قراءتان نقديتان في رواية علاء الأسواني شيكاغو
2007-05-16
القراءةالأولى
رواية 'شيكاغو' لـ د علاء الأسواني وسقوط الفصل السابع ـ * فادي عزام
القراءة الثانية
عيد الأربعاء د. علاء الأسواني في مفاجأته الثانية رواية شيكاغوـ أحمد دحبور
|
القراءة الأولى / فادي عزام
تمت بحمد الله، بهذه الجملة يختم علاء الأسواني روايته الثانية شيكاغو المؤلفة من 40 فصلا سقط منها سهوا ترقيم الفصل السابع مما يجعلها رواية من 39 فصلا
وبقي الفصل الأخير من طقوس تحولات شخصياته ناقصا لم ينجز أو أنجز على عجل لغاية في نفس ناشرها.
الثالوث المحرم الذي اقحمه الأسواني في روايته، يبدو لعين القارئ المتمهل أنه نوع من الاستعراض المحترف لكاتب يخشى أن يكون عمله " عمارة يعقوبيان بيضة ديك "
شيكاغو ببساطة رواية يجب أن تتواطأ على نفسك لتمرر سذاجاتها.عبر سرد منظم في فصولها الـ 39 وصفحاتها الاربعمئة والخمسين.
تمصير شيكاغو
شيكاغو رواية فيها من سذاجة المكان ما يكفي للقول أن تغير أسماء الشوارع والبارات وحتى
الجامعة، إلى أسماء وبارات وجامعة مصرية لا يغيرفي سياقها شيئا. أما الدخول إلى أزمات الشارع الأميركي والغربي .عبر سلسلة من التحليلات والتخيلات والمقاربات لشخوص عرفها أو سمع عنها الكاتب "الأنكى أن يكون عايشها " لا يعدو تبسيطا ساذجا يصلح أن يؤكد سطحية التناول.
فالواضح أن من القراءة العميقة للحدث أن "الأسواني " بقي على هامش الهامش في مجتمع لا يخصه واشتغل عليه بحسٍ الاستشراق المضاد ، فتناول التاريخ الأميركي وشخوصه وحاول الأفتاء فيهاوقارب قضايا شائكة بحس "مُستغرب " أكثر منه كاتب روائي، التمييز العنصري والرأسمالية المتوحشة وتسليع الأنسان.
ومن خلال حشد كل ما يمكن من أمراض نفسانية، وانصداعات اجتماعية، وإهلاسات جوانية للمغتربين المصريين وصراعهم القاتولي بين الرغبة في الأنصهارفي الأخر العدو المشتهى، والماضي البعيد القادمين منه افلتت خيوط معظم شخصياته وفاضحت صراعتها حادة للغاية وانتهى بها المطاف إما في نهايات شكسبرية تراجدية او قفلات " أفلام هندية " مثل الطبيب الجراح القبطي الذي أجرى عمل جراحي لمن كان السببب في خروجه مهزوما من مصر.
شخصيات الرواية بمعظمها محشورة بأقصى انفعالاتها مرسوم ببعد واحد وأيقاع واحد بأيقاع واحد لا يتغير، فالشرير شرير بالمطلق والثوري ثوري بالمطلق، والمخابراتي شخص قميء دنيء بذل الكاتب طاقة تفوق الوصف على جعله يبدو كريها شكل وخُلقا بالمطلق حتى ليبدو وكأن شخصياته لا تعرف اللون الرمادي.
الثالوث المحرم
للجنس حضور كثيف يضج في الرواية،ولا أحد ينفي قيمة الجنس كفعل حياة أو كنسق درامي ولكنه في رواية " شيكاغو" تحديدا يبدو الجنس كبعد درامي محشو حشوا ، يقرب من حد الاستعراض أكثر من أقترابه من خصوصية فنية، فمشهد الأب "رأفت ثابت "وهو يراقب أبنته ساره وهي تنقض على لعق حبيبها يبدو مشهدا جديدا في الرواية العربية ولكنه مكرور وممجوج في الرواية والسينما والغربي وباعتقادي لم يفلح بفضح عدم قدرة الأب على الاندماج في المجتمع الغربي.
ومشهد "كرس" وهي تمارس الجنس مع الجهاز" فيبو يتور" العضو الاصطناعي يبدو وكأنه مستمد من إحدى إعلانات "الجانك ميل " التي تغزو البريد الألكتروني .
ومشهد البروفسور اليساري الشبق العجوز مع الزنجية الشابة مقحم وكأن "الزنجية" ينقصها فقط أن تتكلم العربية . فسلوكها وردات فعلها وخيارتها تبدو وكأنه امرأة شرقية محضة . أما باقي الخيالات والمشاهد فهي ساذجة تبقى على السطح وخاصة تلك التي تخص "ناجي عبد الصمد" طالب الدكتورة في علم الأنسجة فهي عبارة عن استيهامات شباقية لمراهق يساري، خصّه الكاتب طوال الرواية بالجنس من لحظة وصوله إلى شيكاغو ووضع أمامه صبية شبقة، أصبحت يهودية بقدرة ذهنية درامية ممجوجة وجعلت من الشخصية الواثبة المعارضة شخصية نزقة بلا ملامح تحت مسمى شاعري تافه ان" ناجي عبد الصمد "معارض يساري ذكي يدرس الطب "علم الانسجة " ولكنه شاعر حالم بتغير النظام و مناضل شرس ضد السلطة الحاكمة فنره من لحظة وصوله شيكاغووهو أما مخمورا أو يمارس الجنس، فكأن الأسواني يكرس ما هوا شائع عن اليسارين النمطيين المكبوتين حتى التخمة بكل أشكال القمع بحالاته القصوى، فيضيع موقفه"ناجي عبدالصمد " العلمي الذي يفترض أنه ناضل حتى حصل عليه ويغدو كشاعر اقرب لشخصية هلامية بلا ملمح ربطه الكاتب بشخصيات الستينيات الحالمة. لا كرجل تجاوز الثلاثين من العمر.
