موضوعان حول كارل ماركس ترجمة د. عبدو زغبور
2008-06-24
لـماذا لـم يـكن ماركس مـلحداً؟ / أندي بلوندن ـ ت ياسين الحاج صالح
كتب الماركسي الأوسترالي أندي بلوندن هذا النص في حزيران 2006. فضلا عن أهميته الذاتية، وعما قد يحوزه من فائدة للنظر في المشكلة الدينية الراهنة عندنا، فإن نشر نص حول ماركس ربما يكون مساهمة متواضعة في الاحتفال بمرور 160 عاما على "البيان الشيوعي". في شذراته المعروضة هنا يبدو ماركس في صراع مع أفكاره. هذا مفهوم. فقد كان الرجل شابا دون الثلاثين حين اعتنى بقضايا الدين. ولعل اهتمام ماركس بالمشكلة الدينية تراجع منذ أواخر أربعينات القرن التاسع عشر لأن الواقع ذاته كان يتكفل حلّها في أوروبا الغربية. فقد أنجز الجوهري من نقد الدين في ألمانيا كما يقول ماركس نفسه، وكأن سيادته السياسية نزعت لمصلحة الدول القومية، وسيادته العقلية لمصلحة العلوم الطبيعية والإنسانية. أما عندنا فبعيدا من أن تكون المشكلة الدينية قد حلّت، يتراءى لبعضنا بالعكس أن الدين هو الحل لمشكلاتنا الوفيرة، الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها. وفوق سيادة رمزية لا جدال فيها، فإنه يحوز سيادة عقلية واسعة إلى درجة تسخير العلوم الطبيعية لتثبيت سلطته أحيانا، ويتطلع إلى السيادة السياسية في أكثر بلداننا. للقارئ أن يقدّر إن كانت مقالة بلوندن وأفكار ماركس تفيد في مقاربة مشكلتنا الدينية. ما نحن على يقين منه أن مدى الانتفاع بها يتضاءل كلما تعاملنا معها تعاملا دينيا، على نحو كان شائعا قبل عقود قليلة، ولا يزال في بعض أوساطنا. آندي بلوندن من مواليد 1945 في أوستراليا لأبوين شيوعيين، درس الهندسة في ملبورن وفي لندن، وهو يعيش الآن في ضاحية قرب ملبورن.
قد يبدو عنوان كلامي مفاجئاً لبعضكم، غير أنها لحقيقة مجردة أن ماركس رفض أن يصنَّف كملحد منذ كان في الثالثة والعشرين على الأقل، وأنه لم يصف نفسه بالملحد قط. ليس موقفه المجمل من الدين مطابقاً لما يفترض في شأنه عموما، كما أن موقفه من المادية الفلسفية ليس موافقا لتأويله الشائع. لكن قبل أن أبدأ، يتعين عليَّ أن أدلي ببضع نقاط توضيحية صغيرة، وذلك فقط للتيقن من أننا لا نهدر وقتنا بكلام لا طائل من تحته، توجّهه مقاصد متعارضة.
نقاط توضيحية
بادئ ذي بدء، لست أزعم أن ماركس كان متدينا أو أنه كان غير مكترث بالإيديولوجيا الألوهية أو متعاطفا معها. لقد ذهب، بالأحرى، إلى أبعد من قضية وجود الله، ولم يكتف بإنكار وجوده. وتاليا، ينبغي أن يكون واضحا أني لا أدّعي أن ماركس كان لا أدريا. فهذا موقف بلغ من الغباء حد أنه لا يتفوق إلا على موقف أولئك الذين يمارسون الدين تحسبا لاحتمال أن يكون الله موجودا فعلا.
أخيرا، في كل ما أقوله عن الإلحاد، لا علاقة للإله الذي أتكلم على نكران وجوده بتصورات طفلية لإله أنثروبومورفي (مشابه للإنسان) يشرف على حركاتنا وسكناتنا، ويُؤثر قويمي السلوك من بيننا. لقد اختفى هذا الضرب من التصور من اللاهوت الجدي، دع عنك الفلسفة، منذ قرون خلت؛ وكان حوفظ عليه لوقت طويل لمواساة الجهلة وضبط الأطفال.
إن إلحادا يحدد نفسه بنكران هذا الصنف من الإله لا يستحق اسمه. أما الإلحاد الذي أتكلم عليه فهو إلحاد ينكر وجود إله من أيّ صنف، بما في ذلك ألوهة غير تدخلية تقتصر على كونها محركا أول، وبما في ذلك الإله السبينوزي (المترجم: في مطلع كتابه عن الأخلاق يقرر سبينوزا أنه ليس هناك غير جوهر واحد، هو الله أو الطبيعة) المتحد بالوجود.
على كل حال، أكرر القول إن هذا لا يعني البتة أن ماركس كان ربوبياً (المترجم: الربوبية هي الاعتقاد بوجود إله غير تدخلي، نوع من محرك أول، من دون آخرة أو حساب أو فروض دينية. و"الدين الطبيعي" مبني على هذا الاعتقاد) أو معتنقا لمذهب وحدة الوجود، ما أعنيه أن الرجل ينكر كل ضروب الإلوهة والربوبية ووحدة الوجود، بما فيها تلك الضروب التي تنتحل زياً إلحاديا أو فلسفيا.
في أيامنا هذه نواجه انبعاثا لما يسمى "الأصولية"، والواقع أن الأصولية المسيحية تمكنت من الاستيلاء على مواقع قوية جدا في العالم، على رغم أن الأصوليين يبقون أقلية صغيرة من مجموع السكان ككل. وبالطبع يزكي الأصوليون المسيحيون هؤلاء تصورا طفليا لله. وفكرتي أنا هي أن الماركسيين والملحدين من كل صنف سيجدون أنفسهم في تحالف مع قوى التيار المسيحي الرئيسي (المترجم: غير الأصولي) الأعرض بكثير في مواجهة تلك الغباوة الرجعية. ورأيي أنه ليس للنضال ضد تلك الدوغما الصبيانية وغير المتسامحة أيّ صلة بالإلحاد. آمل أننا متفقون جميعا على ذلك. فالإلحاد مطروح على مستوى أعلى، إن أمكن القول. فإذا كنت ملحدا، لن تكون ضد بيركلي والبابا فقط، وإنما ضد سبينوزا وروسو أيضا. .
تبقى نقطة أخيرة في هذا التقديم. سأقتبس كثيرا من ماركس لأن مقصدي هو توضيح رأي ماركس وليس رأيي أنا، وبتحديد أكبر أن أثبت أن ماركس رفض تصنيفه "ملحدا". ليس غرضي أن أحاضر عليكم بآرائي في شأن الإلحاد. ستظهر آرائي بالطبع، لكن عرضيا فحسب.
ماركس والمادية الفرنسية
إن مؤسسي الإلحاد الحديث هم ماديو القرن الثامن عشر الفرنسيون: جان ملييه، جوليان لا متري، دنيس ديدرو، هولباخ، أنارشازيس كلوت، جاك هيبير وأمثالهم. كان ماركس صريحا في اعتبار مفكري هذا التيار مصدر النظرية السياسية الشيوعية الحديثة. كتب ماركس في العائلة المقدسة مقابِلاً بين هؤلاء الكتّاب والمادية الديكارتية "العلمية": "يفضي التيار الآخر في المادية الفرنسية مباشرة إلى الاشتراكية والشيوعية. وما من حاجة إلى كثير من نفاذ البصيرة لنرى من تعاليم المادية في صدد الخيرية الأصلية للإنسان والمواهب العقلية المتساوية للناس والقوة الحاسمة للتجربة والعادة والتربية وتأثير البيئة على الإنسان والأهمية العظيمة للصناعة وتسويغ التمتع إلخ، لنرى كم أن المادية على علاقة ضرورية بالشيوعية والاشتراكية".
