الثقافة النائمة
2007-08-21
قراءة في رواية إبراهيم الجبين ( يوميات يهودي من دمشق )
تتعرض هذه الرواية لمضايقات وانتقادات كثيرة لا تبدأ بمنع توزيعها ولا تنتهي باتهامها كحالة أدبية تفرط بالحقوق وتروج للتطبيع وللسلام مع الإسرائيليين تحت يافطة الإنسانية .
وعليه ، فإن الذي يحدث لهذه الرواية طبيعي ، برأيينا ، لإشكاليتها واقترابها من الحدود غير المسموح بها للتابو السياسي والديني والاجتماعي، جميعها دفعة واحدة .
هل يمكن لنا، كقراء على الأقل ، أن نكون منصفين ..؟
يقيني بأن الرواية لم تطمح ، بل لم يكن همها التحدث عن النزاع العربي الإسرائيلي أو حتى عن فرص تسويته ( إنسانيا ) ، واعتقد أنها تجنبت الذهاب إلى هذه المنطقة من بعض الإشارات التي كانت تشي برغبة المؤلف بزرع خط درامي الشائكة سياسيا وتاريخيا ، وإن لم يخل الأمر
في هذه الرواية متعلق بهذه القضية تحديدا ، إلا إنها كانت ثانوية ، وربما أقحمت بسرعة لإضاءة الفكرة الأساسية أو تفسيرها ، هذه الفكرة التي كانت بعمومها منحازة ، وبوضوح ، للحق الفلسطيني مع رفض لا يشوبه شك للـ ( المخلوق ) الصهيوني ، وهو الأمر الذي قد عثرنا عليه مرارا في الرواية وخصوصا من اليهود العرب ، وقد تجلى ذلك في إصرار معظمهم ( في الرواية ) على البقاء في بلادهم والتمسك بجنسيتهم العربية وخير مثال على ذلك بطل الرواية نفسه ( إخاد ) إضافة إلى ( شحاتة هارون ) ، ذلك المصري الذي خاطب نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي بشان معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، وكان وقتها منخرطا في أهم وأقوى الأحزاب الوطنية المصرية المعارضة ، رفيقا لـ خالد محي الدين ورفعت السعيد : ( إنني كمصري أرى إن المعاهدة مهينة بحق كرامة الشعب المصري ) ، ولا ينتهي الأمر عند ليندا التي استعادتها دمشق بعد سنوات من تجريب ( الأخر ) لتهيل على جسدها فحولة هي الأخرى منسوجة بخيوط الأسرار ( أشم رائحة رجال كثيرين كلما اقتربت مني ، وأشعر أنها تتآكل كيهودية .. ) .
فيما يتعلق بـ ( السلام ) فقد تم لنا رصد جملة وحيدة أفلتت من السياق ، ربما ، تحت إغواء الكتابة متحسرة على الهبوط العام في لغة السلام ( كانت تعلم طلابها الصغار اللغة العربية وتشرد أثناء الدرس في الفارق مابين وثب العربية ووثب العبرانية وتفكر أكثر في القواعد الواحدة للعبة اللغة ،والتي ستصبح ذات القواعد في لغة الحرب ، ولا يستعملها احد في حديث السلام ).
الرواية ، حسب ظني ، محاولة شجاعة للعثور على مكان تلك البوابة التي تم إغلاقها تاريخيا بمراسيم ( دينية ) وان تخفـّت بلبوس سياسي ، وهنا المفارقة الكبرى ، فقد تعودنا أن تصدر المراسيم بحروف ( سياسية ) ، ولكن بآخر نسخة من لغة الدين .
هل سنجد تلك البوابة ونسترق النظر إلى ما ورائها ؟
حقا إن ما وراءها خطير .. خطير .. خطير ؟
حتما ستذكر يا إبراهيم ، منذ عشر سنوات ، وربما أكثر ، حدثتك عن جواد علي وعن اكتشافه المذهل في كتابه المذهل ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ) ،
في ذلك الكتاب يؤكد جواد علي ، بعد مسح دقيق لأخبار اليهود في كتب الأخبار والتاريخ ، إن جميع يهود الجزيرة العربية كانوا متحدرين من قبائل عربية وإن أسماءهم جميعا هي أسماء عربية خالصة ، وهذه القبائل اعتنقت اليهودية مثلما اعتنق غيرها المسيحية والإسلام بعد ذلك .
هذا التأكيد ، حول عربية القبائل اليهودية ، سيأتي مرة أخرى من الداعية الإسلامي الشهير سيد قطب ، وهو من أكثر الغلاة لليهودية ، في كتابه ( معالم في الطريق ) غير مستثن قريظة أو النضير أو القينقاع أو غيرهم ( فأما في المدينة - في أول العهد بالهجرة - فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها ، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك .. ) ..
لاحظوا الذي كتبه سيد قطب : ( من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها ) ، ألا يعني هذا إنهم ليسوا غزاة أو طارئين على هذه المدينة أو غيرها ، في جزيرة العرب أو غيرها ؟ .
خلف البوابة ، التي أغلقت تاريخيا بقرار خليط بالديني والسياسي ، تكمن المغامرة الروائية لإبراهيم الجبين :
إن اليهودية ( النائمة ) في حضن المجتمعات العربية هي جزء من الثقافة العربية وهي قد تماهت معها إلى حدود كبيرة ، وإن متفاوتة ، وبحسب ما سمحت به الشروط السياسية والاجتماعية لكل بلد ، فكلما ابتعدنا عن الجزيرة العربية ، وخصوصا نحو بلاد الشام وأفريقيا والأندلس بشكل خاص ، سيكون هذا الاندماج أكثر وضوحا وستكون الهوية الثقافية اقل تنافرا .
هذه الثقافة النائمة تم إيقاظها منذ عقود ( سياسيا ودينيا ) ، بعد اضطرام الصراع مع الكيان الصهيوني ، وتجهيزها بسرعة لإخراجها تحت جنح الريبة وقذفها بعيدا خارج البلاد والمجتمع والهوية .
الرواية محاولة أخرى لإنصاف الوحدة الثقافية لمجتمعاتنا العربية بكل أديانها وأعراقها وتنوعها ( باستثناء الجزيرة العربية التي جاهدت للحفاظ على اشتراطها المقدس بإبقاء المنطقة نظيفة من الأديان الأخرى ) ، وقد أكثرت الرواية من الإشارات التاريخية والأدبية للتأكيد على تحقق هذه الوحدة ، مجتمعيا وسياسيا وتاريخيا ، إلى الحد الذي اتخمها ، مسببا لها مرضا يسمى في علوم الأدب بالحشو وهذا ما قد أضعفها كبناء سردي وأخرجها مرارا من بهائها ورشاقتها اللغوية خصوصا مع إصرار المؤلف على الإكثار من التوثيق التاريخي و المعلومة السردية القسرية .
ورغم إن الرواية تبدو ظاهريا موزعة على أربعة خطوط درامية ، ( اليهودية كثقافة منبوذة – التحولات السياسية والفكرية الجديدة في سورية – التاريخ باعتباره شخصا وتجربة – الأنثى كمادة تقليدية للحب والاختراق ) ، إلا أن دمشق ( القديمة ) تظل البؤرة المركزية التي تخرج منها جميع هذه الخطوط لتعود إليها وتتجمع من جديد في حالتي ( جذب ونبذ ) طبيعيين مثّلا، في وقت ما ، أحد أهم خصوصيات عراقتها ونموها الثقافي والاجتماعي ، قبل أن تفقد في عقودها الأخيرة إحداهما ( الجذب ) لتقف تحت سفوح قاسيون ، عرجاء ، نابذة للجميع .
إذا دمشق هي الخط الدرامي الأول والنهائي ، وهي ليست واحدة :
فثمة دمشق التي أجهز الشرط السياسي على (عبقرية الالتصاق ) لدى أهلها ، بطوائفهم وإثنياتهم وحاراتهم ( العريضة ) الأمان وبيوتهم المفتوحة للهواء والأسرار .
وثمة دمشق التي أخطأت بمغادرة نفسها والركض بعيدا نحو( فقهاء الظلام ) غير آبهة بأحزان معاوية والحلاج وابن عربي ويوسف العظمة وصادق جلال العظم .
دمشق التي لم يجد ( أبو المحجن ) مكانا له فيها طوال مئات السنين رغم إن ابن تيمية كان يجوبها طولا وعرضا ، وإن ( أبناء لادن ) كانوا يتشهون التسلل إليها منذ قرون ؟..
ما الذي حدث اليوم كيما يدلي أبو المحجن قدميه في البركة الأموية ..؟
ما لذي حدث ليعلق الشطار والتجار والمغامرون مفاتيح ( الجنة ) في صدر ابن تيمية ، ذاك الذي لم تمنحه دمشق أكثر من قبر ومصلى ؟ .
وثمة دمشق التي لفها الجلال وحير بهاؤها الرومان واليونان والعرب والأتراك والفرنسيين ..
دمشق التي طالما هربت من الرمل ، لائذة بالماء ( قالت لعرب الجزيرة : شكرا لكم ، فعلتم ما عليكم ، ثم تناولت الراية منهم لتمخر فيها بعيدا فوق الماء ، بعيدا .. بعيدا ، نحو الأندلس ) .
إنها غريزة التاريخ ، دمشق المنذورة للماء ، ( كان علينا قبل التورط بالكتابة أن نقرأ قرطاجة جيدا ) .
أجل ، هي ذي دمشق التي تتفتت الأرواح بعيدا عن أحجار دروبها البازلتية السوداء وحيطان بيوتها الصفراء وحواريها الندية العابقة بالياسمين والأسرار ..
لا عليك .. سيعود كل شيء إلى حاله , فقط ارم بنفسك في الأزقة المتعرجة المتلاصقة واضرب بقدميك أحجار الطرقات ، وأصغ للهسيس الندي المتفلّت من وراء الجدران ..
لا عليك .. سيعود كل شيء إلى حاله ، ستفرز الروح أشواق ابن عربي ، تتلاصق كِسر التاريخ ، كقطع ملونة على ذراعي ( الجامع ) الأموي ، وتبدأ ، من جديد ، أسفار الوصال : ( كل شوق ينتهي بالوصل ، لا يعوّل عليه ) .
أخيرا ، قد نجد الكثير مما نختلف عليه في ( يوميات يهودي من دمشق ) ، وهذا احد أسرارها الجميلة ، ولكن مسافات الخلاف ستنكمش عند الحديث عن تحقق اشتراطاتها الفنية ، بنية وسردا ، سيما وان المؤلف قد أثقلها بما ليس لها أدبيا ، إنشاء وحشوا وتقريرا ، كما إن الاستعراض النرجسي للراوي ( المؤلف ) لم تمنح الرواية سوى تلك الرائحة الثقيلة التي لا ينفع معها فتح شبابيك التأويل والتفسير، رغم جهد اللغة ، برشاقتها وتماسكها وذكائها الأدبي ، لتبديد تلك الرائحة أو التقليل من شأنها .
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |