الماغوط .. ألمٌ وحزنٌ في سطور التجديد
2009-06-14
كُنتُ _ ومازلتُ _ عندما أقرأُ شاعراً ما ، أحاولُ _ وبنَهَمِ القرَّاءِ المشاغبين _ أن أترصَّدَ أسلوبه وتراكيبه ، صوَرَه ، إنزياحاته ، إيقاعه ...
وأحاول العبث بنصوصه فأقارنها بنصوص لشاعرٍ ما وأكونُ منتصرا في النهاية على نفسي أوّلاً ، وعلى الشاعر ونصِّهِ ثانياً .. إذِ استطعتُ أن أطوِّقَ نصَّه بتخاطُرٍما .. أو فكرة مُـستهلكة من قبل شاعر آخر ..!
لكنِّني عندَما بدأتُ قراءاتي لمحمّد الماغوط ، بدأتْ تتلاشى لديّ هذه الثيمة النقديِّة / العبثيـّة
فالماغوط _ بقراءتي لنصوصه _ عمِلَ على صوغي كقارئٍ لهُ ، دون أن يشعرَ وأشعر أنا !
وهذا يمنحني الثقة الكاملة بحداثيِّة الكلمة ونضارتها .. فكأنَّـها رغيفٌ يوميّ .. لكن بدون تكرار نكهة القمح ذاتها دائما !
فِـعلاً .. هذا هوَ الماغوط .. هوَ الشاعر / الناثر / المصِّور .. الذي أقرأهُ فأخرجُ من رتابة الوزن والبحر والسّطر الشعري .. وأكونُ منهمكا آنَ القراءة في تفسير الصُّور التي دائما ما يدعنا كقرَّاء نشاركه إياها .. فأكونُ مضطرَّاً لإستيعاب تلك الحالة الموغلة في البحث عن شيءٍ جديدٍ دائماً .
الماغوط لم يكتبْ ألماً وحُـزناً وجوعاً وفقراً، بل كانَ الألم والحزن وهذه " السّودواويّات " _ إن صحّ التعبير _ تكتبهُ عندَما يجلس سابحاً في البياضِ المخيف لورقة نصّ جديد ما !
فأعيشُ حالةً من " السينمائية " في نصوص الماغوط وكأنّ أوراقه غابة وهوَ صيّاد لتلك الحيوانات والطيور والبناتات .. فيجمعها بهذه الغابة غريزيّـاً .. ليتمتّع بها مرّة ويُـطلقها من جديد
ويُـحاول الرحيل لمكان آخر .. فيصطادُ أشياءً أخرى ويُـكرِّر العملية ذاتها .
مازلتُ أقرأُ الشاعر / المشرَّدَ في نصوصه ، قصيدته " تبغ وشوارع " التي يرسمُ من خلالها لوحات لذاك الشاب/ الشاعر الريفيّ الفقير المشرّد مازالت ماثلة أمامي .. في قوله :
( سامحيني ، أنا فقيرٌ يا جميله
حياتي حبرٌ ومغلفاتٌ وليلٌ بلا نجوم
شبابي باردٌ كالوحل
طفولتي يا ليلى .. ألا تذكرينها ؟
كُنتُ مهرجاً !
أبيعُ البطالة والتثاؤب أما الدكاكين
ألعبُ الدّحل
وآكل الخبز في الطريق )
الماغوط من من مجموعته الأولى .. أعلنَ للجميع أنَّه يرتشف من بنفسجة سوداءَ رحيقَه ، وأنَّ محبرته ما هي إلا خميرٌ من وحل الحياة .
تحدَّث متألما / صادقاً .. عن كل شيء .. عنهُ ، عائلته ، أحبته ، مكانه ،
فأراهُ في كل الحالات يُـبكي قُراءَهُ بعفوية الجُّرح النازف فوق عذرية الجسد الورقي
كتب عن مدينته .. وجلدَ الذات المتعلقة في المكان بقصيدته التي دفعت " سلمية " لتدخل في فقاعته السوداء .. فقالَ محدِّداً موقعها :
( يحدّها من الشمال الرُّعب
ومن الجنوب الحزن
ومن الشرق الغبار
ومن الغرب .. الأطلالُ والغربان )
ويقولُ في آخر قصيدته هذه :
( كلِّما هبّ النسيم في الليل
ارتجفت ستائرها كالعيون المطروفة
كلّما مرّ قطار في الليل
اهتزّت بيوتها الحزينة المطفأه
كسلسلةٍ من الحقائب المعلقة في الريح
والنجومُ أصابعٌ مفتوحةٌ لالتقاطها
مفتوحةٌ _ منذُ الأبد _ لالتقاطها )
كانَ الماغوط لاهثاً دائما خلف التناقضات والمفارقات التي تضمن لهُ تشبّث القارئ في النصّ
فأراهُ في الكثير من نصوصه ، يبدأُ بمفارقة عجيبة .. تقبضُ عليك مؤقتا لتنهي النصّ
وآنذاكَ تطلقك .. لتعيد قراءتك له على مهلٍ .. وبشغفٍ لفهمِ الصُّور المترامية في ثناياه
أراه في قصيدته " النار والجليد " التي نهَرَ بها كل شيء يعتريه ويحتويه ، أراهُ يمزجُ الكوميديا بالتراجيديا في حالة خاصة من نوعها .. ويُـمكن تسميتها " ماغوطيّـة " .. يقول :
( خُـذْ لفافة وصف لي الحرب
خذ رغيفا وصف لي قدميّ )
البابُ في الإقتباس السابق مشرع للتأويلات ، ولو انغمسَ في السيريالية ( المحببة في هكذا حالات )
فلماذا لفافة وحرب ، ولماذا رغيف وقدم !!
يبقى الجواب لهُ .. وربما لنا، لكن طبعا ليسَ الآن !
كانَ الماغوط دائما رحالة في شعره .. يبحث عن جديد ،حتى في عناوين نصوصه ، وأسماء دواوينه
كانَ يحترف الحداثة والغرابة .. وهذا هوَ الغيم الذي يُـمطر في ذائقة القراء ماءً عذباً .
لم أكن قبل الماغوط لأعترف بقصيدة النثر أو الأنثورة ، هوَ الشخص الوحيد الذي أثبت لي أنَّ الحرف كنقطة الماء .. ولنا حُـرِّية حالتها .. فلنا أن نجمدّها ، لنا أن نسيلها ثانيا
ولنا أن نبخِّرها !
هذا هوَ الماغوط .. حرفٌ أوَّل في سطر .. فهل يأتي أحدٌ ما ليكملَ لنا هذا السطر !؟
08-أيار-2021
31-كانون الثاني-2011 | |
19-كانون الأول-2010 | |
01-أيلول-2009 | |
11-آب-2009 | |
05-تموز-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |