قصائد من الشعر الفرنسي المعاصر / تقديم وترجمة: عبد اللطيف الوراري
ألف
2021-04-10
في معنى الواجب.. في معنى أن تكون الترجمة مِحكّاً:
لطالما فكّرْتُ، وأنا أقرأ الشّعر مُترجَماً أو بصدد ترجمته عن الفرنسية، في ما رآه الجاحظ، وهو يقول إنّ "الشعر لا يُستطاع أن يُترْجَم، ولا يجوزُ عليه النقل، ومتى حُوّل تقطَّع نظْمُه، وبَطُل وزْنُه، وذهبَ حسْنُه، وسقطَ موْضعُ التعجُّب، لا كالكلام المنثور". الشعر لا كالنثر. قد يجوز الأمر في النثر، الواضح والمعقول والعادي. أمّا في الشعر، الغامض والهشّ، فإنّه يصعب من وُجوهٍ كثيرة، حتّى يستحيل الأمر خيانةً، بله خسارة. لا يضيع المعنى فحسب، بل الأسلوب وإيقاع الكلمات وجرسها العابر للذّات وخطابها المفرد والخاص. هذا واقعٌ لسوء حظّ الشعر. لكن، أليس بالإمكان ترجمة الشعر؟ بلى. لا أنسى، هنا، رأياً ثانياً للشاعر الفرنسي بيير ليريس، وهو يرشدنا إلى أنّ "ترجمة الشعر أمْرٌ مستحيل، مثلما الامتناع عن ترجمته أمرٌ مستحيل". في زمننا، صار لترجمة الشّعر معنى الواجب.
بالنسبة لي، لا أعتبر نفسي مترجماً، أنا قارئ للشعر "الآخر"ـ الفرنسي تحديداًـ، وفي نيّتي أن أتعلَّم من متخيّلات شعرية غريبة عنّي بما توافر لها من أسباب العجب والفرادة والاختلاف، لكن سرعان ما وجدتُ نفسي أرتكب مثل تلك الخيانة الممتحنة لمدى خيالي. في ترجماتي المقترحة لنصوصٍ من الشعر الفرنسي المعاصر، لاسيما نصوص هنري ميشونيك وأندري فيلتر وبرنار مازو وماري كلير بانكار ، تبيّن لي أن لكلّ شاعر "عقدة إيقاعيّة"، وليس بمقدوري أن أعكسها إلّا على نحو تعويضيّ، إن ملأتها بذبذباتٍ من وجيبي الداخلي الذي يتجاوب مع تجاربهم المنادية عليّ، وأدخلتُها في علائق صوتيّة ودلاليّة جديدة تمنحها تأويلاً جديداً، وقيمةً مُضافة جديدة داخل لغتي التي أُبدع بها، وأحيا فيها . لكنّي، في كلّ يومٍ أكتشف ما معنى أن تصير الترجمة «محكّاً»، فلمّا نحن نترجم "فكأنّنا نلقى بين اللغتين تفاهماً هو من العمق والانسجام، بحيث تحلّان محلَّ المعنى وتتمكَّنان من جعل الفجوة بينهما منبعاً لمعنى جديد"، بتعبير موريس بلانشو.
الشعر الفرنسي وزخم الغنائية الجديدة:
غطّى بودلير ورامبو وملارمي بوصفهم الشعراء الحديثين ذائعي الصّيت الّذين رجّوا شجرة نسب الشّعر ليس في فرنسا وحدها فحسب، بل في أرجاء المعمور على مُنْجز كثيرٍ من مُواطني بلدهم ولا يزالون، فيما أظنّ، حتّى اليوم. ربّما الّذين خبروا نِداءَ القصيدة ممّن جارَوْهُمْ في نزعة التّجديد ومُغامرة الكشف والتّجاوز من قلائل الجيل التّالي ضمنوا لأنفسهم مكانا معلوماً وخاصّاً في درس التّاريخ من أمثال سان جون بيرس وروني شار وهنري ميشو وإيف بونيفوا تحديداً. لكنّ شعراء كُثراً في فرنسا، في زخم الحركة الثّقافية الأكثر تقلُّباً وعمى الألوان حتّى، لم يأخذوا حقّهم من التّداول كما يجب، بلْ إنّ منهم قلّ أنْ تسمع باسْمِه حتّى وإنْ كان منجزهم الشّعري جديراً بالاعتبار، أمّا الّذين تحسّسوا بوطْء أقْدامهم، بلْه أقلامهم ألْغام الأرض، وآثروا السّلامة فإنّهم انصرفوا إلى أجناس أخرى من الكتابة، وأراضيَ ما تفْتأُ بِكْراً. تلك فاتورةُ التّاريخ الّتي يُبْهظُها الأوّلون، ويؤدّي ثمنها ممّن تأخّر بهم وقْت الهِبات بلا حساب، ولنا في تاريخنا الشّعري الحديث درْسٌ من ذلك، ربّما يسطع أكثر في البِلاد ذات التّقليد الشّعري العريق. ولهذا نفهم كيف أنّ شعراء العراق ولبنان وسوريا ومصر وتونس والمغرب، بالتّرتيب وتمثيلاً لا حصراً، يَشْكون من الْحُجُب الشّفيفة أو السّميكة لروّاد الحداثة، بحقٍّ ودُونه.
