أوائل البشر: أسرار تكشفها معاول الآثاريين / حسام غازي
2020-12-19
يعدّ موضوع ظهور الإنسان وتطوره من أكثر المواضيع تداولاً ومناقشة بين الباحثين في مجال الآثار والأنتروبولوجيا٬ وكذلك رجال الدين والمثقفين والمهتمين٬ حيث يطرح هؤلاء الكثير من التساؤلات٬ ومن أبرزها: كيف ومتى وأين ظهر الإنسان؟ وكيف تطور وانتشر في أنحاء العالم؟ سوف نحاول فيما يلي الإجابة على تلك التساؤلات من وجهة النظر الأثرية-الأنتروبولوجية٬ وذلك بالاعتماد على أحدث النتائج العلمية التي توصل إليها علماء الآثار والأنتروبولوجيا٬ أخذين بعين الاعتبار جميع وجهات النظر والفرضيات المطروحة.
في عام 1924م تمكن ريموند دارت٬ من تعريف نوع جديد من الكائنات٬ أطلق عليه اسم الاسترالوبيتك، ومع تزايد الأبحاث والدراسات الأنتروبولوجية والأثرية تبين أن هذا النوع كان قد دخل في عدة مراحل تطورية٬ وبات يمثل مجموعة من الأنواع تختلف فيما بينها من حيث الصفات الفيزيولوجية٬ وعاشت تلك الأنواع في إفريقيا خلال الفترة من 6 إلى 1 مليون سنة ق.م٬ وتبين أنها كانت قادرة على السير على القدمين٬ وأن حجم دماغ كل منها يتجاوز في حده الأدنى الحد الأعلى لأي من الرئيسيات الأخرى٬ وبالتالي فإنها حققت الشرط الفيزيولوجي للأنسنة٬ ولكنها لم تتمكن من تصنيع الأدوات التي ميزت الإنسان عن بقية الكائنات الأخرى٬ أي أنها لم تتمكن من تحقيق الشرط الحضاري المتمثل بالقدرة على القيام بالعمليات الذهنية المعقدة٬ أي الذكاء٬ الذي مكّن الإنسان من التحكم بمحيطه وإخضاعه لحاجاته٬ ونتيجةً لذلك أطلق على تلك الأنواع اسم أشباه البشر٬ وهذه الأنواع هي: الاوسترالوبيتك العفاري٬ وأهم الهياكل العظمية العائدة له لوسي [الشكل: 1] وسيلام وكادانومو٬ والاسترالوبيتك الإفريقي النحيف٬ والاسترالوبيتك الغليظ أو الخشن٬ والاسترالوبيتك أنامينسيس٬ واسترالوبيتك بحر الغزال٬ والاسترالوبيتك بوازي٬ والاسترالوبيتك كارهي٬ استرالوبيتك سيديبا .وتجدر الإشارة إلى أنه يوجد إجماع بين علماء الأنتروبولوجيا على أن الاسترالوبيتك هو الجد المباشر للإنسان٬ ولكن الخلاف فيما بينهم يكمن في تحديد نوع الاسترالوبيتك الذي تطور عنه الإنسان، إذ يوجد حالياً أربعة سيناريوهات محتملة٬ يتبنى كل واحد منها مجموعة من الباحثين٬ حيث يرى بعضهم أن الاسترالوبيتك العفاري لوسي [3٬18 مليون سنة ق.م] هو الجد المباشر للإنسان، ولكن أنصار هذا السيناريو قلة اليوم، حيث يعتقد معظم الباحثين أن هذا النوع ينتمي إلى فرع منفصل عن الفرع الذي تطور إلى الإنسان٬ ويرى فريق ثاني أن الاسترالوبيتك كارهي الذي ينتمي إلى مجموعة الاسترالوبيتك النحيف [ 2٬6 مليون سنة ق.م] هو الجد المباشر للإنسان٬ ويرى فريق ثالث أن الاسترالوبيتك الإفريقي النحيف [3٬5 – 2٬5 مليون سنة ق.م] هو الجد المباشر للإنسان٬ في حين يرى فريق رابع أن الاسترالوبيتك أنامينسيس [4٬2 – 3٬9 مليون سنة ق.م] هو الجد المباشر للإنسان.
الشكل 1: الهيكل العظمي العائد للوسي.
وبجميع الأحوال يمكننا القول أن الظهور الأول للإنسان يعود إلى حوالي 2٬5 مليون سنة ق.م٬ حيث دخلت أحدى أنواع الاسترالوبيتك المتطورة في مرحلة تطورية جديدة نحو الإنسان٬ بينما تابعت الأنواع الأخرى من الاسترالوبيتك تطورها باتجاه آخر٬ وظهر نتيجةً لهذه العملية التطورية أول نوعين من أنواع الإنسان في إفريقيا وهما الهوموهابيل وهوموريدولفونسيس.
الهوموهابيل: تم اكتشاف الهياكل العظمية العائدة له للمرة الأولى عام 1960م في تنزانيا٬ وتمت دراسة تلك الهياكل من قبل لويس ليكي وفيليب توبياس وجون نابيير عام 1964م٬ وأطلقوا عليه اسم الهوموهابيل أو الإنسان الصانع لأنه أو من صنع الأدوات التي استخدمها الإنسان٬ وبعد ذلك عثر على الكثير من الهياكل العظمية العائدة له في إفريقيا٬ وجميعها تؤرخ على الفترة من 2٬5 إلى 1٬8 مليون سنة ق.م. وتشير الدراسات إلى أن جمجمته قليلة التدور٬ ووجهه أقل بروز مما عند الاسترالوبيتك٬ وأقواس الوجنة متوسطة٬ وجبهته مائلة نحو الخلف وذقنه غير واضحة٬ وفكاه وأسنانه غليظة٬ وعظام حواجبه بارزة ومتصل بعضها ببعض٬ وأسنانه الأمامية أصبحت أكثر قوة قياساً للأسنان الجانبية ولحجم الفك٬ وأسنانه الجانبية أبسط وأصغر منها لدى الاسترالوبيتك وتشكل جميعها قوساً مستمراً ومنسجماً٬ وحجم دماغ يتراوح بين 550 و 800 سم3 ٬ ويقدر وزنه وسطياً بين 30 و 40 كغ٬ في حين يقدر طوله بحوالي 1٬20 و 1٬50م. وتشير الدراسات أيضاً إلى أنه كان أكثر انتصاباً من الاسترالوبيتك ويؤكد هذا الوضعية المتقدمة للثقب القذلي٬ كما أنه كان يسير على قدمين بشكل يشبه الإنسان الحالي لأن عظم الفخذ لديه له رأس قوي وعنق قصير والأطراف الأمامية لم تعد تستخدم في التنقل. أما من الناحية الحضارية فيعد الهوموهابيل هو صانع حضارة الأولدوان٬ أقدم حضارة في العالم٬ والتي عثر على آثارها في عدة مناطق من شرق إفريقيا مثل مضيق الأولدوان، ومنطقتي ملكا كونتوري وكوبي فورا، كما عثر على آثارها خارج إفريقيا في موقعي عين الفيل وبئر الهمل في منطقة الكوم في سورية٬ وعاش الهوموهابيل خلال تلك الفترة في العراء على شكل جماعات متنقلة٬ ومعتمدة على الصيد والالتقاط٬ كما قام ببناء بعض الأكواخ البسيطة المدعمة بالأحجار الكبيرة لتقيه البرد، واستفاد من النار الطبيعية، وصنع الأدوات الحجرية البسيط واستخدمها في حياته اليومية.