"شيماء محمدي" تتنتهي في عيادة الاجهاض بعد الجنس المحرم مع طالب مصري شبقي آخر يهوى المصارعة الحرة وأكل البسبوسة . زوجة "أحمد دنانة "تتحمل قرف جسد زوجها النذل الدنئ البخيل البشع. بان تستحضر باستيهام أروتيكي جسد"كاظم الساهر"والممثلين الوسمين لتستكمل لذتها المنقوصة بالعادة السرية.
فيبدو حرص الأسواني على العلاقات الجنسية صريحا لا هوادة فيه حتى ولو على حساب تفاصيل حياتية كان يمكن أن تكشف عمق الشخصيات وانجراحتها أكثر بكثير من بهار الجنس وملحه الذي خرب طعم الطبخة.
فاضطربت الشخصيات واصبحت محكومة لمخيلة الكاتب الخاصة.
وتبدو الساسية الهم الثاني في الرواية ويصّر الكاتب على احضار شخصيات دبقة مقرفة دنيئة متعالية غبية في خطاب مباشر ممجوج يوضح ألوهية السلطة وقدرتها على تمثل الحالة السياسة في مصر. وعلى رأسها" أحمد دنانة" ينجح الكاتب للوهلة الأولى في حشد مشاعر سلبية عند القارئ تكون ضد هذه الشخصية الانتهازية التي تستعمل كل شيء في سبيل الحفاظ على مركزها والوصول إلى مقامات سياسية نافذة ." فأحمد دنانة" في الرواية مزور لبحوثه العلمية انتهازي من العيار الرفيع ولا يتوارى أن يشتغل قوّاداً على زوجته، مُخبرا أمنيا على زملائه متملقا، بجسد كثيب سمين" فالأسواني" صوّرالانتهازية بأكثر الرموز التقليدية حضورا ولم يكلف نفسه حتى بالبحث في عمق الشخصية فبدت صفات الانتهازي وكأنها صفات وجدت في جينيات الشخصية ، أكثر من كونها ناتج نظام شمولي استبدادي مفرط في الذكورة والإذعان والغريب أنه من كثر ما تحامل عليه تبدو الشخصية وكأنها أضحت ناتج استبداد "الأسواني" المسبق الصنع.
الشخصية الثانية صفوت شاكرضابط الاستخبارات المسؤول عن الطلاب في أمريكا، يصر الكاتب على حشد كل ما عرف من أنماط ودناءات وسافلات يمكن أن تصل إليها المخيلة صبها صبا في هذه الشخصية فبدل ان تكون شخصية مركبة تعكس شيء جديدا أخذت شكلا سياسيا فجا، غبيا ، سخيفا ، غير مقنع وخاصة من الخلفية التي أتى منها والطريقة التي يدير بها مستقبل الطلاب ويضبط المعارض منهم وأسلوبه في ادارة الأزامات الخلابية وتحضيراته لاستقبال حافل للريس في شيكاغو.
لتكتمل ثالثة الأثافي وما يحتاجه "الأسواني" ليتبل عمله فاستحضر الدين، عبر ثلة من الأحداث والمناقشات بين الشخصيات، فبدا وكانه يحمل رأيا مسبقا ربط التدين مع الشخصيات الوصولية، التي تستخدم إيقاع التأسلم لكسب النفوذ واسكات الخصوم أو لتبرير الضعف والسذاجة، يقرب الفهم الديني من فهم المستشرقين دون أن يحاول حتى تغير نوعية العبارات واساليب الخطاب الديني المكرس في الأدبيات اليسارية الساذجة وأفلام الخطابية، فبصراحة كان رسم المستوى الديني في الرواية عامة مغطّس بمحبرة يساري انفعالي هائج لم يرتق ليصنع صراعا حقيقا مع الفكر الديني أو حتى يوظفه خارج القوالب المعتادة.
تبدو رواية الأسواني رواية مستعجلة مرتجلة مكتظة بتفاصيل بعضها محشو حشوا يمكن رميه خارج الرواية دون أن ينتقص منها شيء، بعضها دبقا لزجا يفتقد لنصاعة أو ما يسميه بارت "لذة النص"، وإذ يغامر الأسواني بعمله الجديد ببناء فني تقليدي وثلاث خطوط للسرد بقي الخطاب عامة يفتقد لشغف الفني أو تأصيل والأصالة الفنية ومعيارها البسيط لدى المتلقي هو الشعور بالصدق الذي يحمله العمل.
الآن بعد أن هدء الضجيج الأولي للعمل وما رافقه من احتفال وانتقاد، حاولنا قراءة العمل أكثر من قراءة السطح، حسبُنا إنها قراءة. وبانتظار أدباء الظل في مصرالحبيبة سنتسلى بأمثال " رواية شيكاغو".
الآن بعد أن هدء الضجيج الأولي للعمل وما رافقه من احتفال وانتقاد، حاولنا قراءة العمل أكثر من قراءة السطح، حسبُنا إنها قراءة. وبانتظار أدباء الظل في مصرالحبيبة سنتسلى بأمثال رواية "شيكاغو".
القراءة الثانية أحمد دحبور
عيد الأربعاء - د. علاء الأسواني في مفاجأته الثانية: رواية شيكاغو
كنت واحداً من آلاف القراء الذين تساءلوا: ما الذي سيستطيع أن يضيفه طبيب الأسنان المصري د. علاء الأسواني، بعد أن فاجأ الحياة الثقافية بروايته الأولى عمارة يعقوبيان وطبعاتها المتلاحقة التي لا تكاد تفي بحاجة الطلبات المتزايدة عليها؟ ولكن انتظارنا لم يطل، إذ سرعان ما أصدر عام 2004- أي بعد عام واحد من آخر طبعات عمارة يعقوبيان - مجموعة قصصية متفوقة بالمقاييس كلها. وهي >نيران صديقة<. ويبدو أنه - كما فهمت من فهرس المجموعة - قد ضمنها شيئاً من مجموعتيه السابقتين اللتين دشن بهما مشروعه الأدبي، وهما >الذي اقترب ورأى< و>جمعية منتظري الزعيم<، ثم لم يلبث أن وضعنا، في مطلع هذا العام: 2007، وجهاً لوجه أمام مفاجأته الروائية الثانية >شيكاغو<. فأدركت أن في جعبته المزيد، وأنه ما علينا إلا الترقب والتشوق. فموهبة بهذا الحجم، تعززها ثقافة بهذا الاتساع، من شأنها أن تغير خريطة الرواية العربية الحديثة، وأن تضعنا في مشهد تتناسل فيه الدهشة والمفاجآت.
والحق أن النسخة التي قرأتها من هذه الرواية، ليست لي، فبعد أن يئس العم أبو سامح، صاحب المكتبة الهاشمية في غزة، من استيراد دفعة جديدة من الناشر المصري، ووقف على الدور لينتظر الطبعة الثالثة أو الرابعة - مع أن عمر الطبعة الأولى لا يتجاوز الأشهر الثلاثة - أبهظني بلطفه، إذ استعار نسخة الرواية من الاستاذ خالد زكي الحداد، الذي قدمها مشكوراً وهو محرج لأن ثمة أصدقاء آخرين يصطفون بالدور لاستعارتها، ريثما تجود علينا الشركة المصرية للنشر العربي والدولي، أو دار الشروق القاهرية بطبعة جديدة من رواية >شيكاغو<. وقد استأذن المؤلف والناشر باستخدام حرف الغين لا الجيم في كلمة شيكاغو جرياً على طريقة أهل بلاد الشام في الكتابة.
وأعترف بأن هذه المقدمة لا تساير نسق المقدمات التي أضعها لكتاباتي النقدية، وقد أجزع من أن أظهر بمظهر الداعية المكلف بالإعلان عن العمل. ولكن ما يرفع هذه الشبهة عني، هو أني لم أتشرف بمعرفة الكاتب من قبل، ولم أجتمع إليه حتى الآن، وما أعرفه عنه هو أنه نجل الكاتب المصري المخضرم عباس الاسواني، فضلاً عن أعماله التي أشرت إليها في السياق، كما أنني على غير ذي صلة بدور النشر المعنية. ولا أظن أنه بات من المبكر أن نتساءل عن مشروع كبير يستعد له د. علاء الأسواني، فلا شك بعد الروايتين النوعيتين - يعقوبيان، وشيكاغو - أننا قد أصبحنا أمام لحظة إبداعية ترث واقعية نجيب محفوظ وتوظيفاته السيكولوجية والناتورالية، مضافاً إليها ما أبداه د. الأسواني من قدرة فذة على السر والإفادة من الأدب القوطي، تساعده على ذلك مخيلة روائية شاسعة ودراية في التقاط النماذج البشرية المتباينة. فهذا الذي اختزل نصف قرن من عمر مصر في بناية تتصدر شارع طلعت حرب، لم يتوان عن التقاط أوضاع مختلفة لمصر العريقة، بكاميرا منصوبة على أعلى برج في شيكاغو.. والنتيجة هي هذه الحصيلة النوعية من صيده الثمين.
مصر في شيكاغو
بين وصول شيماء المحمدي، الطنطاوية المحجبة، إلى مدينة شيكاغو الأمريكية، وتمددها في المستشفى على سرير الإجهاض للتخلص من حمل غير شرعي، تنبسط رواية شيكاغو على خمسين وأربعمئة صفحة من القطع الوسط الممتلئ بالكلام. وهي رواية تكاد تشبه الملحمة بتعدد شخصياتها، يقدمها علاء الأسواني على طريقته بثلاثة أساليب.
فهو يعمد، بداية، إلى الاسلوب السردي التاريخي بما يشبه التقرير الصحفي المحايد. ثم لا يلبث أن يستريح الى الاسلوب الروائي الشائع باستخدام ضمير الغائب، متدخلاً في سرائر الشخصيات ودوافعها، حتى يصل إلى أسلوب شهادة ضمير الفرد المتكلم فيقدم فقرات من مذكرات ناجي عبد الصمد، الذي صمد لمغريات شيكاغو.
ولسوف ترتبك شيماء المحمدي وتربك سكان البناية التي تقطنها، بسذاجتها في استخدام المطبخ فينطلق جرس الإنذار محذرا من حريق لم يقع. وكانت تلك مناسبة لتعرفها على طارق حسيب، الشاب المصري الذي سبقها الى الدراسة هناك. وتعلق الصنارة فيتحابان في ظل الخوف والحذر، فهما متدينان لا يكفان عن التحايل على نفسيهما لتسويغ ما يرتكبان ما داما لم يصلا الى حد الممارسة. ولكنهما يتورطان مع ذلك بالحمل في مصادفة بيولوجية قد يقع فيها المراهقون السذج أحياناً عندما لا يحتاطون بما يكفي. وتطلب شيماء من عاطف أن يتزوجا، ليستر عليها حسب تعبيرها، لكنه لا يستطيع فهو مهدد بالحرمان من البعثة بسبب تراجع أدائه الدراسي. وتلجأ شيماء يائسة الى الإجهاض. على أن هذه المأساة الصغيرة لا تقاس بما جرى للدكتور رأفت ثابت، المنخلع تماماً عن وطنه مبدياً احتقاره لأبناء بلده المصريين، في تأكيد منه أنه أمريكي، بدلالة سلوكه وزواجه وتربيته لابنته سارة التي تهرب من البيت مع عشيقها الصعلوك الأمريكي جيف، وتنتهي جثة هامدة بعد جرعة كبيرة من المخدرات. ولن تقل مأساة د. رأفت عن محنة زميله د. صلاح الذي لا غبار على سلوكه تجاه ابنائه اوبلده وتجاه تلاميذه. لكنه مثقل بعقدة الذنب، إذ ترك في مصر صديقته زينب، هارباً من واجبه تجاهها وتجاه بلده. وقد انتقم جسده منه فأدركه عجز جنسي، وهو في الستين، حتى لجأت امرأته الأمريكية الى استخدام وسائل صناعية مهينة لحل مشكلتها مع الكبت. ويحاول عصام أن يسترد ثقته بنفسه أمام زينب التي يهاتفها بعد ثلاثين عاماً، واعداً بعض المعارضين بإلقاء كلمة نارية أمام رئيس الجمهورية أثناء زيارته لأمريكا، وعندما يعجز عن تحقيق ما وعد به يقدم على الانتحار بالرصاص.
سنرى أيضاً أحمد دنانة، الانتهازي، المخبر، الذي يبتز كل من حوله حتى ينتهي به الأمر الى الموافقة على تقديم امرأته هدية للواء المخابرات الزائر، فتتركه امرأته وتطلب الطلاق، فيما تطرده الجامعة لثبوت غشه وعدم جدارته العلمية. أما لواء المخابرات هذا، فهو شخصية منحطة، لا يتورع لحظة عن هتك أعراض مواطنيه وابتزازهم بمختلف الوسائل.
إلا أن الرواية تقدم شخصيات أمريكية لها مشكلاتها أيضاً، مثل كارول السوداء التي هجرها زوجها وترك لها طفلاً لا تعرف كيف تربيه في ظل إقفال أبواب العمل في وجهها لأسباب عنصرية، وإذ يحتضنها الدكتور غراهام ويساكنها كعشيقة، يفاجأ باستسلامها لرب عمل أمريكي مقابل المال فيهجرها حزيناً. وشبيه بغراهام من حيث النزاهة نرى الدكتور دنيس بيكر الذي يمقت العنصرية. ولكن يقف، من الجهة المقابلة، الدكتور جورج مايكل العنصري المتعصب أنموذجاً للوجه المعتم في أمريكا.
لن نترك هذه الشخصيات قبل الاشارة إلى الدكتور كرم دوس، القبطي المعذب بين حبه لوطنه ومرارته من العلاقات الطائفية، فيما يظهر الطالب ناجي عبد الصمد ثورياً غير مهادن في بيئة لا تتحمل الراديكاليين إلا إذا كانوا يمينيين.
وحتى تنتهي الرواية بمحاولة أمل وتفاؤل، يدخل طارق حسيب على شيماء في المستشفى، في إشارة الى أنه لم يتنكر لها، وأن المستقبل يمكن أن يفتح أبوابه لهما عندما يعودان الى الوطن.
عاهة الاستلاب
يبرز د. رأفت ثابت، أنموذجاً في هذه الرواية للمثقف المستلب أمام الغرب. فهو يحرص بشكل محموم على إنكار صلته بوطنه مصر، حتى ان زملاءه الأساتذة الأمريكيين يوجهون إليه تهمة العنصرية ضد المصريين، إلا أنه راض باختياره، فخور بامرأته الأمريكية التي أنجبت له وحيدتهما سارة. وعندما تنضج سارة يبدأ الاختبار الحقيقي. فالفتاة الشابة تأتي الى البيت بعشيق سخيف وتقدمه لأبويها بكل فخر. ويتقزز د. رأفت من ركاكة هذا العشيق وادعاءاته وعدم نظافته، فتغضب سارة وتمضي مع عشيقها إلى أحد الأحياء المخيفة بفقرها وانحلالها. وساعتها يضطرم الصراع في نفس د. رأفت، ويتبين له أن ضريبة تأمركه هي أن يقبل بمصير ابنته التي يذهب إلى مراقبتها، فيفزعه تعاطيها المخدرات وممارستها المشينة مع عشيقها ويهجم عليها فيصفعها.. وهي مخالفة أمريكية كبيرة. فالقانون يعاقب الآباء الذي يضربون الأبناء. وها هو لم يستطع أن يبقى مصرياً بحجم انخلاعه المعيب وعنصريته المريضة من حيث معاداة الذات الوطنية، ولم يستطع أن يكون أمريكياً لأن ثقافة كاملة تتحداه باختبارات يومية لا تحتملها رواسبه الشرقية. وتكون الفاجعة عندما يرى ابنته ممددة جثة هامدة في أحد المستشفيات بعد أن تناولت جرعة زائدة من المخدرات.
لقد حاول هذا المنكود أن يخرج من جلده، فضاق جلده الجديد عليه، وخسر عطف تلاميذه المصريين الذين كثيراً ما تعالى عليهم مع أنهم شبان مقبلون على المعرفة والحداثة.