لقد كان الملحدون هم اليسار الأقصى في الثورة الفرنسية. فإنكار الله كان إنكارا لكل سلطة على الإنسان لمصلحة حرية البشر الكاملة في تنظيم العالم لمصلحة الإنسان. كان أيضا اللافتة التي شنّت باسمها الحرب ضد ممثلي الله على الأرض، أي الكهنوت المسيحي. رأى ماركس نفسه بجلاء تام مشاركا في حركة تمتد أصولها، عبر بابوف وبلانكي، في تربة المادية الفرنسية.
لكن حين انضم ماركس إلى "الاشتراكية الحقيقية" على يد موس هس، وشرع في الكتابة السياسية كأحد أتباع لودفيغ فويرباخ، كان عبوره من هذه البداية إلى نقد صارم لا لين فيه للحركة الشيوعية في أيامه عبورا بالغ السرعة. تمثل أحد انشغالات ماركس في إنقاذ تبصرات الفلاسفة المثاليين الألمان من إسقاط طائش لها في غمار الحماسة للإلحاد الفرنسي الراديكالي الجديد.
نقد الدين
في ملاحظة شهيرة في مطلع مدخل إلى "نقد فلسفة الحق عند هيغل"، كتب ماركس: "في خصوص ألمانيا، لقد اكتمل نقد الدين في أساسياته، ونقد الدين هو الشرط المسبق لكل نقد". وبينما لفت إلى أن المهمة الملقاة على عاتق الإلحاد قد أنجز الأساسي فيها على يد الثورة الفرنسية، رأى أيضا نقد الدين نموذجا لنقد الرأسمالية.
منذ عام 1842، وكان في الثالثة والعشرين، كتب ماركس إلى صديقه أرنولد روج أنه يرفض لنفسه "صفة "الملحد" (التي تذكّر المرء بالأطفال وهم يؤكدون لكل من هو مستعد لسماعهم انهم لا يخافون من البعبع)، وأنه يفضل بدلا من ذلك أن يوضع مضمون الفلسفة بين يدي الشعب" (رسالة إلى روج، 24 تشرين الثاني 1842).
في مخطوطات 1844 جادل مارس بأنه مع انتصار الثورة البورجوازية وبروز حركة العمال المناضلة من أجل الاشتراكية، فأخذ الإلحاد يغدو مفارقة تاريخية: "لما كان الوجود الحقيقي للإنسان والطبيعة قد غدا ظاهرا في الممارسة، عبر التجربة الحسية، لأن الإنسان غدا ظاهرا للإنسان ككائن للطبيعة، والطبيعة غدت للإنسان كائنا للإنسان (المترجم: قد يعني ذلك: ما دام الإنسان والطبيعة قد حازا السيادة واستقلا عن كل قوة متعالية)، فإن مسألة وجود كائن غريب، فوق الطبيعة والإنسان، المسألة التي تتضمن إقرارا بلا حقيقية الإنسان والطبيعة، قد أضحت مستحيلة عمليا. وعليه لم يعد للإلحاد، من حيث هو نفي لله، أي معنى؛ ولا كذلك من حيث تسليمه بوجود الإنسان عبر هذا النفي. فالاشتراكية، بما هي كذلك، لم تعد في حاجة إلى توسط كهذا (المترجم: وساطة نفي الله لإثبات الإنسان)".
الاختلافات الأهم في السياسة هي دوما، بالطبع، تلك التي تميزك عن أصدقائك. إن موس هس، الذي ضم إنغلز إلى الشيوعية، وصاحب الفضل الأصلي في وضع شعار "الدين أفيون الشعب"، والذي بقي على تعاون وثيق مع ماركس حتى ستينات القرن التاسع عشر، صار هدفا لهجوم "البيان الشيوعي" لأنه يندد بالحقوق البورجوازية حتى قبل أن يتم إحرازها في ألمانيا. في نظر ماركس، كان هذا الصنف من المنافحة الصادحة عن فضائل الاشتراكية، المتعارض تماما مع شروط تحقيقها، معادلا لمساندة الرجعية. كانت معارضة ماركس للإلحاد وثيقة الارتباط بمعارضته لهذا الصنف من النزعة اليسارية القصووية الفائقة، الغافلة عن حالة الوعي في أوساط الطبقة العاملة الألمانية.
كان أستاذ ماركس في الفلسفة، لودفيغ فويرباخ، هو الملحد الألماني الأوسع شهرة، وكان يتهم هيغل بإلغاء التاريخ فقط ليستعيده في الفلسفة. وإنما عبر نقده لمادية فويرباخ صاغ ماركس نظراته الخاصة.
فلنلق نظرة على ما قاله ماركس في صدد نقد الدين. يقول في مقدمته الشهيرة: "إن جذر النقد اللاديني هو: الإنسان يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان. وإن الدين هو بالفعل الوعي الذاتي والاعتبار الذاتي للإنسان الذي إما أنه لما ينجح بعد في شق طريقه إلى نفسه وإما أضاع الطريق ثانية. بيد أن الإنسان ليس كائنا مجردا يقبع خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان، الدولة، المجتمع. الدولة تلك والمجتمع هذا ينتجان الدين، الذي هو وعي مقلوب للعالم، لأنهما هما عالمان مقلوبان. الدين هو النظرية العامة لهذا العالم،... ملجأه الأخلاقي، كمالته الرصينة والقاعدة الشاملة للمواساة والتسويغ فيه. إنه التحقيق الخيالي للجوهر الإنساني لأن الجوهر هذا لما يحز أي تحقق واقعي. لذلك فالصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد ذاك العالم الذي يمثل الدين أريجه الروحي. إن المعاناة الدينية هي في الآن ذاته تعبير عن المعاناة الواقعية واحتجاج على المعاناة الواقعية. الدين تنهيدة الكائن المضطهد، قلب عالم لا قلب له، وروح شروط بلا روح. إنه أفيون الشعب".
ليس الإلحاد، تاليا، مجرد هجوم يستهدف العرض بدل المرض، بل إنه هجوم على الوسيلة التي تتوسل بها الجماهير لتحمل معاناتها.
موضوعات حول فويرباخ
إن لب نقد ماركس موجود في هذه الموضوعات؛ ليس نقده للدين فقط، وإنما كذلك للرأسمالية. يحتاج الناس، ممن ليسوا فلاسفة، إلى الدين، أقله في شروط الاضطهاد والاغتراب. يحتاجونه على نحو ما يحتاجون مثلا عليا وأبطالا، أو حتى آمالا ضئيلة كي يناضلوا ويضحوا من أجل عالم أفضل. لذلك فالجدال ضد الدين بدل معالجة الشروط التي يتولد منها الدين يعطي نتائج عكسية. وكما يقول ماركس في "الموضوعة الرابعة حول فويرباخ": "ما إن نكتشف أن العائلة الأرضية هي سر العائلة المقدسة، حتى ينبغي لنا أن نصفّي الأولى ذاتها نظريا وعمليا".
نقد ماركس للمادية
نقد ماركس للمادية الفلسفية واضح في الموضوعة الأولى: "يتمثل العيب الرئيسي في المادية الموجودة حتى أيامنا، بما فيها مادية فويرباخ، في أنها تتصور الموضوعية والواقع والعالم الحسي في صورة الموضوع أو التأمل، لا كفاعلية إنسانية محسوسة، كممارسة، أي ليس ذاتيا. لذلك فقد وقع تطوير الجانب الفاعل على عاتق المثالية وبالتعارض مع المادية، بيد أنه تطوير مجرد لأن المثالية لا تعرف بالطبع الفاعلية الحسية بما هي كذلك".
ليس نقد ماركس للمادية الفسلفية شأنا عارضا. فإذ تبين الدور التاريخي التقدمي الذي لعبته المادية الفلسفية على نحو ما تمثلت في ملحدي القرن الثامن عشر الفرنسيين، أخذ يرى أن هذا الموقف صار يتعين تجاوزه: "إن مسألة ما إذا كان يمكن عزو حقيقة موضوعية إلى التفكير الإنساني ليست مسألة نظرية بل هي مسألة عملية... وما الجدال في شأن واقعية ولا واقعية التفكير في معزل عن الممارسة غير مسألة محض سكولائية".
إن المادية الدوغمائية من الصنف الفويرباخي تضع نفسها فوق المجتمع وخارجه (الموضوعة الثالثة): "إن المذهب المادي الذي يقرر أن الناس إنتاج للظروف والتربية، ومن ثم أن أناسا متغيرين هم إنتاج ظروف متغيرة وتربية متغيرة، ينسى أن الناس هم من يغيرون الظروف وأن المربّي في حاجة إلى تربية هو ذاته. لذلك يتحتم على هذا المذهب أن يقسم المجتمع قسمين، أحدهما متوضع فوق المجتمع ذاته...".
يتعين فهم اقتراح ماركس المضاد على أكمل وجه. يقول في الموضوعة الثامنة: "الحياة الاجتماعية عملية في أساسها. والألغاز التي تقود التفكير النظري نحو الصوفية تجد حلها العقلاني في الممارسة الإنسانية وفي استيعاب هذه الممارسة".
وليس الحل هذا هو العقل، ولا الطبيعة، ولا الإنسان، فهذه تجريدات، وإنما هو "الأفراد الحقيقيون، نشاطهم والشروط المادية التي يعيشون في ظلها" (الإيديولوجيا الألمانية، 1 آ).
وحدة الوجود والمادية
إله أو لا إله، هذا لا يجدي شيئا
إن المادي الذي يفخر بأنه لا يؤمن بالله، وبأنه بالعكس يؤمن بأن كل شيء تحكمه الطبيعة أو تحدده قوانين الطبيعة (أو قوانين التاريخ، لا فرق) يختلف عن المؤمن بوحدة الوجود في الاسم الذي يعطيه للرب، وليس في الضرورة في أي شيء آخر.
دعوني أعطكم أمثلة مما قاله الماديون الفرنسيون العظام الذين أحلتُ عليهم فوق.
قال جان ملييه في عام 1742: "سأختم بأن أرجو الله الذي تثير تلك الطائفة سخطه أن يتلطف ويعود بنا إلى الدين الطبيعي، الذي ليست المسيحية غير عدوه الصريح".
أما لامتري فكتب عام 1748: "لقد خلقتنا الطبيعة جميعا لا لشيء إلا لنكون سعداء... ولهذا الغرض أعطت الحيوانات جميعا قسطا من القانون الطبيعي".
وقرر كلوت عام 1793 : "ما من إله آخر غير الطبيعة".
من جهته عزم روبسبير على بعث ما يسمّى الكائن الأسمى، وعيّن يوما وطنيا ليقوم الفرنسيون بعبادته. ليست مفاهيم مثل المادة، الطبيعة، الأرض (غايا)، التاريخ، العقل... غير أسماء أطلقتها طوائف مختلفة على الله، الأمر الذي تشير إليه عادة كتابة الحرف الأول من هذه الكلمات بحرف كبير.
ربما ليس تماما. فبالطبع يضمر الاسم الذي يطلق على الله نظرية كاملة حول طبيعة الله وكيفية معرفته، وهنا تكمن الفوارق الجوهرية. حين شيّأ الثوريون الفرنسيون العقل واستولوا على ممتلكات الكنيسة المسيحية، كان هذا بالطبع تغيرا حقيقيا وماديا جدا. أما حين تكتفي بإنكار وجود أي إله، فإنك تترك مسألة الافتراضات الأساسية التي يمكن تبيّن معنى العالم استنادا إليها من غير إجابة. ولعلنا نتوسع في مناقشة هذه النقطة لاحقا.
ليست المسألة مسألة وجود الله. إن المادة، على سبيل المثال، اسم أعطي للمطلق من قبل المادية. فإذا أعطينا أسبقية للمادة على الوعي فقد لا يكون ذلك غير مجرد صيغة من صيغ وحدة الوجود. العلم يختلف عن الدين في نظرية المعرفة التي تستخلص منه.
لا معنى إذاً للاكتفاء بنكران وجود الله. ما معنى قولنا "يوجد"؟ إن تأكيد أن كينونة ما، إلهية أو غير ذلك، توجد بصرف النظر عن المعنى الذي قد يحوزه هذا الوجود في الممارسة الإنسانية، هو تقرير ضمني لألوهة من نوع ما.
وليس لنكران الوجود مغزى مختلف عن ذلك. عليك أن تحدد بوضوح ما تعنيه بقولك إن شيئا ما موجود قبل أن يكون لقولك إن الشيء غير موجود أي معنى.
على سبيل المثال، كنت أنا طوال سنوات مدافعا عما يسمى "ديالكتيك الطبيعة". وهذا، مثل الداروينية الاجتماعية، يزعم استنباط قوانين المجتمع من قوانين الطبيعة. بيد أنه موقف غبي فعلا، وقد نتناوله في وقت آخر. وإنما نوع التصور هذا الذي يعزو خصائص معينة للطبيعة (الله) بغية إثبات أن الخصائص هذه ينبغي تطبيقها على الحياة الإنسانية، هذا النوع من التصور هو الذي وصفته بأنه غير مختلف جوهريا عن الربوبية أو وحدة الوجود.
إن فكرة "الله"، ومثلها فكرة "الطبيعة"، ليست إلا المطلق ضمن نظام فكري معطى، "الدال الكوني" بلغة ما بعد الحداثيين. أما عند الاشتراكيين فالمطلق هو النشاط الإنساني، الممارسة، ما هو ذاتي وموضوعي معا. وهذا التصور يختلف اختلاف الطبشور عن الجبن عن كل إشكال الألوهية والربوبية، مادية كانت أم مثالية.
خاتمة
ختاما، ينبغي لي أن ألفتكم إلى أن ماركس احتفظ بعداء عنيد للكهنوت وكل مؤسسات النظام القديم التي استخدمت لإبقاء الجماهير في حالة خضوع وجهل، وهو لم يجر أي تسوية مع مؤسسات الكهنوت الرجعية. ولقد قال: "ليست الاشتراكية المسيحية غير الماء المقدس الذي يقدس به القسس حرقة قلب الأريستوقراطيين" (البيان الشيوعي).
لقد عارض تأثير الدين على الطبقة العاملة، لكن فقط في وصفه شكلا واحدا من أشكال تظاهر الصوفية، إلى جانب أشكال أخرى ذكر منها الإلحاد في أيامه.