الهوموريدولفونسيس: تم اكتشاف جمجمة وحيدة عائدة له عام 1972م في موقع كوبي فورا في كينيا٬ وأطلقت عليها هذه التسمية من قبل أليكسييف عام 1986م٬ وتشير الدراسات التي أجريت عليها إلى أنها تعود لنحو 1٬9 مليون سنة ق.م٬ وإلى أن حجم دماغ هذا النوع يقدر بنحو 750 سم3. أما من الناحية الحضارة فقد عثر مع هذه الجمجمة على أدوات حجرية تحمل صفات التصنيع المقصود من قبل الإنسان٬ ولكن نتيجةً لندرتها لا يمكننا أن ننسبها حضارياً.
ومنذ حوالي 1٬8 مليون سنة ق.م٬ دخل على الأرجح الهوموهابيل في مرحلة تطورية نتج عنها نوع جديد من أنواع الإنسان في إفريقيا وهو الهوموإرغاستر٬ الذي يعتقد من وجهة نظر معظم الباحثين أنه تطور في أسيا وأوروبا إلى الهوموأركتوس. كما ظهر في جورجيا نوع جديد يدعى هوموجيورجيكوس٬ يصنفه بعض الباحثين كنوع من الهوموهابيل٬ بينما يرى فريق ثاني أنه ينتمي إلى الهوموإرغاستر٬ في حين يرى فريق ثالث أنه ينتمي إلى الهوموأركتوس. وظهر أيضاً في غرب أوربا نوع جديد من أنواع الإنسان يدعى الهوموأنتيسيسّور٬ وهو متطور على الأرجح من الهوموإرغاستر.
الهوموإرغاستر: ظهر هذا المصطلح في عام 1991م٬ حيث أطلقه بيرنارد وود لتمييز المجموعة الإفريقية عن المجموعة الأسيوية والأوروبية التي يطلق عليها اسم الهوموأركتوس. عثر على الكثير من الهياكل العظمية العائدة لهذا النوع في إفريقيا٬ وبالتحديد في شرقها وجنوبها٬ وهي تؤرخ على حوالي 1٬8 إلى 1 مليون سنة ق.م. وتشير الدراسات إلى أن الهوموإرغاستر يمتلك صفات فيزيولوجية أكثر تطوراً من سابقه٬ إذ بلغ حجم دماغه حوالي 850 سم3٬ ويتراوح وزنه ما بين 50 إلى 65 كغ٬ ويتراوح طوله ما بين 1٬55 إلى 1٬70م٬ وهو منتصب القامة تماماً٬ وجمجمته أكثر تدوراً٬ وعظام حاجبيه بارزة ومتصلة تشكل واقية فوق محجري العينين بسبب بروزهما الظاهر إلى الأمام٬ وعظام الجبهة منخفضة ومائلة نحو الخلف٬ وذقنه مازالت غير واضحة لأن عظام الذقن قليلة البروز ومتراجعة نحو الخلف. أما من الناحية الحضارية فيعد الهوموإرغاستر صانع الحضارة الآشولية في إفريقيا٬ التي تطورت عن حضارة الأولدوان٬ وازدهرت على يد الهوموأركتوس في قارتي أسيا وأوربا.
الهوموأركتوس: تم اكتشاف الهياكل العظمية العائدة له للمرة الأولى عام 1891م في حوض نهر سولو في جزيرة جاوا٬ وذلك من قبل الطبيب الهولندي أوجين دوبوا٬ وتمت دراسة تلك الهياكل من قبل دوبوا نفسه وأطلق عليها اسم الهوموأركتوس. وبعد ذلك عثر على الكثير من الهياكل العظمية العائدة له في أسيا وأوروبا٬ وجميعها تؤرخ على الفترة من 1 مليون إلى 300 ألف سنة ق.م. وتشير الدراسات إلى أن صفاته الفزيولوجية مشابهة إلى حد كبير للهوموإرغاستر٬ وأن حجم دماغ يتراوح ما بين 850 و 1100 سم3٬ وأن وزنه يقدر بنحو 45 إلى 55 كغ٬ أما طوله فيقدر بحوالي 1٬50 إلى 1٬65م. أما من الناحية الحضارية٬ فتشير الدراسات إلى أن الهوموأركتوس هو صانع الحضارة الآشولية في قارتي أسيا وأوربا٬ التي عاش خلالها متنقلاً لمسافات بعيدة بحثاً عن الطرائد٬ وكانت إقامته تتركز بشكل أساسي في المغائر والملاجئ ومواقع العراء، كما قام ببناء بيوته الخاصة التي مكنته من السكن في العديد من المواقع الجغرافية المكشوفة، وكانت هذه البيوت عبارة عن أكواخ بسيطة مبنية من الحجارة والخشب والجلود، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها أكواخ موقع غومبوري في إثيوبيا، وأكواخ موقعي اللطامنة والقرماشي في سوريا، وأكواخ موقع آراغون في فرنسا، وأكواخ موقعي تورالبا وامبرونا في اسبانيا. استخدم الهوموأركتوس الأدوات الحجرية المتمثلة بالفؤوس٬ كما أستخدم الأدوات العظمية٬ والدليل على ذلك الفأس المصنوع من العظم الذي تم اكتشافه في موقع كاستيل دو كيدو في إيطاليا. أما بالنسبة للفنون فلم يعثر في المواقع العائدة لهذه الحضارة إلا على عدد قليل جداً من اللقى، ولكن رغم ندرتها فهي تمثل محاولات الإنسان الأولى للتعبير عن حياته الرمزية، ومن أبرز تلك اللقى دميتين حجريتين أنثويتين، عثر على الأولى في موقع بركة رام في الجولان السوري المحتل [الشكل: 2]، وهي عبارة عن كتلة حجرية يبلغ طولها حوالي 35 مم٬ شُغِلت بشكل بسيط جداً بواسطة أداة حجرية حادة٬ وهي تحمل ثلاثة حزوز تكوّن الرقبة والصدر والذراعان٬ وأمكن تأريخها على نحو 230 ألف سنة ق.م. أما الدمية الثانية فقد عثر عليها بالقرب من طنطه في المغرب [الشكل: 3]٬ وهي معاصرة لدمية بركة رام٬ ويبلغ طولها حوالي 6 سم، ويظهر فيها الرأس من دون أي تفاصيل، بينما تظهر فيها معالم الجسد بشكل واضح نسبياً، كما يلاحظ أيضاً وجود آثار للمغرة الحمراء على الدمية٬ وتعدّ هاتين الدميتين أقدم شاهد على معرفة الإنسان لفن النحت.
الشكل 2: دمية بركة رام.
الشكل 3: دمية طنطة.
هوموجيورجيكوس: تم اكتشاف الهياكل العظمية العائدة له للمرة الأولى عام 1999م بموقع دمانيزي في جورجيا٬ وتمت دراسة تلك الهياكل من قبل فيكييا وآخرون عام 2002م٬ وأطلقوا عليه اسم هوموجيورجيكوس٬ وتشير الدراسة إلى أنه يرقى لنحو 1٬8 مليون سنة ق.م٬ وأن حجم دماغه يقدر بحوالي 546 سم3٬ وأن طوله يقدر بحوالي 1٬50م وسطياً٬ أما بقية صفاته الفيزيولوجية فهي متشابهة إلى حد كبير مع الصفات الفيزيولوجية للهوموأركتوس. وفيما يخص الجانب الحضاري فقد ترافقت الهياكل العظمية العائدة له مع آثار تعود لمطلع العصر الحجري القديم.
هوموأنتيسيسّور: تم اكتشاف الهياكل العظمية العائدة له للمرة الأولى عام 1994م في موقع كران دولينا في إسبانيا٬ وذلك من قبل جون لويس أرسياكا وأودلد كاربونيل وبيرموديز دو كاسترو. وفي عام 1997م تمت دراسة تلك اللقى من قبل بيرموديز دو كاسترو وأرسياكا٬ وأطلقوا عليه اسم الهوموأنتيسيسّور. لم يعثر على هياكل عظمية عائدة لهذا النوع إلا في إسبانيا وإنكلترا٬ وجميعها تؤرخ على الفترة من 1٬2 مليون إلى 700 ألف سنة ق.م. وتشير الدراسات إلى أن حجم دماغه يقدر بحوالي 1100 سم3٬ وأن طوله يقدر بحوالي 1٬75م٬ أما بقية صفاته الفيزيولوجية فهي متشابهة إلى حد كبير مع الصفات الفيزيولوجية للهوموأركتوس. وفيما يخص الجانب الحضاري٬ فقد ترافقت الهياكل العظمية العائدة له مع آثار تعود لبداية العصر الحجري القديم.
ومنذ حوالي 700 ألف سنة ق.م٬ دخل على الأرجح الهوموأنتيسيسور في مرحلة تطورية نتج عنها نوعين من أنواع الإنسان وهما الهوموروديزينسس والهوموهيدلبيرج الإفريقي والأوروبي٬ ويرى بعض الباحثين أن الهوموروديزينسس هو نوع من الهوموهيدلبيرج٬ ويرى بعضهم أن الهوموهيدلبيرج هو عبارة عن هوموأركتوس متأخر.
الهوموروديزينسس: تم اكتشاف الهياكل العظمية العائدة له للمرة الأولى من قبل وودوارد عام 1921م في روديزي بزامبيا. وأطلق عليه هذا الاسم في نفس العام نسبةً إلى موقع روديزي٬ كما أطلق عليه اسم هومو دو بروكين هيل أو هومو دو كابو. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يتم العثور إلا على بعض اللقى العائدة لهذا النوع٬ وقد أتت جميعها من زامبيا٬ وهي تؤرخ على حوالي 700 إلى 300 ألف سنة ق.م٬ وتشير الدراسات إلى أن هذا النوع يحمل صفات فيزيولوجية مشابهة إلى حد كبير لصفات الهوموأركتوس٬ وأن حجم دماغه يقدر بحوالي 1300 سم3. أما من الناحية الحضارية فقد ترافقت الهياكل العظمية العائدة له مع صناعات حجرية تعود للحضارة الآشولية.
هوموهيدلبيرج: تم اكتشاف الهياكل العظمية العائدة له للمرة الأولى عام 1907م في منطقة ماور بالقرب من مدينة هيدلبيرج الألمانية٬ وتمت دراسة تلك الهياكل عام 1908م من قبل أوتو سشوتنساك الذي أطلق عليه أسم الهوموهيدلبيرج [الشكل: 4]. وبعد ذلك عثر على الكثير من الهياكل العظمية العائدة له في أوروبا وإفريقيا والصين٬ وجميعها تؤرخ على الفترة من 600 إلى 200 ألف سنة ق.م٬ وتشير الدراسات إلى أن حجم دماغه يقدر بحوالي 1200سم3٬ وأن طوله يقدر بحوالي 1٬70م إلى 1٬60م٬ وفكه السفلي غليظ ولكن فيه أسنان ذات شكل حديث وهي متدرجة في التفريعات المعروفة عند الإنسان الحالي٬ كما أن فتحة الفك السفلي أو ما يسمى فرجته الأمامية كانت على شكل نصف دائرة مما يقربها لهذه الصفة من شكل الإنسان الحالي. أما من الناحية الحضارية فيرجح أن يكون الهوموهيدلبيرج هو صانع الحضارة الميكوكية الانتقالية في أوروبا.
الشكل 4: تصور لشكل الهوموهيدلبيرج.