على أن خضوع د. رأفت للاستلاب أمام الآخر، مختلف عن استلاب الطالبة شيماء المحمدي، فهذه فتاة متدينة، مسكونة بتقاليدها الشرقية، ومع أن لديها من الشجاعة ما يؤهلها لتقصد أمريكا وحدها، بهدف الدراسة، إلا أن ضغوط المجتمع الجديد قد سلبتها مناعتها في المقاومة. كانت تظن بوعيها الشرقي أن الطريق الى قلب الرجل هي معدته، فكانت تعد الطعام المصري لزميلها طارق حسيب. لكن شيكاغو ليست شبرا ولا طنطا. فهما يعيشان وسط زملاء لا يحد حريتهم الجنسية شيء. وعندما انتصرت الغريزة عليهما، كان على شيماء المحمدي أن تبتكر ذرائع دينية يساعدها طارق على اختلاقها. فهما لم يخطئا ما داما لم يصلا الى حد التزاني، ولكن الجهل الاجتماعي يتغلب على الثقافة الطبية. فمع أنهما يدرسان الطب، نراهما يتورطان بحمل غير مقصود على غير علاقة كاملة مباشرة. ولأن شيماء تعاني من استلاب آخر، ينتظرها في طنطا، ويمنعها من كشف مشاعرها أمام أهلها وإعلان زواجها على غير علمهم، فإنها تغامر، مقدمة على الإجهاض الذي كان يمكن أن يهدد حياتها لولا لطف الله.. ومع أن النهاية تنفرج عما يشبه التفاؤل بعودة طارق اليها، فإن من حقنا أن نواصل القلق على هذه العلاقة التي لا ضمان لنجاحها بعد أن تنتهي الرواية.
ليس الاستلاب مرضاً عضوياً حتى يعالج بالعقاقير. وهو لا يقتصر على الفرد الذي يعاني منه، إذ يتصل الأمر بوعي الفرد لعلاقته مع نفسه ومع المجموع. فهناك دكاترة ودارسون غير د. رأفت وغير طارق وشيماء، وليسوا كلهم مستلبين.
ولكن علينا الاعتراف بأن العلاقات غير الصحيحة من شأنها أن ترفع وتيرة الاستلاب. وفي مقدمة هذه العلاقات، تلك التي تحكم أوضاع المواطنين.
ففي مجتمع لا يتم فيه تكافؤ الفرص، ويزداد فيه الضغط الطبقي أو الاجتماعي، لا يجد المرء نفسه محصناً بما يكفي لخوض مغامرة الحياة. وها هي كارول الأمريكية، وقد حظيت برعاية عشيق أبيض مثقف، لم تستطع أن تصمد أمام التحديات، بل أوصلها الاستلاب إلى أن تتاجر بجسدها ولو إلى حين. فليس للاستلاب جنسية وإنما هو نتاج مكونات وعلاقات مريضة.
عاقبة الاغتراب
يحظى الدكتور محمد صلاح، في هذه الرواية، باهتمام يمكن القارئ السيكولوجي من تمديده على أريكة التحليل النفسي، باعتباره مغترباً بامتياز. وكان أول ظهور للدكتور صلاح في الرواية، من حيث الزمن، عندما كان طبيباً ناجحاً يعمل في مستشفى القصر العيني. وقد حاول أن يثني زينب رضوان - الفتاة التي يحبها وهي طالبة في كلية الاقتصاد - عن تحدي السلطة والعمل السياسي المتطرف. وقد لقنته زينب درساً قاسياً عندما انتقلت الى وضع الهجوم، فقالت: >لن ننتصر إذا فكرنا مثلك< وحين تفهم أنه سيغادر مصر الى أمريكا صرخت في وجهه: >أنت تهرب< ليأتي جوابه دفاعياً ضعيفاً: >بل أنجو بنفسي<، ويدعوها الى ما يسميها الحياة الجديدة فيأتيه جواب زينب حاسماً: لن أترك بلادي أبداً.
ومعنى ما سبق، بالطبع، هو أن سفر د. محمد صلاح إلى أمريكا ليس بحثاً عن فرصة عمل، بل هو ترك للبلاد. بل إنه حين يصف السفر بالحياة الجديدة، إنما يعترف ضمنياً بأنه قرر الانتقال من حياة إلى حياة. وعندما يقول أريك فروم: >إن جوهر مفهوم الاغتراب هو أن الآخرين يصبحون غرباء بالنسبة إلى الانسان الباحث عن روابط جديدة لتحل محل الروابط القديمة التي كانت الغرائز تنظمها< فإن ما يكون قد حققه د. محمد صلاح، في غربته الاختيارية، هو جوهر الاغتراب. وهو ما يسميه ماركس بالانفصال من خلال التسليم. ولا ينجو الدكتور صلاح بغربته كما قال وتصور. فقد ذهب إلى أمريكا، واستقر في شيكاغو. عمل ونجح والتقط فتاة من إحدى الحانات، فكانت مطلقة، وما أسرع ما أوقعها في جاذبيته حتى رضيت بالزواج منه، لتكون وسيلته للحصول على الجنسية الأمريكية. وسيقع في براثن محاكمة أقسى من محاكمة زينب رضوان له، عندما يطرأ عليه عجز جنسي مفاجئ كامل، فيذهب إلى معالج نفسي، ليستخلص منه ملامح سيرته الذاتية ويصارحه، لا باغترابه الذي يبعث على الشفقة، بل بحقيقة انتهازيته التي لا تستحق الرحمة. وقد عرفنا في الأدب نماذج من أولئك الذين تنتقم أجسادهم من أفعالهم السابقة. وقريباً من هؤلاء يقف عمر الحمزاوي بطل رواية الشحاذ لنجيب محفوظ. وإذا كان الحمزاوي يستجيب على نحو غامض لأغنية تنكر على الحبيب أن يتذكر ما كان، ما دام هو الذي تسبب بالقطيعة، فإن أزمة د. محمد صلاح تدفعه إلى الاتصال هاتفياً بزينب رضوان ولكن عبثاً. فثمة أخطاء لا يصححها الندم. ولقد حاول أن يكون صديقاً طيباً للطلبة المصريين - خلافاً لزميله المتعجرف د. رأفت ثابت - بل إنه ورط نفسه بوعد أن يلقي بياناً مستفزاً أمام رئيس الجمهورية أثناء زيارته للبلاد. لكنه يضعف في اللحظة الأخيرة، مسبباً خيبة أمل لتلميذه ناجي عبد الصمد ولزميله د. كرم دوس. أما امرأته الأمريكية التي انفصل عنها بسبب عجزه الجسدي فقد لجأت إلى الأدوات المهينة لممارسة ما يشبه الاحتلام الصناعي، وهي درجة عالية من الاغتراب بالنسبة الى امرأة في الستين.
