الشاعر المتخفي / نظرة مضادة للشاعر ـ النجم
2008-07-01
حين كنت في مرحلة الشباب الأول، حيث بدأت تثيرني فكرة الشاعر، وبدأت تتوالى أسئلة السذاجة الأولى: من هو الشاعر، كيف يظهر، من يعلن عن وجوده، متى، كيف يقول الشعر...، كانت تكتمل، في تلك الأثناء، لوحة الشاعر في مخيلتي: يمشي في الشوارع والأزقة وبين الحارات...، وفي لحظة ما، مباغتة وحاسمة، يقول الشعر بصوت عال، وعلى نحو متلاحق، ودون أن يتوقف عن الكلام، فيتبعه الآخرون جميعاً ليدونوا ما يقول بانتباه وبلا توقف، في هذه الأثناء تبزغ هالة حول رأسه، نورانية ومشعّة، هي هالة الشاعر. وفي لحظة ما يركض رجل في الحارات والشوارع والأزقة ويردد بصوت جهوري، واضح، لا لبس فيه: لقد ولد شاعر!
يتعين، هنا، على الناس جميعاً، حسبما تقرر مخيلتي، أن يحتفلوا به، يحموه، يلبوه، يفتخروا به، ولا مانع من نظرة استعلاء بسيطة على الشعوب الأخرى التي ليس لديها شاعر!
ضمن هذا التصور الراسخ أتيت إلى دمشق: معقل الشعراء كما كنت أظن، لأتعرف إليهم، أتفحص عن كثب هالتهم، أراهم وهم يدخلون الغيبوبة البيضاء، أرى الناس تركض خلفهم لتدون ما يقولونه حين يدخلون العماء البدائي... رحت أراقب المارة فلم أر هالة على رأس أحد، ولم أر أحداً يمسك أوراقاً ويدون... سألت عن الشعراء فلم يعرفهم أحد، طرقت بيوت الناس: هل من شاعر لديكم؟ لم أر شاعراً.
شاءت الأقدار ودلني أحد على المكان الذي يتواجدون فيه، ذهبت ركضاً، صعدت أدراجاً كثيرة، والتقيت بأول شاعر (كبير كما كانوا يصورونه) وأثناء ذلك دخل شاعر آخر (كبير أيضاً) ـ في الحقيقة كنت أقصدهما بالضبط ـ وحين خرجت كانت هالة الشاعر قد اختفت كلياً، وكان على الناس أن يركضوا لملاحقة أعمالهم وشؤونهم الخاصة، وليس ليدونوا وصايا الشعراء وتعاليمهم لبناء عالم من كريستال، وكان على النساء أن يتحاشوهم عوضاً عن طلب قصيدة تصنع مجدهن...
عدت إلى بلدتي وقد حل فراغ كثيف مكان تصوري الساذج والأحمق عن الشاعر! وكان الحل الوحيد لإعادة التوازن إلى ما اختل هو أن يكون الشاعر موجوداً وغير موجود بالوقت ذاته: هوميروس كمثال.
في التاريخ الشعري العربي لم يتقدم لنا شعراء على هذا النحو. تقدم لنا شعراء لايمكن المساس بهم، أشبه بالشعراء المقدسين، شعراء جعلنا منهم طغاة أزاحوا شعراء آخرين شديدي الأهمية وكان علينا أن نحفر التاريخ حفراً كي نستدل عليهم. وضع النقاد العرب قواميس نقدية على مقياس المتنبي، كمثال، فأجازوا له ومنعوا عن غيره، واتخذوا من أبي تمام وثناً شعرياً لايضعف ولا تلفحه الشمس ولا غبار يغطي وجهه، وجعلونا نبتسم، فرحين، ببطش الفرزدق وطغيانه... الخ، حتى عدنا لا نقبل بشاعر لم يتخذ من هذا المكان مستقرّاً.