ومنذ حوالي 250 ألف سنة ق.م٬ تطور على الأرجح الهوموهيدلبيرج في أوروبا إلى النياندرتال وفي إفريقيا إلى الإنسان العاقل القديم الذي تطور بدوره إلى الإنسان العاقل عاقل الجد المباشر للإنسان الحالي. وتجدر الإشارة إلى أنه عثر في سيبيريا على نوع جديد من أنواع الإنسان يدعى هومو دو دينيزوفا٬ وهو يؤرخ على حوالي 40 ألف سنة ق.م٬ ويرى معظم الباحثين أنه معاصر للنياندرتال وللإنسان العاقل عاقل٬ وهو متطور عن نفس الأصل الذي تطور عنه كليهما. كما عثر في أندونيسيا على نوع من الإنسان يدعى الهوموفلوريسينسيس٬ وهو يؤرخ على الفترة من 95 إلى 18 ألف سنة ق.م٬ ولكن المعطيات العلمية الحالية لا تساعدنا على تحديد مكانه في العملية التطوري بشكل واضح٬ ورغم ذلك يرى بعض الباحثين أنه تطور بشكل مباشر عن الهوموهابيل أو الهوموأركتوس٬ ولكن هذه الفرضية لم يتم إثباتها حتى الآن.
النياندرتال: تم اكتشاف الهياكل العظمية العائدة له للمرة الأولى من قبل ب. م. سشميرلنك عام 1829م في أونجيس ببلجيكا٬ وأطلق عليه اسم النياندرتال [الشكل: 5] عام 1864م من قبل وليم كينك٬ وبعد ذلك عثر على الكثير من الهياكل العظمية العائدة له في أوروبا وغرب أسيا٬ وجميعها تؤرخ على الفترة من 250 إلى 28 ألف سنة ق.م. وتشير الدراسات إلى أن حجم دماغه يتراوح ما بين 1400 إلى 1500 سم3٬ وجمجمته ذات شكل متطاول وذات سقف منخفض بسبب العظمة الصدغية الأقرب في شكلها إلى الاستطالة منه إلى الاستدارة٬ كما أن الرأس منكفئ إلى الأمام بسبب موقع نقطة اتصال فقرات الرقبة مع قاعدة قحف الجمجمة٬ إذ كانت تلك النقطة مسحوبة إلى الخلف من مركز ثقالة الجمجمة٬ ووجهه مسطح وأقل بروز إلى الأمام٬ وعظام الوجنتين كانت واسعة ومسطحة ومسحوبة نحو الخلف٬ ويبرز الوجه على طول الخط المتوسط الشاقولي٬ ويفتقر الفك العلوي لديه إلى الميزاب النابي أو الفجوة النابية٬ بينما الفك السفلي ثقيل وضخم ويكاد يفتقر إلى بروز عظمة اللحية٬ أما عظام أطرافه فهي أثخن من مثيلاتها عند الإنسان الحالي وأعطته الشكل المنحني إلى الأمام قليلاً٬ فقامته ليست منتصبة تماماً٬ وإنما منكفئة إلى الأمام بسبب موضع تمفصل عظمتي الفخذ مع عظام الزنار الحوضي٬ وإلى تمفصل عظمتي الفخذ مع عظام الزنار الحوضي وقحف الجمجمة. وفيما يتعلق بوزنه وطوله فيقدر وزن الرجل بحوالي 90 كغ ويقدر طوله بحوالي 1٬65 م٬ أما المرأة فيقدر وزنها بحوالي 70 كغ ويقدر طولها بحوالي 1٬55م. وفيما يخص الجانب الحضاري يعدّ النياندرتال هو صانع الثقافة الموستيرية التي اجتاحت معظم مناطق أسيا وإفريقيا وأوروبا٬ مع الإشارة إلى خصوصية منطقة المشرق العربي القديم٬ حيث تعاصر النياندرتال مع الإنسان العاقل القديم وأنتجا معاً الثقافة الموستيرية٬ التي عاش خلالها الإنسان معتمداً على الصيد والالتقاط لتأمين قوت حياته اليومية٬ واستخدم الأدوات الحجرية التي كان من أبرزها الحراب الموستيرية ذات الفعالية العالية في الصيد٬ وسكن في المغائر والملاجئ ومواقع العراء، كما قام ببناء بيوته الخاصة، وهي عبارة عن أكواخ بسيطة مبنية من الحجارة والخشب والعظام والجلود، ومثال على ذلك البيت المكتشف في موقع مولودفا في حوض نهر الدنيستر٬ كما عرف النياندرتال الفنون البسيطة مثل الحجارة المحززة بشكل مقصود بغية إعطائها مظهر جمالي، والحلي المصنوعة من أصداف بحرية ونهرية مثل الأطواق والأقراط وغيرها٬ كما تنسب لإنسان النياندرتال أول لوحة فنية في العالم وهي اللوحة المكتشفة على الضفة الإسبانية من مضيق جبل طارق٬ وينسب له أيضاً أو آلة موسيقية صنعها الإنسان وهي المزمار الذي تم اكتشافه في موقع ديفجي بابي في سلوفاكيا [الشكل: 6]٬ والذي يؤرخ على نحو 45000 سنة ق.م٬ وتم صنعه من عظم فخذ دب صغير عليه أربع ثقوب تدل على استخدامه مزمار٬ وهو يعدّ أقدم شاهد على معرفة الإنسان للموسيقى. وفضلاً عن ذلك فقد كان النياندرتال عميق المشاعر٬ حيث كان مع الإنسان العاقل القديم أول من دفنوا موتاهم٬ ومثال على ذلك القبور المكتشفة في ملجأ لافراسي في فرنسا٬ وكذلك قبور مغارتي كبارة وعامود في فلسطين٬ ومغارة الديدرية في سوريا٬ وكهف شانيدار في العراق الذي عثر فيه على خمسة حالات دفن مقصود من بينها القبر الذي عثر فيه على هيكل عظمي لرجل بلغ الأربعين من عمره عند وفاته، وقد عاش منذ طفولته نصف مشلول ودفنه أهله بعد موته في قبر فرشت أرضه بالورود.
الشكل 5: تصور لشكل النياندرتال.
الشكل 6: بقايا مزمار ديفجي بابي٬ أقدم آلة موسيقية في العالم.
الإنسان العاقل: أطلق عليه عام 1758م اسم لينّاوس٬ ولينّاوس هو اسم الباحث الذي درس الهياكل العظمية الأولى العائدة لهذا النوع. وفي عام 1868م عثر لويس لارتيت بموقع كرومانيوم في مقاطعة الدردون الفرنسية على هياكل عظمية عائدة لهذا النوع٬ وأطلق عليه اسم إنسان كرومانيون٬ ومع تزايد الاكتشافات بدأ الباحثون يميزون بين نوعين من أنواع الإنسان العاقل٬ الأول أطلق عليه اسم الإنسان العاقل القديم٬ والثاني أطلق عليه اسم الإنسان العاقل عاقل٬ حيث عثر على الهياكل العظمية العائدة للإنسان العاقل القديم في إفريقيا ومنطقة المشرق العربي القديم٬ ويؤرخ أقدمها على حوالي 200 ألف سنة ق.م. أما الإنسان العاقل عاقل فقد عثر على هياكله العظمية في جميع أنحاء العالم٬ ويعود الظهور الأول له لحوالي 35 ألف سنة ق.م. وتشير الدراسات إلى أن حجم دماغه يقدر بحوالي 1400 إلى 1600 سم3٬ وجبهته عريضة خالية من عظم حاجب بارز٬ وهو يتميز باعتدال القامة والمشي على القدمين٬ وبانتهاء الذقن الأسفل بذقن بارزة٬ وبانعدام الثغرة بين القواطع والأنياب٬ وبعدم بروز الأنياب وارتفاعها إلى مستوى الأسنان الأخرى٬ وسقف الفم مقوس بشكل هلال٬ أما عن وزنه وطوله٬ فيقدر وزن الرجل وسطياً بحوالي 75 كغ ويقدر طوله بحوالي 1٬75 م٬ أما المرأة فيقدر وزنها وسطياً بحوالي 62 كغ ويقدر طولها بحوالي 1٬61م. وفيما يتعلق بالجانب الحضاري٬ فقد استمر الإنسان العاقل عاقل بدايةً بالسكن في المغائر والملاجئ٬ وقام أيضاً بتشييد أكواخ بسيطة٬ ثم تطور مسكنه بعد التحسن المناخي الذي حدث في نحو 12500 ق.