ولنتذكر انه قد تجاوز الستين بدوره. وبعد اغترابه في وطنه، ثم اغترابه في الوطن البديل، أصبح واضحاً أنه غير صالح للحياة فسدد الى رأسه طلقة من مسدس كان يحتفظ به. ويبدو أن احتفاظه بالمسدس هو استجابة لقرار من اللاوعي بالانتحار ذات يوم. ويأتي موت د. محمد صلاح على هذا النحو الفاجع، متمماً لموت سارة بنت زميله د. رأفت ثابت. وإذا كان د. رأفت المستلب المغترب أجبن من أن ينتحر بعد الخيبة، فإن موت ابنته يعتبر عقوبة ورمزا لعاقبة هذا الاغتراب العبثي عندما يعمي الطموح والتعالي بصيرة الأناني الذي لم يكن المهجر إلا الضوء الكاشف لعورته النفسية.
.. والفصل الطائفي
وإلى هذه الشيكاغو، سيحمل الطبيب المصري المسيحي كرم عبد الملاك دوس مرارته وعقده وغضبه الكتيم. لن ينسى أن أستاذه المتعصب الدكتور عبد الفتاح، قد صادر في جامعة عين شمس فرصة حصوله على الماجستير في الطب عام 1975. بل إنه كان يخاطبه بكلمة ذات ظلال طائفية عنصرية في اللهجة المصرية: يا خواجه.. ولن يملك الشاب المحبط إلا الخروج من البلاد. لكن البلاد لم تخرج منه. فقد ظل يحن إلى كل ما في مصر، حتى ان صوت أم كلثوم كان تعويذته الدائمة، لا في البيت وحسب، بل في غرفة الجراحة أيضاً!! وسينتقل د. كرم دوس من نجاح الى نجاح صاباً جهده واهتمامه في عمله، إلا من فلتة لسان هنا أو هناك بين زملائه المصريين. تقال فيظن من لا يفهمه أن لديه رواسب طائفية. ولكنه يكشف عن معدنه الوطني تلقائياً في أي اختبار. فهو يعارض من أجل بلاده ولا يعارض بلاده من حيث المبدأ لهذا كان طبيعياً أن يستجيب لاقتراح الطالب ناجي عبد الصمد أن تصدر الجالية المصرية بياناً لتقديمه الى الرئيس شخصياً عندما يزور أمريكا. ويتلقى د. كرم، ذات يوم، برقية تفيد بضرورة اجرائه عملية على وجه السرعة لقلب استاذه - غريمه القديم د. عبد الفتاح بلبع. تأخذه المفاجأة والمفارقة ويوافق على اجراء العملية التي ستنجح بشكل لافت. وحين يحاول د. عبد الفتاح أن يشكره، أو حتى أن يوحي بما يشبه الاعتذار، يكتفي هو بمغادرة المكان.
هكذا يتعامل الكاتب د. علاء الأسواني مع هذا الموضوع الحساس برهافة وانحياز الى العدالة. وعلى ما تمتع به من قدرة الإيهام بالحيادية، إلا أنه لم يماطل في كشف تعاطفه مع أبناء الشعب جميعاً ضد الفصل الطائفي. وسرعان ما يتعرض ناجي عبد الصمد- الذي سيصبح صديقاً للدكتور كرم، بعد شجار عارض - إلى اختبار شبيه. فقد اكتشف أن صديقته ويندي الأمريكية يهودية. وبكل موضوعية شرح لها أن ثقافته، كمصري عربي مسلم، لا يمكن أن تضمر عداوة خاصة لليهود. بل إنه يميز بدقة بين الصراع العربي الصهيوني، القائم أساساً على مواجهة العدوان الصهيوني لا المبادرة إليه، وبين الموقف من اليهود كأتباع ديانة سماوية لهم طقوسهم وعوائدهم التي أمكن لهم أن يمارسوها بحرية في العهود الاسلامية، متذكراً أن خروج العرب والمسلمين من الأندلس كان نكبة على اليهود الذين تعرضوا، كالمسلمين، لاضطهاد الاسبان بإدارة فرديناندوا وإيزابيلا.