لقد اعتدنا على وجود الطاغية الشعري، بل صنعناه، وطالبنا به، وأكثر، لقد أشفقنا في تاريخنا الشعري على من ليس هكذا! دون أن يعني هذا الكلام أي موقف سلبي من النص الشعري، الرفيع أحياناً، الذي قدمه هؤلاء الشعراء. فإذا أجرينا عملية حسابية نحصي خلالها الشعراء المكرسين الذين نذكرهم يومياً، بمناسبة وبدونها، منذ امرئ القيس إلى الآن، أظننا لن نبذل جهداً ولن نحتاج إلى الكثير من الأصابع كي نستطيع إحصاءهم، وسوف نبذل جهداً مريراً وغير مضمون النتائج لو أحصينا الشعراء المهمين المعاصرين لأولئك والذين مُنع عليهم الظهور وتم إبعادهم وإقصاؤهم. صحيح أن الشعراء أقلية، لكن ذلك لا يعني أن نقصي بعضهم ونبقي على الطغاة فقط لنجعل منهم أقلية.
في العصر الحديث كان علينا، نتيجة السوء الذي لحق البشرية من الطغاة، أن نستبدل المفردة بأخرى مثلها، ولكن محببة، لطيفة: النجم. فتحول الشاعر الكبير إلى نجم إعلامي وثقافي، أو أن الشرط الذي يجب أن يتحقق ليكون الشاعر كبيراً هو أن يكون نجماً وإلا لن يكون أبداً.
في سوريا، على سبيل المثال، نجد من الصعوبة بمكان الاعتراف بوجود شعراء مهمين غير الثلاثة النجوم: نزار قباني، محمد الماغوط، أدونيس (مع محبتي لهم بطريقة فائقة) ثمة شعراء موجودون، ولكن ينظر إليهم على أنهم مثيرون للشفقة وعاطلون عن العمل، بينما للنجوم الانحناءات والقبعات المرفوعة.
من هنا فإن أنسي الحاج ظاهرة يجب تكريسها بوصفها ظاهرة الشاعر المتخفي. أنسي الحاج يحوز شهرة في المنطقة العربية توازي شهرة أدونيس أو الماغوط كمثال، ويحوز على قراء يوازونهما إلى حد كبير، وكلما تحدث أحد عن الشعر والحداثة وقصيدة النثر تحدث عن أنسي الحاج...، لكن، مع هدا، فإن أنسي الحاج شاعر متخف، منسحب، ينشر رائحته بلا إعلان، بلا دعوة الكاميرات، يؤسس باستمرار لظاهرة الشاعر النص، وليس الشاعر الشخص، لا استعراض، ولا افتعال، ولا بحث محموماً عن التواجد الشخصي ولو على حساب الشعرية، يكتب نصه ويغادر شأن الشعراء الحقيقيين...
إن ظاهرة الشاعر ـ النجم يجب أن تأفل. الشاعر متخف، منعزل، ينشر رائحته من بين الصخور، حتى في منزله لايحتاج إلا إلى ركن منعزل في طرف البيت وبضعة أوراق وقلم... نقرأ نصه دون أن نعرفه ربما، الشاعر نص وليس شخصاً، نريد أن نعرف الشاعر النص وليس الشاعر الشخص. يشكو الشاعر الشخص من غياب نقدي لنصه، لديه الحق في ذلك، إذ إن وجوده وتقديمه كشخص يجعل النقد بعيداً عن نصه، قريباً من شخصه. فكم من أحد يبدي رأيه بمحمود درويش، مثلاً، دون أن يقرأه، وكذلك بأدونيس (مع حبي لهما وإعجابي بنصوصهما).
ليس من اللائق أن نحمّل المسؤولية لأحد ما، ولكن من اللائق جداً أن تأفل، على نحو ما، وبطريقة من الطرق، ظاهرة الشاعر ـ النجم لأنها مضادة للشعر وللشعراء، مضادة للنص، تخفي القصيدة خلف اسم صاحبها، وتقود القراءة باتجاه الشاعر: أفكاره، أسلوبه، عقائده، تطلعاته... وتمنع القارئ من اكتشاف الشعرية والمعنى، إنها، بصورة من الصور، إيديولوجية فاسدة، وطغيانيّة أيضاً.
حتى هذه اللحظة يقاس الشعر، في سوريا على الأقل، على مقياس النجمين: أدونيس أو محمود درويش، وإذا اتسعت الدائرة قليلاً فمحمد الماغوط ونزار قباني، أما الشعراء الآخرون غير النجوم فموجودون شفهياً، بالمعية... كأنه غير مسموح لهم بالتواجد جنباً إلى جنب مع النجوم، من هنا يتضح، أن ظاهرة الشاعر ـ النجم ليست ديمقراطية أيضاً، فهي تقصي الآخرين، تمنعهم من التعبير، تدمرهم، تقتلهم.
ربما تعود تلك الظاهرة إلى الأساس القبلي للمجتمعات العربية، حيث يجب أن يكون لكل قبيلة زعيم تعمل بأمره، وتمتنع عن العمل بأمره أيضاً، ومع حلول المجتمع، شكلياً، محل القبيلة، بقيت هذه الأخيرة موجودة بجوهرها فيه، وتأسس عليه أن قبيلة الشعراء يحكمها زعيم، ولأن مفردة زعيم ليست جيدة تم استبدالها بمفردة النجم، وفي أحسن الأحوال بمفردات على صيغة أفعل: أكبر، أفضل (أكبر شاعر عربي، أفضل شاعر عربي، وهكذا...). القبيلة تحتاج إلى زعيم، وجوهرنا القبلي لا يتوقف عن ندائنا بضرورة وجوده، علينا أن نصنعه إن لم يكن موجوداً، لذلك لم نتوقف منذ امرئ القيس وحتى هذه اللحظة عن صنعه وتأكيده وتبجيله، ورجائه الاعتراف بالشعراء الآخرين.
طلب الشاعر والإعلامي زاهي وهبي من أدونيس في برنامج "خليك بالبيت" أن يقطع أمام المشاهدين وعداً بأن يقدم له ديوانه الجديد، وعندما قطع أدونيس هذا الوعد نظر وهبي إلى المشاهدين مبتسماً، قاصداً بذلك أن يذكرهم بهذا الوعد في حال لم ينفذه الشاعر الكبير: شيخ القبيلة. إنها طلب اعتراف بالشرعية، رجاء بالتوقيع على صك الشعرية، أمنية بأن يمنحه مفتاح الجنة... وقد وعده الشيخ أدونيس بذلك، دون أن يناقش الموضوع أصلاً، دون أن يقول له: ادخل النار وحدك، اعصني، الشاعر لايريد الشرعية بل هو ضدها، قف شعرياً بوجهي... بل فعل كما يفعل الشيخ بأحد أفراد القبيلة المهذبين، ابتسم وقال له: سأمنحك المنحة الكبرى، سأقدم لك كتابك يابني، فأنت من الرعايا المهذبين، وتستحق الأعطية.
هكذا يتحقق بلا انقطاع قانون دوستويفسكي: الجميع مذنب. الشيوخ والرعايا، المتن والهامش، الشعراء والقراء...
المرحلة الشعرية العربية الجديدة لايوجد فيها نجوم، وقد تجاوزت أعمار شعرائها، على الأغلب، الأربعين، يعود السبب بالدرجة الأولى لوجود النجوم ـ الطغاة الشعريين، ولكن رغم ذلك هذا شيء إيجابي في صالح الشعر والشعراء، معظم الشعراء الجدد متخفون، منعزلون، يكتبون نصهم ولا يطالبون أن يغير العالم، يقدمون وجهة نظرهم غير الملزمة، ويكتفون بعدد محدود من القراء، وإن محاولات بعضهم تحقيق نجومية ما ولو أدى الأمر إلى الرقص في الشوارع لم يؤثر، حتى الآن، على المشهد الشعري الجديد، مع هذا ليتهم يتوقفون عن ذلك تحقيقاً للشعرية، فلم تعد ثمة هالة على رؤوس الشعراء، ولم يعد أحد يبشر القبائل بولادة شاعر، ولم تعد توجد امرأة تطلب قصيدة من شاعر لتتباهى بها أمام قريناتها، وأمام القبائل الأخرى. المشهد الآن موات للعزلة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |