هل يُعتبر الغيابُ هزيمة؟!
خاص ألف
2021-01-02
(أيها الموجوعون في هذا العالم تباً لكم)
لوهلةٍ .. ظننتُ نفسي قادراً على اقتناص الفرص وحتى أشباه الفرص وترجمتها إلى زنابق.
وحين أُمعنُ جيداً أُدرك - بعد فوات الأوان - بأنّ الفجر مازال بعيداً، وكلُّ ما عشته مسبقاً مجرد دغدغات ناتجة عن أحلام رتبتُ تفاصيلها مسبقاً بعد رشوة الوقت، للسماح لي بالعبور إلى كواليسه.
لأتابع انكساراتي وتوهماتي وأنسى ما بدأتُ به، أصرُّ على الوقوف أمام الوقت، أنتظر منه هدية على وقوفي الطويل بطوابير تشبه ارتال المدرعات وهي في طريقها للاحتراق.
لا هدايا في الحرب ... فقط المزيد من الانتظار .. المزيد من العبور في المستنقعات .. والمزيد من طوابير المدرعات.
وفي الشتاء، أقف عند الغروب، أنظر للشمس جيدا، لن تمطر هذا المساء، كل ما في الأمر أني لا أحتاج للغيوم لتمرّ فوق روحي، يكفيني البلل الذي مازلتُ أعتصر نفسي منه كل مساء...
في الحرب... ومرة أخرى أترك أشيائي الصغيرة عرضةً للنهب من قبل قُطاع الأحلام.. وأهتمُ بأشيائي الكبيرة التي لم أمتلكها يوماً.
أهربُ من أخبار المجازر والانكسارات ... من عبارات الحنين واللقاءات ... من أغاني الحب وقصائد الغزل .. وأوهمُ نفسي بأنْ لاشيء يعنيني، لستُ من أصحاب القضية، ولست طرفنا فيها، ولن أكون، لكني ... وقبل النوم أعود لأسترجع على عجلٍ مامرّ به يومي من اعترافات صامتة، أرتبها بعد أن أرتب فراشي، أحصيها جيداً، وابكيها بصمت..
ألا يعتبر غيابي – بحدِّ ذاته- هزيمة؟.
وحضوري في كل الأماكن الفارغة- بكامل أناقتي- هزيمة أيضاً؟
في إحدى المرات عبرتُ الشارع الفارغ بالصدفة وتعجبتُ من طائرٍ مررتُ بقربه ولم يخشى ملامحي، لم يهرب بعيداً، دنوت منه، أخبرته من أنا، ابتسم قليلا وابتعد كَمَن يبتسمُ لقطة صغيرة على رصيف الأمنيات.
في الحرب أيضاً، وظنّاً مني بأني سأجيبُ عن كل الاسئلة المتوقعة أمام المحققِ عن ذلك الشخص الذي رمى قنبلة الحرية في 20أيار 2015 أمام محكمة الولاية،وأنا – أنا الذي أمتلك ذاكرة بصرية جيدة – لكني تفاجأت بسؤاله لي حين طلب مني وصف ملامحه، فاكتفيت بجملتين: " لا يشبهني كثيراً، ولا يختلف عن ذكر الحمام"، ولم أعد أدري ماحلّ بي، سوى أني اكتفيت بإيماء رأسي وغبتُ إلى اليوم التالي، حين رفعتُ رأسي لأعانق شمس الغروب.
ويحدثُ مصادفةً أن أرى سجَّاني دون لثام، هنا، في منفاي، نظر إليّ كأنه يقول لي:" دعك منّي، أنا الآن لا شيء، وأبدأ بالبحث عني مرةً أخرى إن رغبت، وانتبه لخطاك، دربها على النسيان".
رغبتُ كثيراً، لكني فشلت، دربت خطاي على النسيان، لكني نسيت كيف أبدأ ، نسيت كثيراً لدرجة أني ماعدت أذكر تفاصيل وجهي وابتسامة أمي.
لذلك، حين يحضرني الشعر، لا أفكرُ كثيراً بالمجاز، وأتركَ العروض جانباً ليتسنى للفراشة الرقص بحرية دون قيود، على صفحاتي البيضاء، وكما كنتُ من قبل، أدهشُ عند سماعي قصيدة عمودية، وأطرب حد الثمالة، واعتصر روحي كلها، ولا يبقى شيئاً مني للغياب، فقدت شهيتي، بعد أن أضعت كل ما أملك من دفاتر عند عبوري للخط الفاصل بين موتي السريع، وموتي الأقل سرعةً.
وغبتُ بعدها، وأصبح غيابي كله ملك القصيدة، أهبه كاملاً دون حذف شطرٍ أو صورة، دون تأويلٍ أو رتابة.
الحرب ... آخر ماكنتُ أتوقعه، والغياب كذلك.
يغادر من خيمة بثلاثة أعمدة ويحل ضيفاً خفيفاً على مدرسة تتنفس بنصف رئة وينتهي بمنزل يعاني هو الأخر من فقدان الذاكرة المؤقت لينهي أمانيه ويموت مجهولاً... هذا ما يُقال عني الآن.
