رهان على الإنسان
خاص ألف
2021-05-01
من المعلوم أن العقل البشري أساس حركة الإنسان في حياته، إذ هو المنظم والموجهة والقائم بأمر الفعل الواعي الآدمي، لذا كان وجوده في حياة الإنسان وجوداً خاصاً في حد ذاته، وكرماً ربانياً لبني آدم على سائر المخلوقات، يقول الله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" صدق الله العظيم. الإسراء،70.
إنه التكريم والتشريف العظيم، إذ يتفق المفسرون على أن التكريم إنما هو بالعقل والمنطق وتسخير كل شيء لهذا الكائن العجيب. إن العقل هو الدعامة الكبرى التي بنيت عليها الكثير من مقومات تكريم الله للبشر، ومع العقل كان سر الحضارة الإنسانية وقوة الاجتماع البشري عبر الزمن. وبدون العقل لا يكون هناك إنسان، ولا تقدم ولا رقي ولا وعي بأي شيء كان.
ومما لا شك فيه أن التفكير الناجح لا يأتي من فراغ. ولا ينبع من مصدر سطحي، فعملية التفكير تكون قوية عندما تعتمد على الحقيقة والواقعية. وإن الفكر الإنساني نفسه يتكئ على قدرات ذاتية متمركزة في بناء الإنسان الجسمي والنفسي، وهنا قد تختلف القدرة الفكرية من شخص إلى آخر. ولكن لابد من القول أن القدرة الفكرية للإنسان تتوقف عند حد معين، ما لم يتم تغذية العقل بالمعلومات وبكسب التجارب والخبرات، لذا نجد أن كثيراً من الدراسات والبحوث العملية قد تطرأ على بعضها تعديل أو تغيير شامل، ذلك نتيجة لتوافر معلومات ساعدت على معرفة الحقيقة، وهناك الكثير من الأمراض التي كانت في زمن ما أمراضاً خطيرة أو مستعصية ويعجز العقل البشري عن إيجاد الدواء لها، وأصبحت اليوم بفضل تقدم وتطور العلم من الأمراض التي يمكن علاجها، وهناك أمثلة كثيرة في شتى مجالات الحياة. لذا ومما تقدم علينا في عصرنا الحاضر أن نسأل أنفسنا بوضوح، كيف نفكر؟ كيف نعقل ، بل كيف نتعقل في عصر الفوضى والجنون؟! لقد وصلت الإنسانية إلى مستوى الجنون، فكيف والجنون أصبح آيات مدهشة في حكم زمن استقالة العقل والتعقل، أصبح هناك ممارسة علنية لعقلنة الجنون، نمارس عادة الكلام بين الكذب والنفاق، وكأننا نصعد المطر إلى السماء.
طالبوا الإنسان بالتعقل زمن الفوضى، علماً أن التعقل في قاموس الحضارة المعاصرة تخاذل وجبن بليغ، وعزف على وتر الخنوع، فلا للجبن عنوان دونهم، ولا للخنوع ملوك سواهم، لذا انهار الأمن العالمي، انهارت المفاهيم، انهارت الإنسانية وتهاوت؛ انهار النظام الاقتصادي العالمي، لأن بنك المفاهيم الإنسانية فقد رصيده في سوق النخاسة، وحرروا فلسطين والعراق وأفغانستان من أصحابها العرب والمسلمين، حتى يتمكنوا من احتلال الحيوان الناطق في عقل الإنسان، ولكي نصادق على صكوك الغفران الممنوحة للإنسان الذي يستبيح دم أخيه الإنسان.. حينما يعلن جهراً أن الإنسان قتل الحق انتقاماً من حواء التي أغوت أبانا آدم عليه السلام!
إزاء هذه التناقضات علينا أن نضحك ملء حناجرنا، لنتلمس بيت القصيد، كيف غدا الجنون من رحم الإنسانية وليداً وبات التعقل درباً من الأوهام، حيث لا زال هناك متسع من إراقة الدم الحرام.. ترى كم من الوقت يلزمنا لنعلم أن التعقل يعني حضورنا والحياة؟
يقوم "آلان دونو" بنوع من التمرين الفكري حول هذا التحدي الهائل والمريب، والغامض مع ذلك الذي تمر به البشرية، ويقصد به التفاهة المنتشرة، كما يؤكد دونو أن التافهين قد حسموا المعركة، من دون قتال، ربح التافهون الحرب وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه.
ففي كتابه" نظام التفاهة" يذهب "دونو" إلى أن التفاهة هي مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي الاحتكاري إذ تحولت فيه المهنة إلى وظيفة لتضمن لك البقاء فقط على وجه الأرض. التفاهة هي أن يعمل العامل تسع ساعات في مصنع للسيارات دون أن يستطيع إصلاح عطل بسيط في سيارته، وينتج العامل مواد غذائية لا يستطيع شراءها، ويبيع المؤلف كتباً عديدة ولا يستطيع قراءة سطر واحد منها، إذ أصبح العمل تغريبياً وتشيئياً لا يحقق أبسط مقومات الرضا والعيش.. هل لا زال بإمكاننا أن نهتف مع ماركس في أن الأوضاع الميؤوس منها في المجتمع الذي نعيش فيه تملأنا بالأمل، أو أن نتفق مع سلافوي جيجك في أن الشجاعة الحقيقية هي ألا نتصور بديلاً آخر.. والاعتراف بأن الضوء في نهاية النفق ما هو إلا قطار مقبل من الجهة الأخرى".؟!
ليست الأشياء ما يقلق الناس ولكن أفكارهم عن الأشياء، كما يقول إبكتيتوس من هنا يبدأ طب العقول -أي الفلسفة. فلا تنفعك الوصفات الطبية في معالجة الشعور بالسأم من الترقب وتكرار المشاهد، علما بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي قد يشعر بالملل ولا يريد أن يكون ما هو عليه، حسب تعبير ألبير كامو. كيف يكون رد الفعل إذا تطلب الموقف أن تفرض حجراً صحياً على نفسك؟
طبعاً لا توجد أدوية للتخلص من الملل، لذلك من الأفضل أن تتقبل قدرك، يشبه الحاكم الروماني القدمي ماركوس أوريليوس الإنسان المتبرم من كل شيء والساخط من كل الوضع، بخنزير الأضحية الذي يرفس ويصرخ. ومن المناسب في هذا الصدد تذكر قصة الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس الذي كان عبداً لإيافروديتوس، الأخير نكل به وعذبه بطريقة غريبة حيث وضع رجل الفيلسوف في آلة التدوير مترقباً رد فعله، وما من صاحب المختصر إلا أن قال ستكسرها. وفي ذلك صورة واضحة لتحمل الشدائد والتجلد، فالحكمة برأي الرواقيين تكمن في قدرتك على أن تفرق بين الأشياء ما يمكن تغيره وما لا يمكن.
إذاً كل ما يحدث في الواقع فهو منطقي، وإن فهمنا للحياة يتعمق كلما شعرنا بأننا نعيش في الخطر يقول نيتشه " أنا أعرف الحياة معرفة جيدة لأني كنت على وشك فقدانها" فكان المرض أول شيء لمعرفة الحياة. وقد عرف سقراط التفلسف بأنه استعداد للموت مطالباً بأن نواجه هذا المصير الحتمي مثلما نواجه الحياة. ويرى أنكسمندريس أن كل ما ينشأُ يصيبه الفناء وكل ما يولد جدير بالموت، ولولا الخوف من الموت لما كانت الفلسفة ولا الدين على حد قول شوبنهاور.
إذن، نجد أن دور الفلسفة يتمثل في تهدئة المشاعر السلبية ومنع تناسل الأهواء الحزينة وحمايتك من الوقوع في منزلق الخوف والهلوسات. فالموت من منطلق الفلسفة دافع للتأمل والتفكير وإدراك الصراع بين الرغبة في البقاء والوعي بالنهاية، وفي الأخير نقتبس من لوكريتيوس مبدأه لمعالجة الخوف من الموت، إذ يقول: حيث أوجد أنا، لا يوجد الموت. فلم القلق؟
رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة الموصل/ العراق
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |