
نظرت فعلا لأول باب على يسارها، واستنفرت ذاكرتها لتقارن بين الزخارف المارينيّة والنقوش العالية هنا، ولأنها لا تعرف فن المقابلة التاريخية في الهندسة المعمارية، أغمضت عينيها، وسمعت وصفه، وأنصت هو لسردها الواقعي، وفجأة كان عليها أن تركب الباص عائدة إلى حيفا.
عبرت كل تفاصيل خطوات لفتاة فلسطينية يعرفها الجميع، وكيف شدّ شعرها باراك على طول مسار العملية المدهشة، الغريب أنها كانت ميتة، ولكنه كان مستسلما لتلك الشهوة الحيوانية في قتل ما بقي من دلال المغربي.
لكنه لم يقتل شيئا، وأدركت في لحظة المقارنة، كيف الوجه الكريم يُضاء، ولا مكانة تدنو من شقائق الورد، المُسجّى على منارة المُبْتهجين.
الفجر يقترب من صبح دافئ، كعادة هذا الوقت من الصيف، وانتظر قليلا قبل أن يُردّد ترنيمات عادل الميلودي عن راضية.
راضية تلك الفتاة المسكينة، التي أجبرتها أمها على الزواج من رجل ثري، ليس بسبب ماله فقط، بل كي لا تتزوج حبيبا، لن ترضاه لوحيدتها الحالمة.
سهل جدا أن تذرف دموع نائحة، إذا فشلت قصة حب، ولكنها شعرت أن ليس ما يربطهما هو الحب، ثمة رابط أعتق، وهي متأكدة قابلته في مكان ما.
في الواقع طَرِبَت حين سمعت موشحا أندلسيا، يتناقض مع نسق أغاني الصرع السريع الهابط. وحين دققت في مداخل البلدة القديمة، احتارت أيضا هل أبواب القدس سبعة، أم ثمانية !
شعرت بالتشويش قليلا، تمددت تحت دالية الليل المعتم، واستسلمت لنعاس لذيذ تشتاقه منذ الأمس.

*قاصة من الأردن.