م٬ حيث قام بتأسيس القرى الأولى التي تطورت بشكل تدريجي وتحولت في نهاية العصر الحجري النحاسي إلى مدن. كما طور الإنسان العاقل عاقل نمط حياته الاقتصادية بشكل تدريجي٬ حيث اعتمد بدايةً على الصيد والالتقاط٬ وبعد التحسن المناخ أنتقل من مستهلك سلبي لخيرات الطبيعة إلى منتج إيجابي إثر ممارسته للزراعة والتدجين٬ وقد ترافق هذا التطور في نمط العيش مع تطور تدريجي في نمط الأدوات لتواكب متطلبات الوضع الجديد٬ حيث صنع بدايةً أدوات الصيد المتمثلة بالنبال الحجرية والعظمية٬ ثم صنع رؤوس السهام ذات الفعالية العالية في الصيد٬ ومع معرفته بالزراعة بدأ بصناعة الأدوات الزراعية٬ ثم عرف في مطلع الألف السادس ق.م صناعة الفخار وصنع منه معظم عدة أنواع من الأواني٬ وفي المرحلة الأخيرة من عصور ما قبل التاريخ عرف الإنسان معدن النحاس وأدخله ضمن إطار صناعاته الحرفية. أما عن حياته الرمزية٬ فقد عبّر عنها من خلال رسم ونحت مشاهد تجسد بيئته ومعتقداته على جدران المغائر والجروف الصخرية [الشكل: 7]٬ وكذلك من خلال منحوتات تمثل الربة الأم [الشكل: 8] التي ارتبطت رمزيتها بالخصوبة والإنجاب٬ كما عرف الموسيقى وبخاصة الآلات النفخية٬ وفضلاً عن ذلك فقد دفن الإنسان العاقل عاقل موتاه بعناية٬ ومع مرور الوقت أصبح لكل منطقة من مناطق انتشاره طريقتها الخاصة في الدفن التي تعكس طبيعة اعتقاد سكانها.
الشكل 7: مشهد من طاسيلي ناجر يجسد حصانين يجران عجلة حربية.
الشكل 8: فينوس فيلوندورف.
هومو دو دونيزوفا: أطلق عليه هذا الاسم من قبل سفانت بابو عام 2010م٬ وذلك نسبةً لمغارة دونيزوفا الواقعة في سيبيريا٬ حيث وجد بقايا هيكل عظمي لطفل يقدر عمره بسبعة سنوات٬ وبعد ذلك توالت الاكتشافات٬ وأتت جميعها من ألتاي في جنوب غرب سيبيريا٬ وهي تشير إلى أن هذا النوع كان قد عاش في تلك المنطقة منذ حوالي 40 ألف سنة ق.م٬ وهو يحمل صفات فيزيولوجية أقل تطور من الإنسان العاقل عاقل٬ وقد ترافقت الهياكل العظمية العائدة له مع لقى أثرية تشير إلى نمط حياة بدائي جداً٬ بالمقارنة مع نمط حياة الإنسان العاقل عاقل.
هوموفلوريسينسيس: عثر ميك موروود وراديان سويجونو على سبع هياكل عظمية من هذا النوع عام 2003م في فلوريس باندونيسيا٬ وتمت دراسة تلك الهياكل في نفس العام من قبل بيتر برون وفريقه٬ وتشير الدراسة إلى أنه عاش باندونيسيا خلال الفترة من 95 إلى 18 ألف سنة ق.م٬ وتشير أيضاً إلى أن حجم دماغه يقدر بحوالي 400 سم3٬ وأن وزنه يقدر بحوالي 16 إلى 28 كغ٬ أما طوله فيقدر بحوالي 1م٬ وقد ترافقت هياكله العظمية مع أدوات حجرية بدائية التصنيع.
—————————————–
الدكتور حسام غازي