محمد عيد إبراهيم ملاحٌ لا تحبسهُ الرماح
ثلاثيةُ الحياة/ منفى الشاعر إلى ذاتهِ، عزلتهِ في العتمةِمحمد عيد إبراهيم الشاعر الملاح، ولا تحبسه الرماح، فهو مطعون في خاصرة القصيدة منذ أن كتبها لأول مرة، وهو الملاح كما جلجامش في بحثه عن عشبة الخلود، وجزيرة جده شمس نشتين، كما لوكاس الإغريقي في مغامرته بين جزيرة للأمازونيات وأخرى للسيرانا، بحثاً عن صوف الخروف الذهبي.
محمد عيد إبراهيم ملاح المعنى، لا تحبسه رماح اللغة، والشوك النافر في خاصرة الورد. يؤرخ في الجزء الأول من أعماله الشعرية الكاملة، الصادرة عن دار الانتشار العربي، لبحث الشاعر عن لآلئ الحرف في عالمه المتخيل، وبلاد في حجم الظن ولا تتحقق، يقول"بلادي، في حجم ظن، وتضحك مني"صفحة 96.
البلاد تفرده كما أفردت قبلاً طرفة بن العبد، فحمل كتاب قتله بيده، و"لولا ثلاث هن من لذة الفتى... " والفتى محمد عيد إبراهيم أفردته البلاد ونفته اللغة إلى سرها، وسحرها في الصمت.
يقول:"استهلكتني سجون الكلام/ أسلم نفسي من عبث الرعب/ قيدت صوتي/ ونمت" صفحة 98.
الكلام سجن الشاعر، وتفجر اللغة غايته، يبعثر أشياء الوجود ليعيد ترتيبها أكثر بهاءً، ونبلاً. يغمض عينيه ليرى أكثر، ينظر في عين المعنى ليفقأ أعين الحروف المريضة بالرتابة والسقم، يبشر بالحرائق كنيرون، ولا يبكي روما، بل يطلق رصاص الأسئلة على الوجود الكهل ليعيد إليه شبابه الأزلي وشكله الأول من البراءة وجمالية اللهاث لما يطوق خصرها بالشغف والورد، يقول:" الحرائق كلهاث بمرحلة الخلق/ أني عثرت على ما يطوق خصرك؟"صفحة 88.
محمد عيد إبراهيم يعلن عمادة الحروف، فيتقن حرقها لينبعث فينيق المعنى من بين الرماد، كأنه ينحاز للمعنى ضد الشكل ويحسم في أولية أحدهما على الآخر، يقول:"الحروف لا تدوم/ بل تحرق"ص89. وفي احتراق الحروف ابتداء البوح، وانهمار التداعيات الجميلة من لاوعي الشاعر بالمسميات المحببة الضد معاً: الضجر، الخنجر، الليل، الخيانة، الثمر الفاحش، العناكب، هشيم الزجاج، الرحيل، ندى الصباح، الفتاة، طين الرعشة، الحب، الكشف" وإن غلبت ثنائية جدلية بين مفردتي "الأمل" و"المجهول" على شبكة علاقات النص لتبرز تحيز الشاعر ضد المجهول المختبئ في عتمة اللغة، يقول:" ينحني الخنجر، ثقله ومعناه لا يعمل، ليجرحني الليل"صفحة 99. فالخنجر والليل مرادفان لتعب الشاعر، يتبادلان دلالة الفعل في الانحناء والقتل، ويلغيان الدلالة المعيارية التي تنسب الأفعال لفاعليها، فالمعاني لا تعمل، والشاعر هاربٌ إلى رؤى أخرى تستدرج الحياة إلى فخ حيّزه العاطفي الخاص لتسقط فيه ويأسرها.
محمد عيد إبراهيم يعطي للشاعر دور المحرّض على الفعل حيناً مع الحياة (الحلم)، وأحياناً ضدّ الحياة (الواقع)، فالضجر سيدُ اللحظات، وإنسانه الشاعر يسكن لاوعيه الفنيّ لكن يقيّده الوقتُ وفواتهُ، ويمنعهُ الضجر، يقول:"لولا الضجر، لوعدتكَ" صفحة 95. و كأنّه يدركُ حقيقةَ أنّ الشاعر على موعدٍ مؤجّلٍ مع ذاته الأخرى، ذاتِ الإنسان في ذاتهِ الشاعرة، ومتى توحّدا في النص كانت جماليةٌ مطلقةٌ وكان الشعرُ.
وإنسانُ هذا الشاعر يعاني مما يضيق القلب به، ويخافُ حشرات الزوايا في أزقة المدن وضيق صدرها عن احتمال مشاكسات قلب الشاعر، النابض باللغة التي ترتكبُ خيانةَ أصلها، يقولُ:" عناكبُ ممتطاةٌ في هشيم زجاجٍ/ فهل القلبُ ضاق بما لا يقوم؟" صفحة 103.
والقلبُ نابضٌ بالحب كذلك، في مفردات الرعشةِ المهداةِ والشجرةِ التي أورقت، والشمسِ التي شقّت في الظلِّ دربها إلى فتاةِ الشعرِ، شمسِ القصيدةِ، أنثى الطينِ والهدفِ، كأنّه يرسمُ عالماً من رومانسية إيليا أبي ماضي وإلياس أبو شبكة حين يكتب في قصيدة "عزلة الدمع" وجهاً جديداً للصبح، يقول:" في ندى صباحٍ أورقت شجرةٌ/ وما خرجَتْ شمسٌ على المشقّةِ/ إلا نفشَ الظلُّ عليها/ صاحت الديَكةُ قدّامي/ و أهدتني فتاةٌ طينَ رعشتها هدفاً أحطُّ عليهِ" صفحة 72.
لكنّ الحبَّ بالنسبةِ إليه حقلٌ معجميٌّ حافلٌ بدلالات الذنوب اليومية التي تسحق جوهر الحب، وتقذفُ به إلى فضاءات حلمٍ بعيدٍ، والحبُّ في نصوص المجموعةِ "ملاحٌ تحبسهُ الرماح" وجهانِ ضدّانِ في وجهِ عملةٍ واحدٍ، القنصُ والخيانةُ، والثمرُ الفاحشُ، ودفءُ القلبِ لامعِ البَرَدِ، ناصعِ البياضِ. والشاعرُ يقتنصُ اللحظةَ، والقنصُ ارتكابُ فعلِ الوضوحِ، يقول:"أيها الغافلُ/ القنصُ من نمطِ الخيانةِ/ راعني ثمرٌ فاحشٌ يتريّضُ حائطها/ لامعَ البرَدِ" صفحة 101.
والحب تساؤلٌ وجوديٌّ يقلقُ الشاعر بإلحاحِ بحثهِ عن إجابةٍ لا تقاربُ الأخطاءَ، ولا ترتكبُ حماقةَ التجريبِ، وهو عاطفةٌ أصيلةٌ لا تعترفُ بالرحيلِ أو الغياب حتى لو كان حلماً.
والحب يولّد لمفردة "الثغر" حقلاً دلالياً من الجرأة والبسالة في علاقتها بالقلم والفم معاً، ولها أن تشحذ قبلةً أو تقطرَ عسلَ المعاني على شفاهِ اللغةِ المحنطةِ فتحيا. يتساءلُ الشاعر عن الحبّ في المتعارف الجمعيِّ ومعجمِ بلاغةِ اليوميةِ المريضة بالخرس، ينطقها ثغرٌ شحّاذٌ باسلٌ، في "أحططْ رحلَكَ"، يقول محمد عيد إبراهيم "أيُّ حبٍّ كان على حدِّ أخطائهم/ جسراً إلى الشطآن؟/ والثغرُ شحّاذٌ باسلٌ خاف أن يعدوَ عليهِ الحلمُ/ فالحياةُ تجلدُ الرحيل" صفحة 83.
والحياةُ مساحةُ تصوّفٍ وتأمُّلٍ في رؤى محمد عيد إبراهيم الشعرية، يتخذ عبر نصّهِ صفةَ الطيف الشاهد عليها، الواقف في الظلّ كاشفاً قلوبَ ناسها، شاهراً سيفَ كلماته في وجه الليلِ، بالكشف الصوفيّ ونورانية الحرف:"كشفاً لقلوبكم بأناملي/ أسمّمُ النومَ آخرةَ الليلِ/ فالجسورُ التي تطلبون/ ما يُحرقُ بها نُشدانُ/ وانزووا بعيونكم منّي/ أهدّمُ مطلوبَكم/ حاسرَهُ كبطنِ المومسِ عندَ العتبةِ" صفحة 194.
والحياةُ سفَرُ الشاعر ليتفرّج على جمال الخليقةِ، وسِفْرُ الكتابةِ لتعفيهِ من المجهول، نقيضِ الأملِ الذي في الشوارعِ، والكتابةُ فعلُ خروجٍ عن المألوفِ والمعتادِ من اللغةِ الحياة، وانزياحٍ إلى غيرِ ما اعتادهُ الشعراءُ من اشتغالٍ بالغزلِ وانشغالٍ بالأنثى، فللحرفِ أوليةُ التحققِ مطلعَ القصيدةِ وأوّلَ الفجرِ، يقول:"سافرتُ ذاتَ يومٍ أتفرّجُ على جمال الخليقةِ/ وهي تعفيني من المجهول/ في قطارٍ بزحامٍ مرتخٍ/ على مطلعِ الفجر/ غمغماتٌ من امرأةٍ تحتلُّ أوراقي "لا تشتغلْ بي" صفحة 31.
جدليةُ علاقةٍ غريبةٍ يقيمها محمد عيد إبراهيم بين أطراف ثلاثة: اللغة، الحياة، والحب. ولا تكون الحياة بغير الحب، ولا تكتمل شاعريةُ اللغةِ إلا إذا حفلت الحياةُ بالحبّ واحتفلت به، وكان الشعرُ وليدَ هذا التماهي حدَّ التوحّد بين الأطراف الثلاثة، كأنه عبثُ الشاعر في غنائه الأخير واحتياجه اللذة الهاربةَ والأحلامَ التي تحاول قافيةُ الناب أسرَها، يقول: "إنسَ هذه الليلةَ/ عبثٌ بدنياكَ/ سليبَ الروحِ لا تتوانى عن غنائكَ الأخيرِ/ وأحلامكَ لا تؤسرُ/ ثمّ تُفلتُ من نهجِ لذّةٍ راحتْ/ فتلهيكَ" صفحة 138.
اللغةُ، الحياةُ، والحبُّ ثلاثيةُ الفرحِ الجميلِ عندَ محمد عيد إبراهيم ضدًّا للحزن والتيه، في ضياع بوصلة الأحاسيس وعمادة الشاعر بنار المعنى، في التيه والرصد، الولادة والهرم، رداءِ المعنى بالعُريِ منهُ، يقول: "تائهاً أرصدكَ/ من ضفّةٍ أو حجرٍ/ ثمّ تهرمُ بالعُريِ منكَ/ قُلّبتِ النارُ/ ماذا يرفدُ المسامَّ إنْ خُدِعَتْ؟" صفحة 127.
ثلاثيةُ الحياة/ منفى الشاعر إلى ذاتهِ، عزلتهِ في العتمةِ، يرددُ مراثي الفلاسفة والمتصوفة، باكياً، رائياً، لكن ملتبساً عليهِ الحلم/ موشحاً بالأمل، يقول: "تربّعْ/ في الكهف يجملُ البكاءُ/ سأربحُ اللَعبَ" صفحة 139.