لكن هذا المثقف المدرك لحساسية العلاقة، ستراوده شكوك - ولو كانت عابرة - في أن تكون صديقته اليهودية هذه، هي التي وشت به للواء المخابرات المصري. وتغضب ويندي وتنصرف عنه، ليحاكم نفسه المتهمة أمامه بأنها لم تبرأ تماماً من الشوائب التي ألحقها به الصراع العربي الصهيوني. هذه المكاشفة مع الذات، في رواية شعبية متاحة لقطاع واسع جداً من القراء، تشير الى جانب تنويري قوي في شخصية هذا الروائي. وهو ما سيعطي صدقية لتقديمه شخصية كارول، الأمريكية السوداء، بكل حنان وموضوعية، وهي تعاني من الفصل العنصري حتى انها لا تتمكن من العمل الشريف إلا بأدوات غير شريفة. وإذا عوقب الشاب المسلم ناجي عبد الصمد، ذاتياً، على تسرعه في الحكم على اليهودية، فليعاقب د. غراهام، الأمريكي الأبيض الديمقراطي، على عدم صفحه عن زلة كارول. مع أنها لم تسقط - وسقوطها جزئي - إلا تحت وطأة ضغط الحاجة.
لقد نجح د. علاء الأسواني في مقاتلة العوامل والرواسب الذاتية التي تفتح الجرح الطائفي في الوطن، والجرح العرقي في العالم. فنجح باجتياز الاختبار الانتقائي الذي قد يتعرض له المثقفون أحيانا. وإلى ذلك نراه لم يلجأ لحظة إلى مجاملة الدكتور القبطي كرم دوس، فقد وضع يده على ما يمكن أن يسبب له القهر من ردة فعل. ولكنه كان عادلاً عندما أسهب في تقديم صورة القبطي الوطني الغيور على مصر، بلا افتعال، ولا خطابية، ولا خروج على النص.
.. والآخر إنسان
لا بد من الاعتراف بأننا أمام رواية شاقة بقدر ما هي شيقة، مزدحمة بالشخصيات والطبائع والمشكلات المختلفة. فهي بقدر ما تستخدم مبضع الجراح في تشريح الذات، لا تتوانى عن تقديم الآخر بلا أوهام ولا صورة مسبقة. وإذا نجح الكاتب في نقل مصر، أو عينات منها على وجه الدقة، الى شيكاغو، المدينة الأشهر في أمريكا من حيث الصخب والحيوية، فإنه نجح كذلك في أن يحمل إلينا أمريكا، أو عينات منها، على ورق مصري بحبر مصري، ليشهد على ردود الأفعال والمصائر.
سنجد بداية، أن هناك متسعاً للدكتور اليانكي جورج مايكل الذي لا يخفي عنصريته ضد المصريين والعرب عموماً، والدكتور جاك الذي لم يخجل من أن يوجه اهانة عنصرية بلا سبب الى الدكتور كرم، وكذلك الشاب الأرعن زميل ويندي التي يستكثرها على الشاب المصري ناجي عبد الصمد. وأمثال هؤلاء العنصريين يوفرون مناخاً مناسباً لتحويل حياة كارول، الأمريكية الزنجية، إلى جحيم. فهي لا تطلب إلا فرصة للعمل حتى تنهض بعبء مصروفاتها ومصروفات ابنها الطفل. ومع ذلك فالثقافة العنصرية تغلق الأبواب في وجهها بسبب لونها مبدئياً.
ولكن إذا كان هؤلاء موجودين، فإن هناك متسعاً أيضاً لأمثال البروفيسور دنيس بيكر، العادل، الموضوعي الذي لا يحتمل حتى عنصرية د. رأفت ضد أبناء شعبه المصري، وكذلك د. بيل فريدمان الذي يتوخى الحقيقة ما أمكن، فإذا أعيته الحيلة لجأ إلى التصويت الديمقراطي، وهناك د. جون غراهام الانساني الذي يقيم علاقة طبيعية مع كارول السوداء ويرعى ابنها على نفقته حتى لو أدى به ذلك إلى بعض الضيق المادي. لكنه مع ذلك لا يغفر السقوط لكارول. لا لطهرانية متأصلة فيه وحسب، بل لشعوره بالغبن إذ قدم لها الكثير. ولكنه إنسان، فهو لم يستوعب ضغط الحاجة ولا الحرج الذي تحس به كارول من إثقالها وابنها عليه.
لكن العالم ليس أسود وأبيض. فإلى جانب هذه النماذج. وإلى جانب المنتجين والدارسين يمكن اكتشاف مشردين من أمثال الشاب الصعلوك جيف الذي يتعاطى المخدرات ويوهم الفتيات بأنه شاعر ورسام وهو الهامشي الذي لم يكمل تعليمه. وكذلك نرى سارة التي تهجر بيتها الى المجهول بحثاً عن وهم الحرية والمتعة لتموت بجرعة زائدة من المخدرات. أما كريس ذات الستين عاماً، فلا يحرجها أن تحصل على جهاز يجلب اللذة المصطنعة المهينة ما دامت أدركت أن زوجها عاجز عن تلبية احتياجاتها الإنسانية، بل إنها على استعداد أن تبقى معه في هذا الوضع المريض حتى لا يتركها. وكريس هذه كانت مطلقة قبل هذا الزواج المعطوب. وقد عثر عليها د. محمد صلاح في إحدى الحانات وهي تخدم السكارى من غير المتزوجين.
من جهة ثانية تبرز شخصية ميتشل التي تكتفي من زوجها العربي رأفت بانخلاعه عن أصله العربي، لكنها تعجز مثله عن أن تنقذ ابنتهما سارة من هاوية الضياع.
هكذا لا تكون شيكاغو فردوساً، وما هي بالجحيم، إنها أمريكا بالفرص المتاحة، وبالقسوة المادية، بواقع المتعة الأبيقورية والتاريخ القريب القائم على الحروب والمجازر، بتقنيتها التي تفوقت بها على العالم، وبالجانب الخرافي الذي يسكن في عقول قطاع واسع من قاطنيها. لقد التقى فيها العربي واليهودية، والأبيض والسوداء، ولكن هذا لا يعني ان الأمور تسير دائماً على ما يرام.
لقد كان اختيار هذا المكان البعيد الغريب المتناقض، أشبه بضوء الكشاف الذي يهتك أسرار المغتربين الذين يحملون ذكرياتهم عن أوطانهم وتقاليدهم ويبحثون عن مساحة للتأقلم مع العالم الجديد. إنها المكان الملائم لتحقيق التعبير العربي الشائع: عند الامتحان، يكرم المرء أو يهان.
شجاعة ومكاشفة
اذا ضبطنا الكاتب متلبساً بالتعاطف مع كارول وغراهام وزينب ود. كرم، والتفهم لظروف شيماء وطارق وكريس، فإننا لا نغفل عن شعورنا بمقته الشديد لأمثال صفوت شاكر وأحمد دنانة. وهذا لا يعني أنه قدم رسماً كاريكاتوريا للانتهازي والطاغية. ولكنه قدمهما على الورق، مثلما هما في الحياة، وهل هناك من عقوبة للفاسد أكثر من أن تقدمه على حقيقته؟
لقد جمع أحمد دنانة من الصفات المدانة ما يؤهله ليكون فاسداً بامتياز، فهو مخبر يشي بزملائه، ومتسلق ينتهز العلاقة مهما كانت عابرة مع الكبار، من استاذ الجامعة، إلى لواء المخابرات، حتى رئيس الجمهورية. ولا يتردد في ابتزاز أسرة امرأته حتى تحولت مساعدتها له الى أتاوة ملزمة. ولا مانع لديه من محاولة القوادة الصريحة في وضح النهار على امرأته للوصول الى ما يريد. وبطبيعة الحال هو طالب غير ناجح، غشاش، ومع ذلك لا يتوانى عن اتهام البروفيسور النزيه بالعنصرية لأنه كشف غشه وفصله من الجامعة. وإلى ذلك لا يضيع أحمد دنانة وقته، فهو يصلي، ويستثمر صلاته الظاهرية لكسب ثقة من لم يتعمقوا في معرفته. وبقليل من التأمل نرى أن هذه الصفات يؤدي بعضها إلى بعض. فالكاتب لم يشوهه خلقياً بل فضحه أخلاقاً وممارسة. والمحزن انه فرض على القارئ العربي أن يتذكر نماذج شبيهة موجودة في حياتنا العامة. ولم يجامل هاجس الأخلاق برسم نهاية قاسية له. فأمثال أحمد دنانة لا يزالون موجودين ولا يزالون ينجحون حسب مقاييسهم الخاصة للنجاح. ولكنهم بالتأكيد لا ينالون حتى احترام أنفسهم. وما انفصال مروة عن هذا الفاسد إلا نتيجة متوقعة من فتاة مصرية مستقيمة حتى لو تخوف والداها من التوابع الاجتماعية لفكرة الطلاق.
أما اللواء صفوت شاكر فقد سقط مرتين. مرة في الواقع، بوحشيته وقمعه وإقدامه على هتك الأعراض وابتزاز ضحاياه ونسائهم وذويهم. ومرة في الفن الروائي، من حيث انه شخصية نمطية نراها في مختلف اخبار الطغاة وفاسدي رجال الأمن.
وقد نعذر د. علاء الأسواني بأن هذا الآنموذج موجود. ولا حيلة له في تقديمه فنياً إلا كما هو. ولكنه عمد إلى إفراغه من اللمسة الإنسانية التي كانت ستربك مشاعرنا تجاهه لو تحلى ببعضها. فهو لم يقدم نمطاً وحسب، بل أملى علينا كيف نتعامل نفسياً مع هذا النمط البغيض المقيت.
ولا بد من الاعتراف للمؤلف بجسارة غير معهودة إلى هذه الدرجة. فلسنا أمام كاتب معارض يفرغ جام غضبه على النظام في بلاده وهو في مهجر بعيد، بل انه كاتب مقيم في بلده، لا يوفر احداً من النقد والملاحظة اللاذعة حتى ليمس أكبر رأس في السلطة. وفلسفة في ذلك يعبر عنها عنوان مجموعته السابقة: نيران صديقة.
وقد اشتق هذا العنوان من لغة الحرب التي رافقت العدوان على العراق، عندما كان الجنرال الأمريكي يشير الى إصابة غير مقصودة لم تأت من الأعداء، بل هي نيران ذاتية.
كأن الكاتب يقول إنه يلهب ظهر وطنه بالنقد المر، لكنه النقد الصديق، الغيور على ناس البلد ومستقبله. ولكن لا بد من الاعتراف بمساحة- لا أعرف طبيعتها - من حرية التعبير. فحسب معلوماتي: إن الكاتب البريطاني لا يستطيع في تلك البلاد العريقة بديمقراطيتها أن ينال من شخص الملكة، ومع ذلك فإن قلب كاتبنا على سن قلمه. وأحسب أن الرقابة إذا غضت النظر عما يكتب - وهذا ما تفعله حتى الآن وما نرجو له الاستمرار - فلإيمان مصر كلها بأن موهبة كهذه هي ميزة مصرية، ولا يمكن إلا أن تعبر عن الغيرة على مكانة أم الدنيا في الدنيا.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |