الثقافة والهوية والعولمة نحو بحث منهجي لعمليات
2021-02-26
حاول الفكر الاستعماري الغربي دائما الاستتار وراء زعم ايديولوجي يرتكز على فكرة تصدير قيم "التقدم" و"الحرية" و"حقوق الانسان".
ولأن الواقع قد كذب هذا الزعم على نحو دامغ فلم تسفر الظاهرة الاستعمارية الا عن اذلال الشعوب ونهب خيراتها، واثارة الحروب وتغذية النزعات العرقية والطائفية، فان مايمكن أن نخرج به من هذا الواقع المتحقق على الأرض هو أن الغرب الاستعمارى قد انطلق من معاني مضمرة داخل خطابي، ويمكن تحديدها فى ما يلي:
- محاولة تأكيد أن الغرب, وحده, ولا أحد غيره, هو الذى يمتلك هذه القيم الانسانية.
أن "الآخرين", من غير المنتمين الى حضارة الغرب, ليسوا أكثر من برابرة.
وأن هؤلاء "الآخرين" فى حاجة دائمة الى من يقودهم ويأخذ بناصيتهم.
ولقد تم التصريح بهذه المعانى على كافة الأشكال الممكنة, من انتاج أدبى, الى انتاج معرفى وسياسى عام. مثلما ظهر فى روايات "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو, 1719, و"رحلات جاليفر" لجوناثان سويفت, 1726, و"قلب الظلام" لجوزيف كونراد , 1894, وأشعار فيكتور هوجو التى تترامى بين نهاية القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر .. الخ. وحتى فى الدراما والسينما والشعر.
ولعل المثال الأشهر للشعراء الذين جسدوا هذا الخطاب الغربى المتعالى هو الشاعر الفرنسى فيكتور هوجو, الذى يقول فى تمجيد نابليون بونابرت, فى حملته على مصر والشرق, فى قصيدة بعنوان "هو":
"بجانب النيل أجده مرة أخرى
ومصر تتألق بنيران فجره
وصولجانه الامبراطوري يبزغ فى الشرق
ظافرا مليئا بالحماسة متفجرا بالانجازات
ابن المعجزة أذهل أرض المعجزات.
والشيوخ المسنون بجلوا الأمير الفتى الحكيم,
وملأت الناس خوفا جيوشه التى لم يكن لها سابق.
ونبيلا, جليلا, ظهر للقبائل المذمومة
مثل ماهومت غربى" . (1)
فنابليون هو الذى جعل الفجر يبزغ على أرض مصر بعد أن كانت ترفل فى الظلام الدامس !! وهو الذى أخرجها من الظلمات الى النور !! متشبها فى ذلك ب"ماهومت كما تراه قبائل العرب التى آمنت به. وماهومت هذا ليس سوى النبى محمد (ص) الذى ظهر لتلك لقبائل "المذمومة" "الذاهلة" "الجاهلة" والتى لم تكن تعرف من الحضارة أو الانسانية شيئا !! . لقد تماثل وضع نابليون ازاء المصريين مع وضع العرب مع نبى الاسلام.
"
وهو نفس المعنى الذى قصده جان – باتيست – جوزيف فورييه حين قال عن مصر : "هذا البلد الذى نشر معرفته الى أمم كثيرة غارق الآن فى البربرية ".(2)
وهي أيضا نفس المعانى التى تفصح عنها أقوال اللورد كرومر (المندوب السامى البريطانى الأول فى مصر بعد احتلالها, عام 1882), الذى أضاف اليها هجاء عنصريا صريحا فى كتابه : "مصر الحديثة", حين قال: ".. والافتقار الى الدقة, الذى يتحول بسهولة ليصبح انعداما للحقيقة, هو فى الواقع الخصيصة الرئيسية للعقل الشرقى. الأوربى ذو محاكمة عقلية دقيقة, وتقريره للحقائق خال من أى التباس, وهو منطقى مطبوع, رغم أنه قد لا يكون درس المنطق, وهو بطبعه شاك ويتطلب البرهان قبل أن يستطيع قبول حقيقة أى مقولة, ويعمل ذكاؤه المجرد مثل آلة ميكانيكية. أما عقل الشرقى فهو على النقيض, مثل شوارع مدنه الجميلة, صوري. يفتقر بشكل بارز الى التناظر, ومحاكمته العقلية من طبيعة مهلهلة الى أقصى درجة (..) خذ على عاتقك أن تحصل على تقرير صريح للحقائق من مصرى عادى, وسيكون ايضاحه بشكل عام مسهبا, ومفتقرا للسلاسة. ومن المحتمل أن يناقض نفسه بضع مرات قبل أن ينهى قصته, وهو غالبا ما ينهار أمام أكثر عمليات التحقيق لينا".(3)
ولنلاحظ هذا الولع المفعم بالذات الذى تنضح به عبارات كرومر, من حيث تمجيده للغربيين والعقل الغربى, وهو أمر يجافى طبيعة البحث المحايد الرصين, بما يطبع حديثه, منذ البداية, بطابع الانحياز والتفضيل لذاته على الآخرين, وكأننا أمام منابذة لفظية بدوية جاهلة, ولا أقول جاهلية, قوامها الفخر بالذات وبالقبيلة, والهجاء (للآخر), المذموم, لالشىء الا لأنه ببساطة ليس (أنا). فهذا الفخر وذاك الهجاء غير مبنيين على أية أسس موضوعية, ولا ينطلقان من أية معايير محايدة. ولا نحصل منهما الا على نقائض مقذعة, لاتمتلك من القيمة والمعنى الا كونها تبعث على التسلية, باحتوائها على بعض الطرافة, كتلك التى نحصل عليها من المفاخر الساذجة لعمرو بن كلثوم والنقائض الطريفة التى جرت بين جرير والفرزدق.
كما ينبغى علينا ملاحظة التعميم الواضح فى تعبير "عقل الشرقى ..". فالشرق, عنده, كتلة صماء, لا فروق فردية بين بلدانه وسكانه, ولا اعتبار لعناصر الزمان, أوالمكان, أوالتطور التاريخى, أو درجة التعليم .. الخ. وهذا الشرقى, عنده, كاذب ومحتال ومتناقض مع نفسه وغير منطقى بحكم الطبيعة والتكوين, أى أن نقصه هيكلى, وراثى- خلقى, وليس بفعل أية عوامل موضوعية. وبالمقابل, فالغرب أيضا يمثل كتلة واحدة صماء, لافروق بينها, ولابد – عنده بالطبع - أن يكون الانسان الأوربى هو الأفضل, فهو الذى يمثل العنصر الأرقى والأجدر بالاحترام, لأنه – على النقيض من الشرقى - مفطور على التفكير المنظم الدقيق, العقلانى المنطقى .. الخ !!.
هكذا تفضى – عنده – قيم ومفاهيم "الحضارة" و"العقلانية"!! و"العلمية"!! الى فكر تعميمى وعنصرى متعصب , يختلط بسمات أسطورية وخرافية واضحة. ويتحول "التفكير المنظم" و"الرقى الحضارى" اللذان يفخر بهما هذا الغربى, الى نوع من الدجل. وهو ما يؤدى الى تنميط الشعوب وتعميم وتثبيت السمات المطلقة, مثلما يقول د. أنور عبدالملك :
"وهكذا ينتهى الأمر بالتنميط – القائم على خصوصية حقيقية, لكنه منفصل عن التاريخ , ومن ثم يعتبر شيئا مجردا أو جوهرا خالصا , وهو ما يحيل "الموضوع" المدروس الى كائن آخر , وتكون "الذات" التى تدرسه كائنا له وجوده "المتعالى", كما ينتهى الأمر الى أن يصير لدينا جنس الانسان الصينى, وجنس الانسان العربى (ولماذا لايكون لدينا جنس الانسان المصرى وهلم جرا ؟) وجنس الانسان الافريقى. (بينما) المفهوم بأن الانسان , أى "الانسان السوى" (أو الطبيعى) هو الأوربى". (4)
والمقصود بعبارة: "التنميط القائم على خصوصية حقيقية", هى تلك السمات الشائعة لدى جماعة محددة فى مرحلة زمنية محددة. ومحاولة تعميم وتثبيت هذه السمات وتأبيدها, بحيث تصبح ممثلة لسمات مطلقة عابرة للزمان.
ولعل هذا نفس ما قصد اليه ادوارد سعيد, باطلاقه تعبير : "شرقنة الشرق" (5) فى حديثه عن سعى الفكر الغربى الى حبس الشرق ضمن اطار جغرافى تخيلى يقدم تصورات جاهزة ومعدة سلفا, تتأسس على مشاهد شرق "ألف ليلة وليلة", حيث الشرق العجائبى السحرى الفطرى الشهوانى – الروحانى .. الخ. وبالتالى: الشرق المتخلف البدائى, الذى يغذى النظرة القائمة على الاحساس المفعم بالتفوق العنصرى والثقافى – الحضارى. ويبرر, فى الوقت نفسه, منطق السيطرة الاستعمارية المغلف بغلالة أخلاقية مزعومة قوامها: "اعمار" !! هذا الشرق "الخرب", !! والانتقال به من "ظلام" بدائيته وتخلفه الى نور الحضارة (بالقدر الذى يخدم مصالح الغرب بالطبع). مثلما عبر فيكتور هوجو فى الاقتباس الآنف الذكر.
لقد كان الحديث عن الآخر – الشرقى, بهذه الصفات ضروريا, أيضا, من أجل صياغة فكرة أكثر ملاءمة عن (الأنا) الأوربى. ولعل من أهم أسباب العمل على خلق وايجاد هوية ثقافية لتلك الدول القومية الفتية (أتحدث عن أوربا فى بواكير القرن التاسع عشر) هو اكتشاف نقائض تلك الهوية, بما يجعلها محددة بحدود قاطعة وموسومة بسمات مائزة. يقول ادوارد سعيد :
"الهوية لايمكن أن توجد بمفردها ومن دون ثلة من النقائض والنوافى والأضداد: فالاغريقيون يقتضون البرابرة, والأوربيون يقتضون الأفارقة والشرقيين .. الخ, والعكس صحيح دون ريب".(6)
ويتفق ذلك مع ما أورده صامويل هنتنجتون (صاحب نظرية وكتاب "صدام الحضارات"), وان كان فى سياق مغاير بالطبع - بقوله :
".. فنحن لا نعرف من نكون الا عندما نعرف من ليس نحن , وذلك يتم غالبا عندما نعرف نحن ضد من ". (7)
ومن هنا كان اكتشاف الآخر فى "نقصه" و"بدائيته" بمثابة شرط ضروري لاكتشاف الذات والاعتزاز بها والاعلاء من شأنها. وهكذا ظهرت علوم "الاستشراق" و"الأدب المقارن" و"الانثروبولوجيا" .. الخ .
ومع ظهور "العولمة" التى دشنت عصر السماوات المفتوحة وتقارب أصقاع العالم, الى الحد الذى جعل البعض يعتبر الكرة الأرضية قد أضحت, فى تقاربها, لا تعدو كونها "قرية كونية صغيرة", أخذ العالم "غير الغربى" يواجه مخاطر متعددة على كافة الأصعدة – السياسية والاقتصادية والثقافية .. الخ. ويمكن أن يكون من أبرز هذه المخاطر, على الصعيد الثقافى, ما يسميه سيرج لاتوش ب "خطر التنميط", المتمثل فى محاولات الالحاق الثقافى بالمركز الغربى , وذلك عن طريق مايسميه ب.. "التحويل عبر القومى للثقافة "(8). بما يعنى خلق مرتكزات ثقافية (عالمية) المظهر, غربية المنطلق, تدعم "الامبريالية", وتبرر نظامها القائم على غطرسة القوة وشهوة الاغتصاب. عن طريق الترويج لفكرة "صدام الحضارات", السالفة الذكر, ومحاولة ازاحة الحضارات التقليدية والقديمة, لصالح حضارة الغرب, باعتبارها حضارة العالم (المعولم). بل ان هناك أصواتا قد بدأت تعلو نبرتها فى مسعى واضح لا لبس, فيه لمهاجمة ونقد فكرة الهوية والثقافة القومية أوالوطنية, على نحو مباشر (فى بعض التأويلات) والتأكيد على فكرة ما يسمى ب.. "أوهام الهوية"(9) وأن الهويات انما هى .. "هويات قاتلة".(10) ومن المثير أن تظهر هذه الدعوات فى الوقت ذاته الذى يتم فيه العمل بدأب شديد, من قبل ذات الدوائر, على احياء "الهويات الصغرى" و"الأصوليات" الدينية والعرقية.
ولمحاولة فهم هذه المخاطر سأحاول فيما سيلى دراسة مفهوم الثقافة الوطنية فى علاقتها بالهوية الوطنية, وأنواع التفاعل الثقافى وآليات عملها. وذلك على النحو التالى:
مفهوم الثقافة الوطنية والهوية الوطنية .
أنواع التفاعل الثقافى وآليات عملها.
الثقافة الوطنية والهوية الوطنية
يرتكز الخطاب النظرى الدعائى للفكر المرتبط بدوائر السياسة الغربية (الامبريالية), على منحى خطى تبسيطى, يقوم على أساس أنه لا يوجد سوى طريق واحد للتقدم ومفهوم واحد للرقى, ألا وهو ماحققه الغرب من تطور راسمالى – اقتصادى واجتماعى وسياسى وثقافى, بل ان هذا الطريق يمكن أن يمثل "نهاية التاريخ" وخاتمة المطاف, حسبما يقول فرانسيس فوكوياما :
"هناك مايشبه التاريخ الشمولى للبشرية باتجاه الديمقراطية الليبرالية. ان اعتبار فشل هذا النظام فى بلد معين أوحتى فى منطقة بكاملها من العالم كشهادة على الضعف الاجمالى للديمقراطية يكشف بالعكس عن قصر نظر مدهش. ان الدورات وحلول التواصل ليست غير متوافقة من ذاتها مع التاريخ الشامل والموجه , كذلك وجود دورات اقتصادية ذات أمد قصير أو متوسط لايناقض امكانية النمو الاقتصادى على أمد طويل.(11)
والأمر هنا لا يرتبط فقط بالمجال السياسى أو الاقتصادى , بل يتجاوزه الى قوانين التطور وآفاق المعرفة والوعى الثقافى والاجتماعى .. الخ. فهناك تاريخ واحد للبشرية قد اختطه الغرب بنظمه الديمقراطية الليبرالية, وأن هذا الطريق قد أضحى بمثابة القدر الذى ينبغى على باقى الأمم أن تتجرعه, ولا طريق غيره, فهو بمثابة .. "تاريخ شمولى شامل". وأن هذا الطريق, حتى لو فشل فى أي بلد أو حتى منطقة بكاملها, فان ذلك لايعد عيبا أو ضعفا فى المشروع (الديمقراطى الليبرالى), بل يكاد فوكوياما أن يقول أن العيب والضعف يكمن فى هذه الشعوب التى لم تستطع بفهمها القاصر ووعيها المتدنى الوصول الى "الحكمة اللدنية" !! الكامنة فى هذا المشروع. وهنا يتحول المشروع الغربى مرة أخرى الى فكرة "مثالية" مطلقة, غير انسانية وغير تاريخية, بل عابرة للتاريخ, لاتعترف بخصوصيات الزمان والمكان, ولا بالتجارب الحية للشعوب. بما يجعلنا نعود الى اطلاقية (كرومر) الميتافيزيقية فى نهاية القرن التاسع عشر, السابق الاشارة اليها. فى دورة تشى بأن هذا النوع من الفكر الغربى يكاد يكون محصورا فى منطقة الولع بالذات وعبادتها وتمجيدها. كما يمكننا أن نصل الى اكتشاف الخطر الكامن فى هذا النمط من التفكير, ألا وهو المتمثل فى مفهوم "التنميط", الذى أوردناه عند سيرج لاتوش قبل قليل. بما يصب فى النهاية فى فكرة تأليه الغرب, التى قد لاتعنى بالضرورة انتماء واعيا مباشرا لبنياته وأشكاله فى المجالات المختلفة, انما تعنى تأليها لسلطته المذلة بوحشيتها وغطرستها واعتبارها من طبائع الأمور, وأن لا امكانية للفكاك منها . انه تأليه, حسب قول لاتوش, ..
"يقوم على قوى رمزية : سيطرتها المعنوية أكثر خبثا وأقل اثارة للاعتراض , وهذه العناصر الجديدة للسيطرة هى العلم والتقنية , والاقتصاد , وعالم الخيال الذى تقوم عليه هذه العناصر : قيم التقدم". (12)
بما يعنى اعتبار الرموز الحضارية الغربية وأنماط الحياة التى يتم تقديمها على أنها تمثل روح العصر ولايمكن الحياة بدونها ..اعتبار هذه الرموز ممثلة للزعم بفكرة التقدم, بالمعنى الفلسفى والواقعى للكلمة.
وعلى الرغم من أن فوكوياما قد تراجع عن مزاعمه سالفة الذكر فانه لم يقدم دليلا على زيفها, كما أنه لم يقدم أفكار مختلفة ومناقضة لها, بما يمكننا من اعتبارها موقفه النهائى,المغاير لما أورده بعد انهيار الاتحاد السوفيتى مباشرة.
ان هذا الكلام لايعنى, بالطبع, أننا ندعو الى الامتناع عن الاستفادة من منجزات الحضارة البشرية, سواء أكانت لدى الغربيين, أم غيرهم, فنحن أو المؤمنين بأن التجارب الحضارية لا يمكنها أن تبنى بمعزل عن الحضارات الأخرى, سواء السابقة عليها أو المعاصرة لها, لكنه ينطلق من ضرورة التفريق بين كون هذا السعى للاستفادة من الخارج ناتجا عن الاستلاب المنبطح والخضوع التام والرغبة فى الاستلحاق المجاني لكل ماهو مملى من الغرب, باعتباره من البدهيات ؟؟؟, أم منطلقة من حاجة محلية حقيقية - وطنيا وانسانيا. ومنطلقة من سؤال اللحظة التاريخية الخاصة والعامة وملبية لمحتواه, وليس العكس.
الى جانب اننا, ولاشك, من دعاة الايمان بضرورة التعامل مع "الوافد" الغربى, من أفكار وقيم وتكنولوجيا .. الخ, على أنه منجز بشرى يمكن الاستفادة منه, اذا كان يستحق, الى جانب منجزات أخرى لبشر آخرين, وليس الطريق الوحيد الذى يمكن السير فيه.
ان اختزال الحضارة البشرية فى الغرب وحده, واختزال الغرب فى أمريكا وحدها مع بعض الدول الملتحقة بها, انما يؤدى الى الامتثال لطريقة الحياة الأمريكية باعتبارها ملخص الحضارة البشرية. وهذا يمثل ظلما بليغا للحضارة الانسانية برمتها وجناية حقيقية عليها وعلى مستقبلها, لأن بهذا الامتثال (فيما يقول سيرج لاتوش) ل .. "طريقة الحياة الأمريكيةAmerican way of life تكمل الكائنات البشرية انجاز الحلم الجامح لتيودور روزفلت ب (أمركة العالم) بل كذلك حلم كافة الامبرياليين".(13)
ان هذا الامتثال, اذن, انما هو امتثال لأحلام وارادات هؤلاء الذين يأبون الا احكام السيطرة على العالم وتحويله الى مزرعة خاصة بهم. ومن ثم, تصبح "الثقافة" أداة لهذه السيطرة وهذا الاخضاع ووسيلة للحفاظ عليهما وادخالهما الى الألباب والقلوب, وتلك أقسى أنواع الاستلاب.
انها اذن قضية "الثقافة", والصراع فى هذا المستوى من المواجهة بين المركز والأطراف, هو بالتأكيد صراع ثقافات بالمقام الأول. ومن هنا لابد من طرح قضية الثقافة على الصعيد الوطنى وتبيان مفاهيمها وأهميتها ومكوناتها وقوانين حركتها.
تعريف الثقافة
لعل من البدهى القول بأن الثقافة الوطنية تعد العنصر الرئيسى الذى يشكل مفهوم الهوية الوطنية, بما تشتمل عليه من سمات حاكمة لرؤية الجماعة لذاتها ولعالمها, وبنائها العقلى والروحى والأخلاقى .. الخ , كذلك لرؤية العالم لدى أفرادها, وعناصر تكوينهم الأخلاقى والعقلى والسلوكى .. الخ المرتبط بوجودهم الاجتماعى – التاريخى, أى الزمانى - المكانى المحدد.
ولقد حاول كثير من العلماء الوصول الى تعريف أو تحديد لمفهوم الثقافة, ولكن الظاهر أنه مفهوم يتميز بقدر هائل من الاتساع والشمول, الأمر الذى أدى الى أن تذخر مؤلفاتهم بعشرات التعريفات التى تحوى أخلاطا هائلة التنوع من المعانى والعناصر. وربما كان من أقدم التعريفات التى حاولت الاحاطة بالجوانب المتعددة لمفهوم لثقافة وأكثرها ذيوعا, نظرا لقيمتها التاريخية, تعريف ادوارد تايلور الذى قدمه فى أواخر القرن التاسع عشر, فى كتابه الذى جاء بعنوان: "الثقافة البدائية" Primitive Culture (14) والذى يذهب فيه الى أن الثقافة هى :
"ذلك الكل المركب الذى يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف, وغير ذلك من العادات التى يكتسبها الفرد باعتباره عضوا فى مجتمع معين, أو منتميا الى جماعة معينة" (15)
ان الثقافة بذلك تعد عنصرا مميزا لطريقة حياة الجماعة ولشخصيتها المعنوية, عن غيرها من الجماعات, كما تمثل نمطا متكاملا لحياة أفرادها, فضلا عن أنظمة القيم الحاكمة للعلاقات القائمة بين الأفراد وبعضهم البعض, داخل الجماعة وخارجها, على حد سواء.
ولقد حاول روبرت بريستيد R. Bristedt وضع تعريف أكثر وضوحا لمفهوم الثقافة فى كتابه "المسألة الاجتماعية" The Social Order , بقوله :
"ان الثقافة هى ذلك الكل المركب الذى يتألف من كل ما نفكر فيه, أو نقوم بعمله, أو نتملكه كأعضاء فى مجتمع".(16)
ومن الواضح أن هذا التعريف يتفق مع التعريف السابق, فى التركيز على الصيغة التركيبية للثقافة, بينما يختلف عنه فى ادخال الجانب المادى, أى نمط الملكية والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بها والأخلاق والقيم المترتبة عليها. ولكنه ربما يكون أكثر وضوحا وشمولا, من حيث دخوله المباشر الى تصنيف العناصر المكونة لهذا المفهوم من فكرية وسلوكية ومادية.
ويمكن, اجمالا, تقسيم التعريفات التى تناولت الثقافة الى اتجاهين:
الأول: يتعامل مع الثقافة باعتبارها مركبا معرفيا – معنويا يتكون من القيم والمعتقدات والمعايير الأخلاقية والرموز والايديولوجيات وغيرها من المنتجات العقلية.
الثانى: يربط بين الثقافة ونمط الحياة الكلى للمجتمع والعلاقات التى تصل بين أفراده, وتوجهات هؤلاء الأفراد فى حياتهم. فى دمج واضح بين ماهو معنوى وماهو مادى – اجتماعى.
وعلى أى حال فهناك الكثيرون ممن يشكون من ندرة البحث الثقافى وعدم دقته وتراجع موضوعية جهوده, نظرا لاختلاطه بأيديولوجيا الباحثين وميولهم وعدم وجود معيارية واضحة يستندون اليها. ومن هؤلاء: المفكر المصرى, سمير أمين, الذى يرى أن "الثقافة", أو مايسميه ب "البعد الثقافى" .. يمثل البعد ..
" الأقل تقدما فى المعرفة العلمية به, لدرجة أنه لايزال محفوفا بالأسرار الخفية, ولاتعدو كون الملاحظات الامبرية (يقصد البحوث الميدانية) فى هذا الصدد – مثل تلك الملاحظات عن الأديان التى نجدها أحيانا فى بعض كتابات علم الاجتماع – تأملات تقوم على الحدس الى حد كبير". (17)
ويخلص من ذلك الى أن النظريات المقترحة فى مجال الثقافة لاتزال تدور فى فلك مايسميه ب "التشويه الثقافوى"(18). قاصدا الى لفت النظر الى أن هذه النظريات تقوم على فرضية تواجد عناصر ثقافية تتعدى مراحل التطور التاريخى. ولذلك فبالنسبة له لايوجد تعريف مقبول, بشكل عام, لما يقع فى مجال الثقافة على وجه التحديد, اذ أن هذا التعريف يتوقف على نظرية التطور الاجتماعى التى ينتمى اليها من يقوم بالتعريف نفسه, سواء أكان مفكرا أم باحثا, ولو على نحو ضمنى. فهناك من يركز جهوده على كشف العناصر المشتركة فى تطور جميع المجتمعات البشرية بشكل عام ومطلق, وهناك من يفضل – على العكس من ذلك – التركيز على العناصر المميزة والخاصة بكل مجتمع على حدة.
و يعتبر سمير أمين أن عملية الادراك لجدلية التطور الاجتماعى, وما يمكن ان تسفر عنه من الناحية الثقافية, لاتزال مجهولة الى حد كبير, ولاتزال معرفتنا بما يمكن أن يفعله التطور الاجتماعى بالثقافة تقبع فى منطقة التجريد. ومثال ذلك, هذا الحكم الذى يقضى بأن البناء التحتى يحدد "فى آخر الأمر" الطابع الاجمالى للمجتمع. حيث يتوقف سمير أمين أمام عبارة "فى آخر الأمر" تلك, ليؤكد أنه لايصلح على اطلاقه فى تفسير كافة ظواهر التغير الثقافى فى أى زمان ومكان. فالعلاقة بين البناء التحتى والفوقى في مرحلة قبل الرأسمالية, فيما يرى, ليست هى نفسها ما أصبحت عليه فى زمن الرأسمالية. وذلك ترتيبا على اختلاف خصائص وآليات حركة المجتمع الرأسمالي, من حيث كونه يمثل نظاما اقتصاديا – اجتماعيا قادرا على اعادة انتاج ذاته وتصحيح أخطائه على نحو أكثر كفاءة, عن ما سبقه من نظم اجتماعية - اقتصادية. ويضيف الى ذلك أن المجال الثقافى لايزال محفوفا بمخاطر يمكن أن تجلبها الأحكام العاطفية أو المسبقة والرؤى ذات الطابع الرومانسى .
ويقسم سمير أمين وجهات النظر حول الموقف من علاقة الثقافة بالعالم الى ثلاثة مستويات:
الأول: وهو ما يمثل وجهة نظرالذين يرفضون, مبدئيا, مفهوم عالمية الثقافة وآفاقها, وهم هؤلاء الذين يؤكدون "الحق فى التباين", ومن, ثم ينطلقون الى تمجيد الثقافات الاقليمية والتراث التاريخى للشعب الذى ينتمون اليه, دون الوعى بأن هذا القول يصل بقائله بصورة مؤكدة الى القول بأن هذه الثقافات تقوم على عوامل ثابتة تتعدى الشروط التاريخية المنتجة لها. وهذا مايطلق عليه مفهوم "التشوه الثقافى", ويراه متجسدا فيما يسميه بوضعية "التمركز الأوربى" وهوما تطرحه الأفكار السائدة فى الخطاب الفكرى الغربى, من ناحية. ومن ناحية أخرى, ما تحتوى عليه الأفكار التى يحملها الخطاب السلفى, الذى ينغلق على تراثه المحلى, معلنا رفضه واحتقاره لتجارب واجتهادات الثقافات المغايرة, وبخاصة الأوربية منها. وهذا مايطلق عليه مصطلح "التمركز الأوربى المعكوس".
الثانى : وهو مايتمثل فى تيار يتموقع داخل تيار التمركز الأوربى السائد, وهو يصادر القضية بالكامل , بادعائه امتلاك اجابات جاهزة وقد اكتشفتها أوربا وامتلكتها , مؤداها : "اقتدوا بالغرب , فهو أحسن العوالم الموجودة ". ان هذه النظرة "الطوباوية للمشكلة", كما يسميها, تقوم على أن الغرب هو الجنة الموعودة, وهو نهاية المطاف بالنسبة للتطور, كما سبق ذكره آنفا. وهو أمر مستحيل فى نظر سمير أمين, لأنه يقوم على نوع من عدم الفهم لطبيعة التناقضات الرأسمالية القائمة, كما أنه مرفوض من قبل الشعوب التى وقعت ضحية لهذا النظام.
الثالث : وهو موقف الذين يعتبرون أن المجتمع العالمى المعاصر, والغربى منه بخاصة, يواجه مأزقا خطيرا, وأن التاريخ لانهاية له, وأن التغير والتطور لايقفان عند حد معين, وأن المعركة بين القوى المحافظة التى تميل الى ايقاف التطور, وقوى التغيير التى تسعى الى تحقيق التقدم وتدفع نحو الأمام, انما هى معركة دائمة ولا نهائية. وأن "التمركز الأوربى" يمثل, بالتحديد, ميلا الى ايقاف التاريخ عند الحد الذى بلغته حضارة العالم المعاصر من خلال التوسع الرأسمالى القائم, وأن النظريات السلفية التى ينتجها سلفيو العالم الثالث ترفض هذا العالم الظالم دون أن تقترح بديلا عالمى الطابع أكثر عدلا وانسانية ليحل محله. (19)
وهنا يمكن ملاحظة أن موقف سمير أمين, يتمثل فى رفضه للاتجاهين – الأول والثانى معا, بينما ينحاز الى البديل الثالث, شريطة أن ينتج رؤيته الجدلية التقدمية (من حيث الايمان بفكرة التقدم والحركة الجدلية اللانهائية للتاريخ), والتى تتميز بأنها ذات طابع عالمى, دون الوقوع فى فخ التمركز, أو التمركز المعكوس. ان هذه الرؤية قد تمثل مايمكن أن نطلق عليه الموقف المنفتح على الآخر دون تبعية, والمتطور دون اهدار للموروث ولا للخصوصية الوطنية, وكذلك دون ادعاء علوية أو اصطفائية, أو ادعاء الوصول الى اجابات نهائية.
واذا اعتبرنا , تأسيسا على ماسبق, أن هناك تعريفين للثقافة: الأول, الذى يمثل المعنى الشامل والواسع لها من سلوكيات وأنماط ملكية وطرق تفكير وأفكار وفنون وأديان .. الخ, والثانى الذى يمثل المعنى الضيق المقتصر على الفكر والفن والعناصر المعنوية (العقلية والوجدانية) فقط. فان هناك بعدا آخر يرتكز على ثنائية أخرى: ألا وهو الثقافة من حيث كونها تمثل رؤية انسانية عالمية الطابع وتاريخية الامتداد, فى مواجهة الثقافة الناتجة عن التصور الجزئى المحلى المحدود الذى راح ينتشر منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى فى جميع الأنحاء. لقد صار لدينا الآن ما يقول عنه "جيوفرى هارتمان" ..
"ثقافة آلة التصوير, وثقافة البندقية, وثقافة الخدمة, وثقافة المتحف, وثقافة الأصم, وثقافة كرة القدم, وثقافة التبعية, وثقافة الألم, وثقافة فقد الذاكرة .. الخ "(20)
فاذا بالثقافة تنتقل من كونها فكرة تمثل قدرا من الوضوح والخصوصية, الى كيان مصاب بالترهل والرخاوة بما يجعلها تكاد تطول كل شىء, ولا تكاد تجمع بين أى شىء وأى شىء آخر. وفى الوقت نفسه, بالغت فى التخصص وأضحت تعكس على نحو "خانع", (بتعبير تيرى ايجلتون), تشظى الحياة الحديثة وتمزقها, بدلا من محاولة "رتقها" وترميمها كما كانت تفعل الثقافة بمفهومها الكلاسيكى(21) .
ان هذا الاتجاه نحو التخصص والتشظى الذى يؤدى الى أن تصبح الثقافة وسيلة تفتيت وتفريق بدلا من أن تكون وسيلة تجميع للمكونات والعناصر, يصبح خطره أكبر عندما تنكفىء كل جماعة بشرية على ذاتها, تفتش عن خصوصياتها المندثرة, وتحاول احياء مالم يصمد أمام حركة الواقع وتحولات التاريخ. وفى الوقت ذاته, تتخذ صفة المقاتل ازاء الثقافات الأخرى (باعتبارها لازمة ضرورية من لوازم تحديد تخوم الذات – كما أوردنا فى صدر هذه الورقة). سواء, أفى لغته, أم فى فنه, أم فى أدبه, أى فى مجمل"ثقافته". وهو ما يصل بنا الى احدى نواتج زمن العولمة الذى نحياه الآن, فظهرت الحركات الانفصالية على اسس اثنية – عرقية, أو طائفية - دينية, أو حتى مذهبية داخل الدين الواحد.
ولقد لاحظ ذلك ادوارد سعيد فى كتابه "الثقافة والامبريالية " عندما قال :
"وبصورة تكاد تكون عصية على الادراك الحسى فان للثقافة مفهوما يضم عنصرا منقيا (هكذا فى ترجمة كمال أبو ديب, ويقصد "باعثا على النقاء"- الباحث) ودافعا الى السمو, هو مخزون كل مجتمع من أفضل ماتحققت المعرفة به والتفكير فيه, كما قال ماثيو أرنولد فى 1860 ات. لقد آمن آرنولد بأن الثقافة تلطف, ان لم تكن قادرة بشكل تام على أن تحيد, وقع متالف الوجود الحضرى الحديث, العدوانى التجارى, المولد للفظاظة والخشونة. انك لتقرأ دانتى وشكسبير من أجل أن تواكب أسمى ما تحقق التفكير فيه ومعرفته, وكذلك من أجل أن تبصر نفسك, وقومك, ومجتمعك, وتراثك, فى أفضل اضاءات لها. ومع مرور الزمن تغدو الثقافة مقترنة, غالبا بشكل عدوانى, بالأمة أوالدولة, ويميز (نا) ذلك عن (هم), تمييزا تخالطه دائما تقريبا درجة من الاستجنابية (الاستبعادية – الباحث)" .(22)
انه, اذن, ذلك التحول التصنيفى الاستبعادى الذى آلت اليه الثقافة, وهو قريب من المعنى الذى اورده تيرى ايجلتون, بعد ذلك, فى كتابه "فكرة الثقافة", حين قال :
"فقد كانت الثقافة تقليديا تلك الطريقة التى يمكن من خلالها أن نطرح خصوصياتنا الثانوية الضيقة فى محيط شاسع ورحب يطول كل شىء. كما كانت تشير, بوصفها الفنون التى تستمد أهميتها من كونها تقطر هذه القيم وتصقلها فى شكل قابل للنقل. فنحن اذ نقرأ, أو ننظر, أو نصغى, نعلق ذواتنا التجريبية بكل ما تتسم به من طوارىء اجتماعية وجنسية واثنية, لنغدو بذلك ذواتا كونية شاملة. كانت الثقافة الرفيعة تطل من موقع شبيه بموقع القدرة الالهية, فترى الى العالم من كل مكان ومن لامكان". بيد أن كلمة الثقافة (يواصل ايجلتون) "راحت تميل عن محورها, منذ ستينيات القرن العشرين فصاعدا, لتعنى ما يكاد أن يكون نقيض ذلك. فقد غدت الآن تأكيدا على هوية خصوصية – قومية, أو جنسية أو اثنية أو مناطقية – لا تعاليا على مثل هذه الهوية, ولأن هذه الهويات جميعا ترى الى نفسها على أنها مكبوتة ومقموعة, فان ما كان يعتبر فى السابق عالما من التوافق قد تحول الآن الى عالم من الصراع".(23)
هذا هو التحول الذى ألم بفكرة الثقافة, فيما يرى ايجلتون, ومن قبله ادوارد سعيد, فانتقلت من كونها وعاء جامعا قادرا على صهر التباينات والانتصار عليها, الى أداة تقسيم وتفريق.
ولم أفهم, على وجه اليقين, السبب الذى تم على أساسه تحديد "ايجلتون" لتاريخ هذا التحول بستينيات القرن العشرين. وربما كان يقصد الحركات الطلابية والفكرية المناهضة لفكرة الحداثة والمبشرة بما بعدها (مابعد الحداثةPost Modernism ) ومفاهيم (التفكيك Deconstructuralism) التى استقر وجودها الآن, على أسس نفى الأنساق والمنظومات والمرجعيات والتصورات الكلية, متجهة نحو التشظى والتعدد اللانهائى لمعانى الأشياء ودلالات وجودها.
وهذه الرؤية ذاتها سنجدها عند جان فرانسوا بايار فى كتابه "أوهام الهوية", عندما يطرح مفهوم "التقوقع الثقافى", باعتباره معبرا عن أيديولوجيا العولمة.(24)
ويمكننى القول أن الثقافة قد غدت, على هذا النحو من التقوقع والانعزالية والتخصص, منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى, وأظن أن هذا قد تم بفعل التحول العابر للقوميات للنظام الرأسمالي. و ظهور العولمة الاتصالية (الثورة التكنولوجية فى وسائل الاتصال كالأقمار الصناعية والانترنت), وأيضا تراجع دور الدولة الوطنية وضعفها فى مواجهة المؤسسات ذات الطابع الدولى, والتى تقودها دول المركز الأورو – أمريكى. وتخلى هذه الدولة الوطنية عن مسؤلياتها الخدمية والاجتماعية (حسب وصفات الصندوق والبنك الدوليين)، مما أدى الى شيوع نوع من الاستقلال الذاتى, النسبى, للوحدات الاجتماعية الأولية (الطائفة – الاقليم – الاثنية الصغيرة .. الخ). واذا ربطنا ذلك مع ظهور اتجاه المحافظين الجدد فى أمريكا وانجلترا أثناء مايسمى بالحقبة "الريجانية – الثاتشرية" فى سبعينيات القرن العشرين, لأضحت الصورة أكثر وضوحا. حيث ظهر ما عرف باسترتيجية "القضاءعلى الشيوعية عن طريق تديين العالم". اضافة الى ما ترافق مع ذلك من احياء "الأصوليات" واذكاء نيرانها ودعمها, سواء أكانت هذه الأصوليات دينية أم قومية - عرقية, أم مذهبية ..الخ. وأظنها قد نجحت فى ذلك على نحو منقطع النظير على الصعيد العالمى, بيد أنها سرعان ما وجدت نفسها فى مواجهة هذه الأصوليات نفسها, (الدينية منها بالذات).
الثقافة والأصولية
وأقصد بالأصوليات تلك الاتجاهات الفكرية التى تأسست على نوع من التصورات التى تقدس معطى معرفيا - وجوديا معينا, بمعزل عن الشروط التاريخية الشاملة التى أنتجته, فتتصوره على نحو يقوم على الثبات والاطلاقية, متخطيا لحدود الزمان والمكان. ويندرج فى اطارها كل الأصوليات التى تشكل "الهويات الصغرى", سواء أكانت أصوليات عرقية, أم دينية, أم جغرافية - مناطقية .. الخ. اضافة الى كل النزعات الفاشية والنازية الجديدة فى أوربا وأمريكا .. يقول ادوارد سعيد :
"ان الثقافة (بهذا المعنى) تعد مصدرا من مصادر الهوية. وهى مصدر صدامى أيضا, كما نراها الآن فى حالات "الرجوع" الى الثقافة والتراث. وترافق حالات الرجوع هذه مرمزات صارمة من السلوك الفكرى والأخلاقى تناهض الاباحية (أى النظرة المتسامحة - الباحث) التى ترتبط بفلسفات تحررية ليبرالية نسبيا من مثل التعددية الثقافية والهجنة. ولقد أنتجت هذه الرجوعات فى العالم الذى كان خاضعا للاستعمار سابقا أنواعا شتى من الأصوليات الدينية والقومية."(25)
ويواصل سعيد قائلا:
"والثقافة بهذا المعنى الثانى (أى المقترنة بالأمة والدولة ذات الطابع العدوانى - الباحث)هى مسرح من نمط ما تشتبك عليه قضايا سياسية وعقائدية متعددة متباينة. هيهات أن تكون الثقافة مملكة ساجية ذات رقة أبوللوية, بل انها قد تكون ساحة عراك, فوقها تعرض القضايا نفسها لضوء النهار وتتنازع فيما بينها كاشفة, مثلا حقيقة أن الطلبة الأمريكيين, أو الفرنسيين, أو الهنود الذين يلقنون أن يقرأوا آداب أوطانهم المكرسة (الكلاسية)قبل أن يقرأوا آداب الآخرين, يتوقع منهم أن ينتموا بولاء غير نقدى الى أممهم وتراثاتهم فيما يزدرون الآخرين أو يحاربونهم.(..)ان المشكلة فى هذه الفكرة عن الثقافة هى أنها تقتضى لا أن يبجل المرء ثقافته وحسب, بل أن يفكر بها أيضا بوصفها معزولة عن عالم الحياة اليومية لأنها تتسامى فوق هذا العالم وتتجاوزه, ونتيجة لذلك فان معظم محترفى العلوم الانسانية عاجزون عن أن يعقدوا الصلة بين الفظاظة المديدة الأثيمة لممارسات مثل الرق والاضطهاد الاستعمارى والعنصرى, والاخضاع الامبريالى, من جهة .., وبين الشعر والرواية والفلسفة التى ينتجها المجتمع الذى يقوم بمثل هذه الممارسات من جهة أخرى. (26)
ان هذ التصور الأصولى هو المسؤل عن الرؤية المتعصبة غير النقدية, القائمة على التمجيد غير المشروط لمكونات هذه الثقافة واعتبارها المكون الأمثل المهدى من قبل قوى علوية اصطفت هذه الثقافة والمنتمين اليها, يستوى فى ذلك من يعتبر نفسه منتميا الى "شعب الله المختار", أو من اعتبر نابليون بمثابة "ماهومت غربى", خرج على نحو رسولى ليحرر "البرابرة" من وحشيتهم, ومن تصور أن "الأقدار" قد اختارته ليقود "الأمة الألمانية" الى تحقيق السمو والسيطرة على باقى البشر الذين هم أقل, عنده, فى الدرجة والقيمة, من أن يستحقوا الحياة. وهو المسؤل, كذلك, عن ايقاظ الثارات الطائفية والقومية التى مرت عليها عشرات ومئات السنين, ليدخل بلدانا مثل لبنان ويوجوسلافيا والسودان والعراق وطاجيكستان .. الخ, فى حروب أهلية طاحنة يسقط فيها مئات الآلاف من الأبرياء. وهو المسؤل أيضا عن ظهور الحركات الدينية المتعصبة التى لاتأبه بقتل المارة, وتطبق, بدم بارد, فقه "التترس" بعابرى السبيل الذين ساقهم حظهم العاثر فى طريقها, مدعية أنها بذلك ترسلهم الى الجنة, وان كان رغما عنهم وعلى غير رغبة منهم !!!!.
وهذا التصور الأصولى نفسه يقتضى أن تكون الثقافة الوطنية, ومن ثم الهوية الوطنية, مقتصرتين على ما يعرف ب .. "ثوابت الأمة" التى لايجوز المساس بها, وكأن هذه الثقافة تمثل كلا مصمتا خاليا من التفاصيل, مطلق الكمال والحضور عبر الأزمان. بذريعة ارتكازها على مسلمات مقدسة," كالدين" وما ارتبط به من أنساق قيمية وروحية, و"القومية" وما ارتبط بها من تصورات تعميمية عاطفية ونفسية لدلالاتها الفكرية والمعنوية.
وأرى أن الثقافة الوطنية والهوية الوطنية انما تمثلان كيانا متحركا ومتعدد الأبعاد, فى نفس الآن؛ فهو كيان متحرك لأنه كيان متكون عبر التاريخ وليس سرمديا, أى يخضع لشرطى الزمان والمكان ويخضع للمعطيات المعرفية والعلائقية التى تطرحها المرحلة التاريخية المحددة, دون غيرها. سواء, أكان ذلك قد تم بفعل عوامل داخلية خالصة, أم تم عن طريق التفاعل مع عوامل أخرى خارجية. ومن ثم يصبح هذا الكيان الثقافى كيانا متحولا ومتغيرا وليس ثابتا على أى نحو. وأتفق هنا مع ماذكره أمين معلوف فى كتابه الذى سبقت الاشارة اليه عندما يقول:
"ان عناصر هويتنا الموجودة أصلا فينا عند ولادتنا ليست كثيرة – بعض الصفات الخارجية, الجنس, واللون ... وحتى هذه العناصر ليست كلها فطرية . فبالرغم من أن البيئة الاجتماعية ليست هى التى تحدد الجنس بالطبع, فهى تحدد معنى هذا الانتماء, فولادة أنثى فى كابول أو فى أوسلو لايكتسب الدلالة نفسها"(27) .
وهو مايعنى أن الهوية ليست مركبة فينا على نحو وراثى (جينى) بل هى مكتسبة, حتى الجنس – النوع يكتسب دلالات مغايرة حسب المعطيات التى يوفرها المحيط الثقافى الذى ينشأ الفرد فى اطاره, وهو ما يؤدى الى امكانية تحول هذه النظرة الى النوع اذا تغيرت المعطيات الثقافية المولدة لها. ويمكننى أن أزيد على ذلك بأن أقترح تركيز المثال على فتاة (أوسلو) تلك, وأن ننظر الى معنى أو مفهوم كونها أنثى قبل خمسة قرون ومعناه ومفهومه الآن, فى هذا البلد نفسه. لقد تغير مفهوم الأنثى, بقدر هائل بالطبع, نظرا الى أن أوسلو نفسها قد تغيرت بالقدر ذاته, من خلال تغير أبنيتها الروحية ومسلماتها الفكرية وقيمها الأخلاقية .. انه تغير "ثقافي" هائل يمكن رصده على الصعيدين: الأفقى – المكانى (أوسلو وكابول) والرأسى - الزمانى (أوسلو قبل قرون وأوسلو الآن).
خطاب الهوية
ان الهوية حسب ذلك, انما هى معطى ثقافى مجتمعى, يتشكل طبقا لدرجة الانصهار الاجتماعى والخبرة التاريخية والوعى الثقافى المستقر والحاكم, كما أنها معطى تاريخى تم تشكيله ويتواصل تشكله الى ما لا نهاية. والفارق بين ثقافة دافعة نحو التقدم وأخرى كابحة عنه هو قابلية هذه الثقافة, أو تلك, للنقد والمساءلة من عدمه. من حيث ان هذه الثقافة المعنية تحتوى فى داخلها على مرونة تسمح بعمليات التجاوز والتحول والتشكل التاريخية المشار اليها, أم تتعامل مع ما تحصل لديها من تجارب الماضى وما ورثته عن الأقدمين, باعتباره مقدسا لايجوز المساس له. لذلك يرى (على حرب) فى كتابه: "حديث النهايات" أهمية اخضاع خطاب الهوية للنقد, من أجل التحرر من العوائق التى تشل الطاقة وتولد العجز والاخفاق, وذلك – فى رأيه – يحتاج الى ...
" تغيير نمط التعامل مع هوياتنا بحيث يمكننا أن نقيم مع الأصول والثوابت علاقة متحركة وتحويلية تتيح لنا أن نتغير عما نحن عليه عبر انتاج الحقائق وخلق الوقائع. بهذا المعنى نحن نحتاج الى الدفاع عن هويتنا, بقدر ما نحتاج الى عمل منتج نتجدد به بقدر ما نزداد تجذرا" .. ويواصل .. "من هنا فان مشكلة هويتنا ليست فى اكتساح العولمة والأمركة, على مانظن ونتوهم, بل فى عجز أهلها عن اعادة ابتكارها وتشكيلها فى سياق الأحداث والمجريات, أو فى ظل الفتوحات التقنية والتحولات التاريخية, أى عجزهم عن عولمة هويتهم وأعلمة اجتماعهم وحوسبة اقتصادهم وعقلنة سياساتهم وكوننة فكرهم ومعارفهم. تلك هى المشكلة التى نهرب من مواجهتها: عجزنا حتى الآن عن خلق الأفكار وفتح المجالات, أو عن ابتكار المهام وتغيير الأدوار, لمواجهة تحديات العولمة على صعدها المختلفة والمتعددة (..) ان هويتنا ليست مانتذكره ونحافظ عليه أو ندافع عنه. انها بالأحرى ما ننجزه ونحسن أداءه, أى ما نصنعه بأنفسنا وبالعالم من خلال علاقاتنا ومبادلاتنا مع الغير".(28)
وعلى ذلك, تصبح الطريقة المثلى للحفاظ على الهوية هى امتلاك القدرة على نقدها وتجاوزها والتحرر من تابوهاتها باتجاه التحام أوثق بمعطيات العصر والزمان واسهام أنشط فى فعالياته. وبالمقابل يصبح التمسك المتبتل بالماضى, بصرف النظر عن الصلاحية المجردة لمكوناته, مدخلا للفناء وحكما بالبقاء خارج التاريخ.
ان محتوى الهوية متغير ومتحول, اذن, وبشهادة التاريخ والجغرافيا. لكن تحولها مشروط (الى جانب العوامل التى تطرحها التحولات الاجتماعية العاصفة) بقابلية مكونات هذا المحتوى لذلك التحول, من حيث امتلاكه لآلية استيعاب المستجدات وهضمها والتفاعل معها. وهو ما يضمن – فى رأيى – امكانية استمرار هذه الثقافة ويحدد قدراتها على البقاء. وغياب هذه الآلية هو المسئول – فى جزئه الأكبر - عن اندثار كثير من الثقافات وانقراضها ومعها شعوبها, ويصبح مكانها الوحيد المناسب هو المتاحف.
من هنا يمكننا أن نفهم طبيعة تحول الثقافة المصرية والهوية المصرية عبر التاريخ , منذ العصر الفرعوني حتى الآن, بما فى ذلك العصور الهللينية والرومانية, ثم العربية – الاسلامية, وصولا الى التحولات التى ألمت بالشخصية المصرية والهوية الوطنية المصرية طوال القرون الخمسة عشر الماضية. والأمر لايختلف عند غيرها من الثقافات.
كما أن هذه الثقافة وتلك الهوية تمثلان كيانا متعددا, أى كيانا يمتلك مستويات متنوعة ومتعددة تنتظم تبايناته. سواء, أكان ذلك على أسس اجتماعية – طبقية, من قبيل المستويات المعيشية والانتماءات الطبقية, وما يرتبط بها من مستويات تعليمية وثقافية ومهنية مختلفة, أم على أسس جغرافية, من قبيل البيئات الطبيعية ( بادية, ريف, حضر, ساحل, داخل .. الخ), أم على أسس طائفية ومذهبية. وعلى ذلك, يمكننا القول بأن ثقافة العمال وفقراء المدن ومفهوم الهوية لديهم قد يختلف, على نحو أو آخر عن ثقافة الفلاحين, أو البدو, أو الشرائح العليا من البرجوازية ..الخ. على الرغم من أنهم جميعا يشتركون فى اطار ناظم أكثر عمومية وشمولية يمثل الهوية الثقافية الوطنية .
ويمكننا فى هذا الاطار أن نفرق بين نوعين من الهويات الثقافية :
- الهويات الثقافية الكبرى .
- الهويات الثقافية الصغرى .
أما الهويات الثقافية الكبرى فهى تلك التى تنتظم جماعات بشرية كبيرة , تضم أخلاطا من الديانات والمذاهب والأعراق والطوائف واللهجات وكافة التنوعات التى تمليها طبيعة الظروف والمعطيات ذات الطابع الاقليمى – التاريخى, فهى هوية جامعة تضم ولا تستبعد, تحتضن ولا تجنب, تحتوى ولا تنبذ. مثل الهوية الثقافية الهندية, أو الصينية, أو المصرية , أو الروسية .. الخ.
وأما الهويات الثقافية الصغرى, فهى تلك تنتظم جماعة بشرية محدودة وموحدة حول عنصر واحد فقط من العناصر السابقة, كأن تتوحد حول انتماء دينى - مذهبى, أو عرقى, أو اقليمى (مناطقى), واحد لا يقبل التعدد. وذلك مثل الأوضاع التى يمكن أن تمثلها حركات انعزالية وانفصالية مثل التبت, أو التاميل, أو النوبة, أوالأقباط, أو الأمازيغ, أو الشيعة .. الخ . (بصرف النظر عن التفاصيل السياسية أو الخلفيات التاريخية لهذه الحركات). لكن الملاحظ فى هؤلاء, جميعا, أن منطلقاتهم فى السعى نحو الاستقلال أو الانفصال, انما تنصب على الرغبة فى التخلص من انتماءات أكبر تنازع انتماءهم الأصغر, الذى هو بدوره قد لا يمتلك مرونة التفاعل والتحاور الحر مع باقى المكونات,ليستمر معها فى بوتقة واحدة. وفى بعض الأحيان قد يرجع السبب فى ذلك الى وجود نوع من الاستبداد السياسى أو القمع العنصرى من قوى أخرى فى البلد الواحد بما يجبر باقى المكونات الى البحث عن ملاذاتها الخاصة أو تتشرنق حول نفسها بغية الحماية. وفى كل الأحوال, فعند ظهور التشققات فى جسد الهوية الكبرى التى هى بمثابة الهوية الأم الجامعة, فلا بد أن نوقن أننا بازاء نوع الخلل البين فى طريقة عمل هذه الهوية, سواء على مستوى الجزء (الهوية الصغرى) أو الكل (الهوية الكبرى).
وتمثل نواتج العولمة, الموجهة من قبل الدوائر الرسمالية – الامبريالية الجديدة, تحديا كبيرا يجابه "الهويات الثقافية الكبرى". وذلك من خلال سعى المركز الامبريالى الى استنهاض "الهويات الصغرى" من خلال ابتعاث الاتجاهات الأصولية واذكاء نيرانها, على النحو الذى ذكر قبل قليل. بما يعنى اختلاق أو ابتعاث هويات صغرى : عرقية أو دينية أو جغرافية مناطقية..الخ. ويتم ذلك عبر آليات متعددة , منها ماهو سياسى أو عسكرى أو اقتصادى, ولكن دائما ما يكون التركيز الأساسى على الآليات الثقافية. وسوف أركز حديثى التالى, على هذه الآلية الأخيرة.
3- أنماط التفاعل الثقافى بين "المثاقفة" و"القسر الثقافى"
ان التصنيف الممكن للمفاهيم والخطابات المذكورة آنفا, سواء المتعلقة بخطاب الهيمنة والتنميط الثقافى, أو بخطاب الصراع الهوياتى المتعلق بعلاقة الهويات الصغرى بالهوية الكبرى والذى يمكن أن يتعداها ليشمل أنماطا أخرى من التضارب والتفاعل والتبادل, فيما أذهب, انما