لذا .... مللت الرحيل .. مللت انتظار جرس المدرسة .. مللت احتضاري ونحول جسدي .. مللت السجود دون نتيجة تذكر من رب السجود، مللت الشعر الذي يكتب كل يوم بآلاف القصائد عن عودة الياسمين ، مللت الوقوف في طوابير الموتى ، أحدثهم وأثني على موتهم، وأقرأ النشرات الإخبارية عليهم، العاجلة منها والاعتيادية كموت بعض الأطفال في مدرسة ما على خريطة واسعة تسمى وطن.
ولا أحدثهم عن الأمل كثراً ، كي لا أخدش حجارة قبورهم، أحاول أن أغني لهم عند الصباح دون أن أزعج العصافير ، ودون أن أوقظ أبي الذي يعشق أيام العطل الاسبوعية.
أبي الذي مازال ينظر كأني ذاك الطفل الذي يهرب باكراً من مدرستهِ ليلتحق بفريق (الحارة) لكرة القدم
لقد كبرتُ يا أبي .. أخذتُ مَشيبكَ ... وتجاعيد وجهك .. وحزنك .. وصوتك ..
ولن أقرأ وصيتك قريباً، مازلتَ شاباً يا أبي ، فانهض وانزع عن وجهك ماتبقى من تجاعيدك وهدها لي
ولا تفزع قلب أمي، ولا تخبرها عن سفري ، ونيتي الخروج عن المألوف في السرد ، واخبرها بأني مللت الشعر والعروض ، ولم أعشق يوماً ما شيئاً من المعلقات، كما أخبرتها سابقاً، امي التي تعشق الشعر كله ، وتعتقد ان أجمل مافي الشعر هي ( العتابا والسويحلي والمولية) لذا تظن ان المعلقات نوعاً ما من هذه الأصناف لكن كتبت بطريقة لا تفهمها.
لذا ، ولأن أمي لن تقرأ هذا الكلام، سأكتفي بالسرد لأخفف عن لغتي دوامات من الماضي التي تحضرني الآن:
أتذكر كلمات كتبتها منذ أعوام :" بصمت الريح ... بدمع الندى النائم على أسرَّة الأوراق ... ومع ولادة الصبح المثقل بالأمل ... انتظرني سآتِ إليك .. واعلم جيداً بأن السماء منحتني نفسها .. وبأن الليل تنازل لي عن نجومه .. وعن عتمة أحزانه.. وباني مازلت أريد المزيد .. لا لتشفق علي أو لأتقلّد عرش الأحزان ..بل لأحرق جميع هذه الأحزان ... ذات صباح ... وآتِ إليك"
لا تصدق حروفي يا أبي...لم تصمت الريح من يومها، ولا تصدقني، لن أجيء إليك، ولن أحرق أحزاني، لن أفعل أي شي ...
لأني وبكل صدق دربت نفسي جيدا على الحياة هنا في المنفى ، دربت الضوء على الغناء، وأوهمت الظلام طيلة الأيام الفائتة بأنه أعمى ، ولابد من انصهاره بالوقت لكي تولد النجمات أماني.
ولا تسألني مجدداً إن كان للأنبياء شامة على الخد ؟ أو كان للنهر الأول صراخٌ تستفيق لأجله كل أشجار العالم؟ لأني لا أملك كل الأجوبة ولا أنوي، لا أستطيع التحدث بكل اللغات كما الفراشات مع الزهور، ولا أستطيع العودة بالزمن لألتقط صور سيلفي مع الأنبياء لأؤكد كلام النساء اللاتي قطعن أيديهن لأجل يوسف.
لذا ، سأبتعد عن هذا الكون التائه، لأبحث مرةً أخرى عن أساور الفضة لترتديها قصائد المنفى، وأبحث أيضا عن إجاباتٍ لتساؤلاتك.
سأرتل الصباح بهدوء، ليعزفني الحنين جوقةً صباحةً في باحة المدرسة الابتدائية ...
ليأخذني الضباب المتعب من الوقوف بين الأرض والسماء، معلقاً كحبل مشنقة أزلية
ولكي لا يصرّ العابثون بذاكرتي أن أرتدي قناعا آخر يليق بحجم الخيبات الأخيرة، أرتدي المكان قناعاً، فأراني في كل الاتجاهات وحيدا.
وتذكر يا أبي :بأني وأثناء طريق الهروب الأخيرة أوقفني الضباب المائل للموت كان يرتدي الغيمة السمراء خوذة ..ويختبئ خلف ساتر الأمل ، كان يبحث عنك، خبأتك فيَّ، وأضعتك حين بكيت أول دمعةٍ بعد عبوري الأسلاك الشائكة.
سامحني يا أبي، بكيتك عمداً، وأضعتك عمداً، تركتك في بيت طفولتنا تحرس دمعة أمي، تحرسها إن حل الليل ونادت باسمي ولم أسمعها، تحضنها عني، تبقيها آمنةً ، تبكيها عني.
يالله كم هو موجعٌ هذا الضياع، هذا الفراغ الذي يحتل كل شيءٍ ألمسه، هذا الغياب الذي يصير على تفتيت أصابعي كلما حاولت كتابته، لأحوله من صيغته السائلة للصلب الملموس.
أما بعد: فكل ما كتبتهُ هنا هو حصيلة خمسُ سنوات، وأنا الخطيئة الأخيرة والخبر المحذوف قهراً.