ومهما كان من أمر، فإن في فرنسا حركة ثقافيّة (احتفاليّات، تظاهرات، أنطولوجيّات..) تعيد الاعتبار لأولئك المتأخّرين ممّن لم يجيدوا التّرويج لأنفسهم، وأغلبهم من ذوي الإيقاع الخفيض الّذي يميل، في العمق، إلى شعر يعيد إنتاج غنائية جديدة عبر كتابة لا تعتمد على اللّعب اللغوي، بل هي، بالأحرى، تكشف المعاني المتحدّرة من أعماق الأنا، والموحية بالنبرة الغائبة التي تكتنفها الأسرار الملغزة للوجود. ولكم كانت الغنائية غائبة عن الشعر الفرنسي حتّى ظنّ النّاس زوالها فعادتْ أقْوى وأصفى من غير ما فجاجة رومنطيقيّة مع هؤلاء الشعراء المعاصرين منذ نهاية القرن المنصرم: شارل جوليي، ألبان جيلي، مارك آلين، أندري فيلتر، كلود استيبان، أنيز كولتز، جون ميشال بولبوا، وليونيل راي، وبرنار نويل وبرنارد مازو، ثمّ هنري ميشونيك.
هنري ميشونيك: هواء اليوتوبيا
لا يحتاج هنري ميشونيك (1932 ـ 2009) إلى تقديم، وإن كانت وضعيّته كشاعريّ ولغويّ ومترجم قد غطّت على قدره كشاعر وجد نفسه يواجه الشّعر ويكتبه عن ميْلٍ لا عن تصنُّع، وهو في السادسة عشرة من العمر. لقد سعى بهبة الكلمات الّتي لديه إلى أن يكون مهموماً بطفولته التي استهلكتْها أيام الحرب والمطاردة والخوف، وأن يكون شاهداً على ذلك العذاب الذي يلحقه الناس بالنٌاس، قبل أن يتوجّه لدراسة الآداب حتى يتحرٌر ماديٌاً. بين الفكر والقصيدة، جعل هنري ميشونيك من عمله عملاً لا ينفكُّ عن أخلاقيّاته، وما يني يقدّم نفسه طريقةً لاستبصار الحياة. كما عمل على هدم أسوار " اللّاهوتي ــ السياسي" التقليدية، ممّا أدخل في شعره، وفي فكره الشعريّ بالنتيجة، قدْراً هائلاً من هواء اليوتوبيا التي تقترح واجب حماية التعدُّد، بما في ذلك تعُّدد اللُّغات التي تفرض نفسها. يقول ميشونيك: أكتب القصائد، وهذا ما يجْعلُني أفكّر في اللغة بصفتي شاعراً لا لغويّاً. ما أعرفه وما أبحثه يمتزجان. وحتى ما أترجمه، ولاسيّما النصوص التواراتية. وهكذا لا يوجد لا البيت ولا النثر، ما يوجد إلّا أسبقيّة الإيقاع المعمَّمة، في سمعي...حتّى القصيدة، تلك التي أعني بها تحويلاً لشكل الحياة إلى شكلٍ لغويّ ولشكل اللُّغة إلى شكل حياة، تتقاسمُ مع التأمُّل المجهولَ نفسه، الخطرَ نفسه واللذّةَ نفسها..". صدرت له مجاميع شعرية عديدة آخرها كان "والأرض تسيل"2006م. في قصائد هنري ميشونيك تكلّمنا قوّتها العارية مع صرامة كلماتها البسيطة والمضيئة الّتي تؤرّخ للبدايات وللأصل، بالقدر الّذي تؤذينا في الصميم داخل انسيابيّةٍ طافحة بإيقاع الذّات، مثل هذه القصيدة الّتي تسيل مثلما " الأرض تسيل، كما يسيل الدّم".
والأرْضُ تسيــل
والأرْضُ تسيل
من الدّم تسيل
بقدْرما الأقوال
تمتزجُ
بها
منذ متى عبرْناها
لأجْل الحيّة
البشوشةُ
الّتي دائماً ما تُلازمُنا
كلَّ يـد
أنْظُر إليكم
بطريق الصّدفة
وقْتَما أمشي
بحيْثُ إنّ الزّمن
الّذي يعبُرُنا
ليْس إلّا
النّوْم
يسهرُ
من أجْلِنا
وليْسَ إلّا الصّرْخات تحْدُث بالصّمْت
لمّا الصّمْت
يخْنُقُ الصّمْت
وليْس إلّا الأقوال
الآنَ
تكُونُ بالدّم الّذي يخْرُج من الأفْواه
ولمّا نُريد
أن نتكلّم يوْماً
فإنّما بسبب اللّيْل
الّذي يتكلّمُنا
ولمّا نعتقِدُ أنّنا نُطْعَم
فإنّما من الأرْض
الّتي نَبْصقها مراراً
تلك الّتي يسيلُ مِنْها
كلُّ هذا الدّم
لِي كلُّ الْحَيَوات فِي حَياتِك
أبْلُغك في كلّ أرْض تكُونين بِها
أنا اللّيْل
لِأَنام فيك
وأنا النّهار
لِأَراك
ونحنُ نَدُور
حوْل الْعَالم ندور
النّوْم في مُتناول الْيَـد
لكنّ الْعُيون تَحْرس
كلَّ الْعُيون
الّتي ترْحل
إنّما لَا مكانَ
لِنَوْمٍ
بمِقْدار ما يُخيِّم ساطِعاً
هَذا اللّيْل !
مِن نَوْمٍ إلى آخر
نَسير وقوفاً حيْثُ
الأيّامُ السّاعاتُ تُفكِّر بنا
مُنْذ متى نَطِير مِنْ
غُصْنٍ إلى آخر
نعم، نَحن الّذين نجْعل
من الطيور ممّنْ هناك مُسلّيةً
حتّى التي شاءت أن تطير بنفسها
عبْر السّقوف إذ القتلةُ
يُطْلقون نار الله
في كلّ يوم مؤونة كراهيّتهم
أنا الحياة
أمشي
من شمْسٍ إلى شمس
في دغـل السّحاب
شجرةُ الرّوائح
في الأيدي
فأسمعُ إلى زُهورٍ بأكملها
أنا طيّ كلّ ما يُقال في
كلّ ما ليس يُقال
أمتلئ بالأقوال
حتّى عندما لا تشاءُ أن تقول
لا أُباعُ للقصص
باسْمٍ
وسِواه
هذه القصص تحيا الموت
وكلماتي جميعُها
نَذَرْتها للحياة.
**
برنار مازو: الكتابة بالسنتيمتر
تُعبّر تجربة برنار مازو الشّعرية عن غناها وفرادتها الّتي تأتّت له من أسلوبه المائز واللافت في الكتابة الّتي تحتفي في صوْغ مفردات كوْنِها الشّعري بالمكثَّف، والمقتضب، والموحي، والمحتمل المفتوح على الدلالات حيْث تشرق جملها الشعرية بكثافتها الّتي تضيء بإشراقاتِها العابرة والمتقشّفة فضاء القصيدة، سُرعان ما تضعف وتنطفئ كأنّ الشّاعر عثر على الكلمة الأخيرة المطلقة الّتي توحي بالشّاسع وما فوق الوصف. يكتب برنار دائماً القصيدة نفْسها على نحْوٍ تامّ، دقيق وموجز؛ وفي كتابتِه تلك يبحث الطّرف الأقصى من الصّمت، وتخوم المكان القصيّ منذوراً للفراغ والخطر الّذي يتودّد إليه قبل أنْ يقتحمه تالياً. ما نعنيه أنّه يكتب الشّعر المرصوص، والمختزل والأبيض بقليلٍ من الكلمات وحبرها. يكتب بالسنتيمتر المربّع. ولهذا نفهم ما يقول عنه آلان بوسكيه بأنّه "المُوجِز في الكلِم، الّذي يبلغ الكثافة المضيئة الّتي يحسده عليها شعراء ذائعو الصّيت"، وعندما يحيّيه باتريس دلبورغ باعتباره يمثّل »الشّعر المؤثّر في أساسه الزّائل، والّذي يترنّح في نشوة الصّمت". وتُفْصح مجاميعه الشعرية عن هذا النزوع الذي لا يكلّ، ونعثر في كتابته الشّعرية على آثارٍ مُتصادية وشفيفة من نصوص الرومانسيّة الألمانية وبودلير وروني شار بسبب من هذه النّزعة، والقدرة على الوفاء بأكثر الأشياء هشاشة داخل غنائيّته الخاصّة ذات الشّفافيّة والتكثيف النقيّ المتحرّر من رطانات الكلام، وممّا سار إليه السورياليّون. ينظر إلى الشعر كـ»ثورة وخلاص في مواجهة العمل التدميري الذي تضطلع به تكنولوجيا الاتصال الحديث«، وتقوم وظيفة هذا الشّعر لديْه على »التّعبير عن معضلة الوجود الإنساني؛ عن انبهار الإنسان، وقلقه في العالم؛ عن هذا الوجود الهش، والعابر؛ والذي يملك الشعراء الكلمات للإفصاح عنه". إنّه، في نهاية المطاف، شاعرٌ يخصُّنا تحديداً، لا يتورّع عن أن يرجّ عصْـبنا الدّاخليّ، ويعلّمنا أنّ الشّعر لمّا يكتب بالحواسّ، وبالصّمت المتيقّظ والحيّ، وبالشّفافيّة اللافتة، وبالتّكثيف الضوئيّ، وبالفراغ المحدق، وبالموهبة من غير تكلُّف، وباليأس الّذي ينظِّف من الأمل الساذج فإنّه يؤذينا، ويجعلنا، مع ذلك أو بسببه، في محبّة الآخر والطّبيعة.
السيف والمزمــــار
إلى محمود درويش
عَبَر من الْجِهة الأُخْرى لِلْجِدار
مِنْ غيْر أنْ ينتبِه لهُ فِعْلاً
هُنا كلّ شيْءٍ رماديٌّ
تحْت سَماءٍ واطِئة
هُنا وَسَط هذا الْحَقْل من الْخَراب
حيْثُ مزْمارُ الأَسْلاف لا يعْزف
ولا الرّيحُ الْخَرْساء تخْترقُ أشْجار الزّيْتون
يفْتقِر الأَمَل إِلى الدّم
هُنا الأطْفالُ يقْبَعون
تحْت الأَنْقاض
هُنا في غزّة
لا أَحَد يتَملْملُ
لا أَحَد يَتنفّس
مِن الصّحْراء ريحٌ جافّة
ولِلْمَوْت هذه الرّائِحة الثّقيلة.
كما لوْ أنّنا لنْ نَموت أبدا...
على هذه الأرْض المنْذُورة لِلْفاجِعة
نتمسّك، نُقاوم
ونَثْبُت
في وجْه الرّياح والْمَدّ والْجَزْر
مُتحدّين شمْس الأَسْلحة
وسُطوعِها الْقاتِـل.
لأَنّـه يجِبُ أنْ نَسْتمِرّ، أنْ نَسْتمِرّ بِلا حـــدّ
في شَظَف الأيّام
كما لوْ أنّنا لنْ نَموت أبدا...
في هذه الْقَصيدة لسْتُ أنا منْ يَتكلّم إليْكُمْ
ولا صوْتي الذي تسْمعُونَه في تِلْك الْقَصيدة
لكِنّهُ مَنْ يَعْبُرني ويَرْعـــــاني:
الظِلّ الْيَائِس لِلْجَمال
ذلِك الأمَل اللانِهائيّ في قلْب النّاس
لأنّ بِأيْديــنا الّتي ترْتَجِف
بصيصاً مِن الأمَل
هُو مِصْباحٌ يسْهَرُ واهِــناً
في جُنْح اللّيْل الضّاري...
غيْرُ المُؤمَّل
أنْت غيْر المؤمَّل
تشْغل المَكان
المَكانَ كلَّه
في حَياتي المُسْتعادة من جديد
ولَوْ أنّي أغنّي اليوْمَ
فإنّ بِالعالَم جَمالاً مُمزَّقاً
ذاكَ الّذي يتزوّجُ حرْفاً بحرْف
ختْمَ وجْـــهي
المُرصَّع على لحْمي.
لكنّ وجْهَك
البساطةَ الموجِعةَ
لوجْهِك
عذوبتَه المحْفوظة
أنّى لي بوصْف هذه المُعجِزة؟
لكنّ وجْهَك بيْن يديّ
وهُما ترْتجِفان
ثُمّ بِهذه اللّمْسة البسيطة
تَنْبعِث حُميّا العالم كلُّهــا
ووَجْــهُك كَما النّوْرس على البحر
كيْف لَنا أنْ نصِفَ ذلك؟
**
أندري فيلتر: الإنسان من علوٍّ مرتفع
أندري فيلتر هو شاعر بقدر ما رحّالة. صديق للفضاءات النائية والرّحبة التي تعبق بسحر التّاريخ والأسطورة من طريقٍ بلا نهايةٍ . من المغرب إلى الهند، عبر مصر وسوريا وأفغانستان وكشمير والنيبال والتيبت. كثبان الصّحراء إلى جانب الأديرة والمعابد والقمم الشّامخة والوديان المسكونة بحجيج الرّهبة. كأنّما السّفر حلم، والحياة الحقيقيّة جُعِلت للسّفر. هُنا، وقف الشّاعر على وحدة الثقافة والإيمان رغم اختلاف الشعوب، التي جعلت من الموسيقى والغناء والشّعر وسيلةً لتعْبيره، وحقْلاً لصدى روحه الفارهة، مُخْلصاً لدرْس حياة أكبر متصوّفة الإسلام الروحاني والحيّ. إنّ هذا البحث الخشوع في أسرار الذّات، وطبائع الأشياء وأجروميّات المكان فتح قصيدة الشّاعر على فعْل مغامرتها حيْثُ يتقاطع الشعر، الموسيقى، الرحلة والسيرة واليوميات.
بذَل الشاعر كُلّ عمله الشّعْري للنّفَس، والتمرد، والحبّ المتوحّش عدا ابْتِهاجه الذهْني والبدنيّ، رابِطاً إيّاه، إجمالاً وأساساً، ب"الصّوت العالي" الّذي يستثمر الموسيقى بقدرما يكتشف "شفويّة جديدة تمنح الأذن قدرة على التقاط ذبذبات القصيدة وإيقاعها الهائل الذي يُراعى أثْناء كتابتها فيما يُشْبه نداءً خفيّاً يعْكس أحواله، وترحّله الذي تمزّقه الحياة، الرغبة والموت.يحمل صوْته أنّى يرحل. يجعل من الإصغاء إلى القصيدة طقْساً له طعْم الصّعق وهو يُلْقي، واقفاً يصْدحُ بإنْشاديّته الغنائية، قصائد تحتفي بالحبّ والرّغْبة والموت والطبيعة، وينبر لازمتها الصّاعدة / المتمزّقة عبر عزف الموسيقى المحايث. وهكذا فإنّ الشّعر، بالنّسْبة إلى فيلتر، هو تذكارٌ غامض ونداءٌ إلى السّفر في آن. ما يُميّزه هو دخولُه في حوارٍ مع الفضاء الدّاخليّ. هكذا نكتشفُ في الشّاعر إنْساناً "من علوّ مرتفع"، ماشياً، محبّاً وصديقاً. هو في إصْغاء دائم. يترك نفْسه في المهبّ تخترقها، كما الصّدى، جميع إمكانات الشّعر، مثلما يضيء ذلك النّاقد جيرار نواري في كتابِ أفرده لتجربة الشّاعر أندري فيلتر.
كان غائباً
لَيْس لي، الْبتّة، طعْمُ المقابر
ولا العِظامِ الشّهيرة لبيت لاشيز
لمونتمارتر أو مونتبارناس
مطْمورةً تحْت الأرْض أو في شواهِد الْقبور
دائماً ما آثرْتُ الرُّفاتات الْمُلْقى بِها في الرّيح
لكنْ في باريس الشّريدَة أُحبّ كمْ
حُضوراً يحْيا عَلى الْجُدْران:
بوسي في المُنْتصف من مُنْحدَرٍ على شارِع سانتان
وجان- بابتيست بوكْلان غافِلٌ عن شارع موليير الّذي نشأ بِه تقْريباً
كما أَرُو عنْ رصِيف فولتير الّذي لفَظ أنْفاسَه عليْه...
غيْر أنَّ واحِدةً، بيْن كلّ لوْحات الطّريق، تسْحرُني
تُزيّن الْوَاجِهةَ الحزينةَ لشارِع ريشيليو
هُنا كان ستاندال يكتبُ الْمُنتزهات في روما.
تيـه
الْحَياةُ الحَقيقيّة تُسافِر
والسّفَر
حُلْم.
عَلى خطْوات كَمْ تاجِرٍ،
وكَمْ مُرْسَلٍ،
وكَمْ سَيّدٍ للْحَرب؟
أيْن نَحْن
نتزحْلقُ عَلى غضارِ غانْسُو
مِنْ أعْلَى التّلال الْمَنْقوشة
كأنّها طواطم منْ حبّات القمح اليانع،
والقمْح الأخْضَر،
ومنْ نباتاتِ البرْسيم، والسّلْجم والْكتّان الأزرق؛
مِنْ هُنا عبَر سيغالين
بنِعالِه منْ قشّ
وفعْلِ مُغامرتِه؛
أيْن نحْنُ
تَحْت خطّ الْقِوى الْمُنْهارة
في سيّارة جيب تنْبعِثُ منْها الأصوات
وتترنّح بالدّاخِل
في إيقاع عالَمٍ آخَر
عَالَم الْهِياج الإلكتروني
الّذي يعزفُ السوينغ أيضاً
عَلى قَراراتِ قلْبِه
أيْن نَحْن
نحْن الّذين نُوجد هُنا
دُون أنْ نكون كذلك؟
تطواف العالم
مِنْ خِلالِ سِحْر أسْمائِنا وَحْده
كَمْ مِن الْمُدُن الضّائِعة وغيْرها
مِنْ عَدَنٍ إِلى زَنْجِبار
تُغنّي في غيْر ذَاكِرةٍ لَنا.
يَا لَهَذا الضّجيج مِن الْمَجْهول
في مفْترق طُرق الأرْض
في سَمَرْقَنْد كَما في شَنْغاي
حتّى قبْل أنْ تُوجد
اللازِمة الّتي شقّت الطّريق
تتكلّمُ إلى الْقَلْب، وإِلى الأَحلام
بِتُومْبوكتو، وبِيناريسْ، والأقْصُر
وأَنْطَاكية:
بِاللأذْن أَيْضاً
يجبُ تِطْواف الْعَالَم.
**
ماري كلير بانكار: تدوين قوّة الحضور
تطبع ماري كلير بانكار [1932 ـ ] بتجربتها في الكتابة راهن الشعر الفرنسي، في انحيازها إلى قصيدة متيقّظة تنتبه للتفاصيل العميقة للإنسان ولقلقه وفقره الداخليّيْن في عالم يتفكّك باستمرار، كما تقوم على تدوين قوة حضور الأشياء داخل كثافة الكلام الّذي يُنْتَقى على نحو خاصّ. إلى جانب دراساتها في أدب فرنسا الحديث والمعاصر، وسرودها التّخييلية، أصدرت بانكار ما ينيف عن عشرين مجموعة شعريّة منذ عام 1967م.
سماءٌ مَشْقُوقة
تٌدمِّر الكلماتُ نَفْسَها
داخِلَ الْحُموضة الّتي تفوحُ من المَكْتبات
أحدُهُمْ يرفَعُ نظره إلى الْغُيوم الّتي تنكسرُ سريعاً.
مع ذلك،
ما يبدو أكثرَ انْكساراً
هي السّماءٌ، تِلْك الّتي تشُقّها الاِنْهِيارات
واللٌّحومُ الّتي تطْفَح بالبَوْل
والْمَذابحُ والاِعْتِداءات.
لَنْ تَحْمضُ، هي الأُخْرى
تئزُّ في الدّم مُدنْدنةً أوبّرا مَوْتٍ جَارف.
أيُّهذا الكلام، هلْ ولّيْت الأدْبار
على أجْنحـةٍ من هذا الذُّباب الأزرق؟
حَسْبُك أنْ تظلّ
هُنا نسْغاً به تستمرُّ الحياة
بِـساقٍ يُعْتقَد أنّها موهوبةً لكلّ الأوقات.
في إنـاءٍ منْ على الشُّرْفة،
يتناغَمُ وأمـلٍ صغيرٍ جدّاً
عبثُنا النّفيس.
حبّنا الّذي لا يتلاشى لاثنيْن أو لآخرين
في عالمٍ يكادُ يكون مُفكَّكاً ،
ثُمّ بداهَتُنا.
وَجْــهٌ
كيْفَ تبدو أنْتَ يا وجْهي،
في مَجْرى دمي ومسامّ لحمي؟
أَتَرْجُماناً لوُجوه الآخَرين
ما تَعْنيهِ
بالنّسبة لجسدي المُعْتم؟
أوْ رُبّما مٌرِتَجِفاً
تَحْمِل سِواك من الوجوه إنْ تَوارتْ،
فَلا يَستطيعُ أحَدٌ مِثْلُك
أنْ يأتي بها يوْماً
صُحْبَة الْعُيون والْكَلمات
الّتي تُوحي بها في العبور،
وَإنْ بتعاسة.
بَيْنَـما السّـرُّ مَحْجوباً
طَمَرَتْه الخَلِـيّات.
Lettera Amorosa
هل أنا أُفكِّر في السّرْمدي
عندما نَلْتصِقُ ببعضنا البعض عُراة؟
ـ كلّا، إنّي أستعيدُ عُشْباً
أو قُلْ سعادةً لحيوان عظيمِ الجُثّة
(الفيل، رُبّما)
بمقْدار ما يتّسِعُ الْمَـاء
لكن ذلك لا يتمّ في الكلمات، إنّما في جسدي كلِّه
بسخاء.
وأحياناً، تراها تنامُ.عاريةً تنام
كينونةُ هوايَ وهي تُفْسِح مكاناً،
بلا كلماتٍ دائماً،
لِلْقَلق الّذي ينتظر
الهروبَ
القُنْبلةَ
الجلّادَ
داخل هذا العالم الّذي تنْدرُ فيه أعظم الأسرّة هناءً.
**
دومينيك كانيار: في مديح الآخر
دومينيك كانيار (1950 ـ )، في شعره نكتشف كتابة أكثر حساسيّة، وشخصيّة بالفعل. كما نتعرّف على شكلها الخاصّ، وعالمها، والتزامها الكامل في الشّعر الّذي لا يتنازل، ولا يُقيم فصلاً بين العمل والكائن المتشابكيْن في الواقع. له 'خطوات المطر'2005 و'البقرة في غرفتي' 2008، عدا أنطولوجيات تضمّ أشعاراً موجّهة للأطفال والمراهقين والبالغين. كما أنّه أنتج، منذ سنوات خلت، عدداً من البرامج خصّ بها كتّاباً وشعراء وفنّانين. ويحيي منذ 1995، على فترات متقطّعة، حلقات شعريّة في إطار ورشاتٍ وقراءات ومشاريع بعيدة المدى، داخل فضاءات مختلفة من المكتبة والمستشفى والمدرسة إلى المراكز الثقافية، تحاول أن تكشف لجمهورها أسباب الحياة والأمل من خلال الشّعر وكلماته .
أَنت ذلك الآخَر
أَنت ذلك الآخَر الّذي يَجْزَع
كان مُفْرِطاً في خِفّتِه
ثُمّ ثَقيلاً للغاية صار.
أَنْت ذلك الآخَر الّذي يتردَّد
لِلْقَفْز
على شجرةِ أَحلامه.
ذلك الآخَر سَوْف تَصيرُهُ،
أَجْدَب من الشّجرة بِلا أوراق،
ذلك الآخَرُ المُتجرِّد من كلّ شيْء.
أَنْت
وَلأنَّك أَنْت،
أَنْت ذلك الآخَر
وُلِدْتُما معاً،
هَلْ تتذكَّر؟
أَنْت ذلك الآخَرُ الْوَليد
ذلك الأَعْمى الّذي تَنْظُرُ إِلَيْه،
أَنْت ذلك الآخَر،
فَاحْفَظِ الْجَميل
لِتَحْــيا.
لقاء مع روني شار
نَزَل الثّلْج ذلك اليوم بِشارع 'شاناليل'
عندما الْتَقاني رُوني شارْ للمرّة الأولى.
'شاناليل'، تَصْلُح أنْ تكون عنواناً
لديوانٍ شعريّ أو رواية.
'أهْلاً دومينيك'
كان لصوْتِه المُعرِّش في السماء،
شبيهاً بنداءٍ على اللّيْلة الموعودة،
وقْعٌ في نفسي.
أظهرْتُ له حبري الصّيني
الّذي تفرّس فيه باهتمام زائد، وقال:
ـ تُريد نبيذاً؟
!ـ بلى
ستدخُلُ فراشة إلى المطبخ
وتحطُّ على منْكـبِه.
أَخُونا البعيد
يَوْماً،
سوْفَ ننْتبِهُ
إلى أَخينا البعيد
لَنْ يَكون أحدُنا مُشظّى
والآخَرُ، سَبَبَنا الوحيدَ للوجود.
هذه اللّيْلةَ،
سَوْف نَمْشي طَويلاً حتّى الفَجْر،
حاَفظِ الْجَميل الّذي اخْتَرَق
كُلَّ هَذِه الْحَدائِق المُهْمَلة
والْوَاصِلِ بيْنَ شِفاهِنا
لِأَجْل أنْ نُقبِّلَ السّماء الّتي تَسْكُنُنا.
إِطْرَحْ عيْنَيْك في ليْلَتي.
أَخُوك هُوَ الْآخَرُ لكنّهُ ليْسَ الغَريب.
لَمّا تُنْفِق الوَقْتَ
لِتَصْعَد ثانِيَةً جَميعَ صَفْحات الغِياب،
حيْثُ لَنْ تَهْتَدي
إِلَى مَنْ يَدلُّك إنْ كُنْتَ مَيِّتاً
أَوْ كُنْتَ حَيّاً
سَيَتَراءى الحُضُورُ غيْرُ المرئيّ لَك:
الوجْهُ الْآخَر لِحَقيقَةٍ، هَشّةٍ،
تَصْحَبُ يَدَيْك اللّتيْن مِنْ قَوْسِ قُزَح.
تَرانا الْأَرْضُ، كَمِثْل نِداء
على الْبَعيد، على الصّمْت والمودّة.
لا خَبَرَ لي عن البعيد.
لأجْلِ أنْ نَشْرَع في الكتابة يَجِبُ أنْ نُؤَلِّف
مُوسيقى صُغْرى هِيَ فينا،
أنْ نتخلَّى عن كُلَ ما أُنْجِز.
ثَمّة وَقْتٌ لِلْإِحْساسات،
الفراديس الاصْطِناعيّة
وَوَقْتٌ للتّجَلِّيات.
أَكْتُبُ لِكَيْ أَتصيَّد
النّظْرةَ الضّائِعةَ في عُمْق الغابة
لِقِلَّة الإغْراء.
بِدَافِع رَغْبة النّشْر،
لا نُغْري الصّفْحة
أَنْ تَيْنَع بِبُطْء.
القَصيدَةُ المَنْشورة بِوَجْه السُّرعة مَنْذورةٌ للخيبة.
إذا كُنْت تَكْتُب القصيدة،
إِرْمِ بِكُلّ مَراياك عبر النّافذة.
لا حاجةَ بالظّاهر
للظّفَر بِضفّةِ الآخر
حيْثُ تَصير النّظراتُ شفّافةً،
مُحَمَّلة بِدَليل،
لأجْل أنْ تُغْدق
وأنْ تفْلت مِنْ كلّ أشْكال العجلة
الّتي تمْنعُ عن الإنْسان
أنْ يُبَلْوِرَ نظْرَتَه.
الآخَرُ، ذلك الأخُ البعيد،
!المُحْتقَرُ ، المنْسيّ منْ زَمَنٍ بعيد
وحدهُ الّذي يُوجَد، الّذي يسْمَعُنا ويعتَني بِنا،
فيما نَحْن نَنام.
أيُّ سِفْرٍ مَكْتوبٍ
هو قنّينة مَقْذُوفٌ بِها في الأراضين،
مَنْ تُرى سَيَأْتي لِيَنْتَشِلَها؟