كما تنبأ بيوم في المستقبل لن يكون فيه لله مكان في الشؤون الإنسانية، لأن ذلك العالم الذي يمثل الدين أريجه الروحي سيكون قد اندثر. بيد أن ذلك لا يزال شأنا من شؤون المستقبل ¶
(أندي بلوندن ترجمة ياسين الحاج صالح)
ملحق النهار الثقافي
تقرير مُخبر بروسي عن كارل ماركس ترجمة وإعداد: د. عبدو زغبورتسنى لمخبر بروسي في العام 1853, تحت ذريعة خادعة الدخول إلى بيت ماركس في دن سترت, والتقرير الذي كتبه لحكومته, بصرف النظر عن الملاحظات الشخصية المشكوك فيها, و الإشاعات التي جمعها من كل مكان, تقرير جدير بالاهتمام, فهو يصف بشكل دقيق الحالة السكنية البائسة التي كان يعيشها ماركس آنذاك:
"قائد هذا الحزب (الحزب الشيوعي) هو كارل ماركس, مساعدوه هم : أنجلس في مانشيستر (...), فراليجرات وفولف, يدعى أيضاً لوبوس, في لندن, هاينه في باريس, فايديماير وكلوس في أمريكا. أما بيرجرس ودانيال فقد كانا في كولونيا, وفيرت في هامبورغ. كل هؤلاء هم أعضاء عاديون, لكن العقل المبدع والفاعل, روح الحزب هو ماركس. لذا أريد أن أعرفكم على شخصيته عن قرب:
ماركس متوسط القامة, عمره 34 سنة, بدأ الشيب يخط شعره رغم عمره الفتي. بنيته قوية, ملامح وجهه تذكر كثيرا بسيزمر (Szemere) (ثوري هنغاري), لونه فقط أكثر سمرة, شعره أسود وكذلك لحيته, وهذه الأخيرة لا يحلقها البتة.
لعينيه الناريتين النافذتين, عينيه السوداوين الكبيرتين شيء ما جني ساحر, يلاحظ المرء من اللحظة الأولى عبقريته وطاقته الهائلة. تفوقه العقلي والروحي يمارسان قوة جذابة لا تقاوم على محيطه. مهمل للغاية في حياته الخاصة. إنسان ساخر, مدبر سيء لأمور البيت, يعيش حياة غجرية حقيقية. (Il mene une vie a la bohemian de l'intelligence).
غسيل, تمشيط, تبديل ملابس من المسائل النادرة عنده. ينتشي بمتعة, يسترخي مراراً أياماً بطولها, لكن إذا كان لديه عمل كثير فيعمل ليلاً نهاراً بدأب وبلا. لا يوجد عنده أوقات محددة للنوم والاستيقاظ. كثيراً ما يبقى ليالي بطولها دون نوم, ثم يستلقي ظهراً بكامل ثيابه على الكنبة وينام حتى المساء غير مهتم بما يجري حوله بحرية من حركة دخول وخروج.
زوجته هي أخت الوزير البروسي فون فستفالن. امرأة مثقفة ولطيفة جداً.ومن جرّاء حبها لزوجها, اعتادت على حياة الغجر هذه, وتآلفت مع هذا البؤس الذي تعيشه مع زوجها. لها طفلتان وصبي. الأطفال الثلاثة جميلون جداً ولهم العيون الذكية لوالدهم.
ماركس كزوج ورب عائلة, رغم طبيعته القلقة والثائرة, أكثر الناس إرهافاً وألفة.
يسكن في أسوأ وبالتالي أرخص مساكن لندن. سكنه مؤلف من غرفتين واحدة وهي الصالون تطل على الشارع, وخلفها غرفة النوم.
في كل أرجاء البيت لا تجد قطعة أثاث نظيفة وجيدة, كل شيء مكسّر, ممزق ورث. في كل مكان علق غبار بسماكة الإصبع, فوضى بالغة في كل مكان. في منتصف الصالون طاولة قديمة ضخمة ذات غطاء مشمّع, عليها مخطوطاته, كتبه وجرائده, ثم لُعب الأطفال وقصاصات الأقمشة من آلة الخياطة للزوجة. إلى جانبها كؤوس الشاي المكسّرة الأطراف. ملاعق وسخة, سكاكين, شوك, شمعدان, محابر, كؤوس الشرب, غليون هولندي من الفخار, رماد التبغ, وكل هذه الكراكيب متراكمة فوق بعضها البعض. كل ذلك موجود على طاولة واحدة (...).
إذا دخل المرء بيت ماركس يغمر عينيه دخان الفحم الحجري والتبغ, حتى أنه في اللحظات الأولى عليه أن يتحسس طريقه وكأنه يدخل كهفاً, إلى أن يعتاد النظر بالتدريج على ذلك, فيستطيع أن يتبين من خلل الضباب بعض الأشياء.
كل شيء وسخ, كل شيء يكسوه الغبار. الجلوس مسألة ذات خطر حقيقي. هنا كرسي يقف على ثلاثة أرجل, وهناك يلعب الأطفال على كرسي آخر ما زال بالصدفة سليماً, يحملونه للضيف القادم دون أن ينظفوه مما طبخ عليه الأطفال, وإذا ما جلست تجازف بسروالك.كل ذلك لا يربك ماركس وعقيلته أبداً.
يستقبلون المرء بألطف ما يكون, ويحملون إليه الغليون والتبغ وأشياء أخرى مما هو موجود بحرارة وود خالصين. حديثهم الخفيف الروح والممتع يعوض أخيراً جزئياً عن عيوب البيت, ويجعل هذه العيوب محتملة, حتى أن المرء يتآلف مع هذه الجماعة ويجدها ممتعة حتى أنها أصيلة.
هذه هي الصورة الصادقة للحياة العائلية لزعيم الشيوعيين ماركس".
وقبل أكثر من عشر سنوات من هذا التقرير كتب موسِس هسّْ في رسالة له إلى برتولد أورباخ في 2 أيلول 1841 ما يلي:
"ستبتهج إذ تتعرف هنا على رجل هو الآن أيضاً من عداد أصدقائنا, مع أنه يعيش في "بون", حيث سيصبح أستاذ جامعة قريباً (*).
(...) إنه ظاهرة نادرة, ترك في نفسي انطباعاً هائلاً, رغم أنني أتحرك في ذات الحقل الذي يعمل فيه, باختصار يمكنك أن تهيء نفسك للتعرف على أعظم فيلسوف, وربما الفيلسوف الحقيقي الوحيد الآن بين الأحياء, والذي سيلفت أنظار ألمانيا إليه, حيث سيظهر على الملأ قريباً (بكتاباته أو على منصة التدريس).
إنه يفوق, سواء بنزعته أم بثقافته الفلسفية, ليس فقط شتراوس, بل أيضاً فيورباخ, وهذا الأخير يعني الكثير!
لو كان في وسعي أن أكون في "بون" عندما يحاضر في علم المنطق, لكنت من أكثر مستمعيه دأباً. لقد تمنيت دائما مثل هذا الرجل كمعلم لي في الفلسفة (...).
دكتور ماركس, هذا هو اسم معبودي. ما زال شاباً يافعاً (حوالى 24 سنة على الأكثر), وهو الذي سيوجه الركلة الأخيرة لسياسة ودين القرون الوسطى.
إنه يمزج بين جدية العمق الفلسفي والسخرية اللاذعة. تخيل فولتير, هولباخ,لسينغ,هاينه وهيغل متحدين في شخص واحد, أقول متحدين وليس مرميين سويةفي وعاء, تحصل على دكتور ماركس".
(*): في 15 نيسان 1841 حصل ماركس على لقب دكتوراه في الفلسفة, وسافر بعد ذلك بعدة شهور - في تموز - إلى "بون" حيث كان يطمح آنذاك بالحصول على كرسي تدريس في جامعة بون, وأقام هناك عند صديقه "برونو باور", الذي كان يحاضر في الجامعة, حتى ك1 1841.
في هذه الفترة تعرّف موسس هس في رحلة له إلى "بون" على كارل ماركس.
ترجمة وإعداد: د. عبدو زغبور
موقع الامبراطور
08-أيار-2021
04-شباط-2017 | |
02-تشرين الثاني-2015 | |
22-تموز-2015 | |
في الذكرى الثالثة للثورة السورية نهاية جيل من التفكير السياسي السوري وبداية جيل |
20-آذار-2014 |
04-كانون الأول-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |