لماذا لا أكون فيلسوفا ..؟ للكاتب الأمريكي روبرت لند ـ ترجمة
2007-10-17
أقرأت شيئا لإبكتتس في الأيام الأخيرة ؟
لا لم أقرأ له في هذه الأيام شيئا .
أهو كذلك ؟ إنه ليجمل بك أن تقرأ ما كتبه , ف ( تومي ) يقرأه حاليا للمرة الأولى , وقد هيمن على إعجابه .
تسللت إلى سامعتي المرهفتي السمع هذه القطعة المقتضبة من الحوار من المنضدة المجاورة في ردهة نزل , فانتابني هاجس بأني من هذه اللحظة أمسيت ذا شغف بالشأن , لأني لم أقرأ أي شيء لإبكتتس مع أني غالبا ما ألقيت نظرة عجلى على آثاره المصفوفة في الرف , بل لعلي حتى استشهدت ببعض أقواله فيما سبق أن كتبت .
وتساءلت عما إذا كان هذا هو أخيرا , كتاب الحكمة الذي ما فتئت ألتمسه بين الحين والحين منذ كنت تلميذا في المدرسة .
إني لم أفقد اقتناعي المبكر بأن الحكمة كامنة في موضع ما من كتاب ما ليلتقط بيسر كما تلتقط صدفة مطروحة على الرمال .
أعشق الحكمة عشقا لا يدانيه سوى عشق سليمان ( عليه السلام ) لها . لكنها يجب أن تحاز بأدنى قدر من المحاولة . حكمة تكاد تجوز الإصابة بها بالعدوى , فلا وقت لدي ولا نشاط للبحث المجهد عن الفلسفة . إني لأود أن يأخذ الفلاسفة على عاتقهم ذلك الطلب الشاق المنهك للقوى , ثم , إذا فرغوا , يطعمونني ثمار جهودهم تماما كما أحصل على البيض من الفلاح , والتفاح من البستاني , والأدوية من الصيدلي . فهل أتوقع أن يمدني الفيلسوف بالحكمة لقاء ( دراهم معدودة ) ؟
من أجل ذلك قرأت مرة إنتاج إمرسن , وقرأت مرة أخرى إنتاج ماركوس اوريلوس . كنت أعلل النفس بأملي أن تجعلني قراءة آثارهما حكيما . لكني لم أضح حكيما ! . كنت متفقا معهما في أفكارهما أثناء قراءتي لها , لكن ما إن أنهي القراءة حتى ألفيني الإنسان نفسه الذي كنته من قبل نفسه , لم أتغير في قليل أو كثير , إنسانا عاجزا عن ألا أكون غير آبه بالأشياء التي حثاني على ألا أكون غير آبه بها .
ومع ذلك , فلم أفقد قط إيماني بالكتاب . إني لعلى ثقة صلدة أنه في مكان ما ثمة شيء مطبوع سأتمكن من أن أمتص منه الفلسفة وقوة الشخصية , وأنا أنفث الدخان في أريكة وثيرة .
كان ذلك مزاجي لم شرعت في التفكير بإبكتتس بعد سماعي المحادثة في بهو النزل .
أعترف أني قرأت آثاره بقدر كبير من الاستثارة . فهو نوع من الفلاسفة يحظى بإعجابي لأنه لا يعامل الحياة على أنها , _ إذا حسنت _ جدل يدار بلغة مستغلقة على الفهم , لكنه يناقش , من بين مسائل أخرى , ما الذي يحسن أن يسير عليه الناس في شؤون الحياة العادية .
وافقت عل كل , أو جل , ما قاله : عدم المبالاة بالألم والموت والعوز , . نعم هذا شيء حسنٌ بيِّن الحسن , ألا يقلقك أي أمر لا حيلة لك في الهيمنة عليه وتوجيهه الوجهة التي تشاء , سواء أكان ذلك الأمر قهر الطغاة أم رعب الزلازل !
وحول ضرورة ذلك , أيضا كنت وإبكتتس كرجل واحد !
ومع ذلك , وعل الرغم من قوة الشبه بين نظرتينا , لم يسعني إلا أن أستشعر أثناء قراءتي أن إبكتتس كان حكيما في تمسكه بآرائه , وأني برغم تمسكي بالآراء عينها , بعيد عن الحكمة بعد العيوق عن الثريا , لأنه في الحقيقة , مع إيماني بتلك الآراء لغايات لا قبل لي بتطبيقها تطبيقا عمليا لحظة واحدة !
إني لأرى في الموت والألم والعوز شرورا حقيقية جدا إلا إذا كنت مسترخيا على تلك الأريكة الوثيرة أتصفح كتابا ألفه فيلسوف ! . ولو زلزلت الأرض وأنا أطالع كتاب فلسفة لنسيت الكتاب , ولانحصر تفكيري في الزلزال وحده دون سواه , وفي الوسيلة التي تيسر لي تفادي الحيطان المنهارة والمداخن المتهاوية !. هذا مع أني أكثر الناس إعجابا بسقراط وبلينوس ومن لف لفهما .
ومع أني قوي بصفتي ( فيلسوف أريكة وثيرة ) فإني أحس روحي المعنوية وجسدي كليهما واهنان عندما تنتابني نائبة . وحتى في شؤون الحياة الصغرى لا تقوى نفسي أن تتقبل قبولا حسنا كوني فيلسوفا من مدرسة إبكتتس . وهكذا حين يسدى لنا , مثلا , النصح بأن ( نتغذى حسبما تقبله الطبيعة ) , ويطلب منا , من أجل هذه الغاية , أن نتجمل بالصبر وضبط النفس عندما نجابه بأشد الخدمات قصورا عند الجلوس لتناول وجبات غذائنا . إنه ليطلب موقفا روحيا لا قبل لطبيعتي التي جبلت عليها به , ويكلفني من أمري شططا .
يقول : " إذا طلبت ماء حارا فلم يفطن العبد لطلبتك , أو إن فطن لها لكنه جاءك بماء فاتر , أو حتى إن لم تلفه في المنزل فاجذب عنان غيظك , وكبح جماح ضجرك , ولا تنفجر ! ألم يكن ذلك حسبما تقبله الطبيعة ؟ ألا تتذكر من تحكمهم ؟ وأنهم عشيرتك , وأنهم إخوة لك ؟ .
إن ذلك بحذافيره حق كل الحق , وصدق كل الصدق , فيا ليتني كنت امرء ذا مقدرة على القعود الساكن في مطعم وعلى شفتيه تشرق بسمة , وهو مستعصم بالصبر , لائذ بحمى الفلسفة , متحل بها , والنادل يأتيه بكل ما لم يطلبه , ولا يأتيه بأي شيء طلبه , أو لا يأتيه بأي شيء البتة .
لكن الصحيح أن الخدمة الرديئة في أماكن التغذي تغيظني ! إني أمقت أن أضطر لطلب المشروبات مرات ثلاثا , وأستاء أيما استياء إذا بُلغت بعد استثناء ربع ساعة بأن ليس هنالك ( كرفس ) .
صحيح أني لا أعمد إلى الضجيج والجلبة أو العنف في مثل تلك الملابسات , فما أوتيته من جرأة غير كاف لأن أصنع ذلك . أنا مقتصد في العتاب الحاد اقتصاد فيلسوف , لكني أخال الروح المتجهمة في باطني لا بد ستبرز نفسها على أساريري . إنه لا يدور بخلدي إطلاقا أن أقول لنفسي : إن هذا النادل قريب لي ! إنه أخي . وبالإضافة إلى ذلك فحتى وإن كان كذلك , فلمَ يؤدي ( أخي ) الخدمة تأدية على هذا النحو من السوء ؟
لا ريب أن إبكتتس لم يطعم في مطعم قط ! ثم أن صبره قد يخدمه حتى في ذلك المكان . إذا كان الأمر كذلك , فيا للبون الشاسع بيني وبينه ! وإذا لم أقوى على تحمل التجمل بهدوئه ورباطة جأشه في مثل هذه الشؤون الصغرى , كما أسلفت القول , فأي أمل بقي لي في أن أتمكن من أن أمثل دور الفيلسوف في حضرة الطغاة والزلازل ؟!
وكرة أخرى , حين عبر إبكتتس عن آرائه بخصوص الممتلكات المادية , وأوصانا بألا نأبه بها , ولا نعترض على سرقتها , فإني موافق نظريا على ما ارتآه , ومع ذلك أعلم علما غير مشوب بريب أن لا طاقة لي بطاعته عند العمل !
لا شيء مؤكدا أكثر من أن الذي تتوقف سعادته على ماله امرؤ غير سعيد , لكني أيضا متيقن تيقنا لا مرية فيه أن العاقل قد يكون سعيدا بالنزر اليسير من المال , لأن السعادة ينبغي أن تظل غاية الحياة كما يرى إبكتتس , أو أرى أنا .
لكن إبكتتس , على الأقل , لديه مثال عال هو ضبط النفس , وهو يؤكد لنا أننا سنحوز هذه الصفة إذا لم نعر الأشياء المادية اهتماما , ولم نلق لها بالا , حتى أننا لا نبالي أسرقت أم لم تُسرق .
إنه يهتف بنا : " أبطلوا الإعجاب بهندامكم ! ولا تصبوا جام غضبكم على من يختلس ملابسكم ! " ويواصل القول عن اللص ....: " إنه لا يعلم أين يكمن الخير الحق للإنسان , لكنه يخاله يكمن في ارتداء بزة زاهية . إن ظنه هذا عينه تظنونه أنتم كذلك . أفلا يأتي إذن ويفر بها ؟ "
بلى . أفترض أن من الأنفع له منطقيا أن يصنع ذلك , ومع هذا فلا أملك أن أستشعر هذا الإحساس في اللحظة التي أدرك فيها أن ضيفا ما في احتفال قد امتدت يده إلى قبعتي الجديدة , وترك قبعته السملة مكانها .
إنه لا يجديني , ولا يهدأ من ثائرتي أن أردد في نفسي : " إنه لا يعلم أين يكمن الخير الحق للإنسان , لكنه يخاله يكمن في سلب قبعتي !" . ولن أحاول – حتى في الحلم – التسرية عن ضيف في حفل في داري بمثل هذه الفلسفة في أحوال مماثلة .
إذن فقد قبعة جديدة مسبب لضيق الصدر الشديد . إن فقد أي شيء مسبب لضيق الصدر , ولا سيما إذا عرف المرء أنه مأخوذ عنوة .
وأنا أشعر أن في إمكاني محاكاة إبكتتس لو مارست العيش في عالم لا تقع فيه أحداث . أما دنيا تغيب فيها الأشياء إن فقدا وإن سلبا وإن نشلا , دنيا يقدم فيها ندل سيئو الخدمة وجبات رديئة في كثير من أمكنة التغذي , ويقع فيها ألف من الأمور الأخرى غير المحببة , فلأن يصعد الإنسان العادي الهملايا حافي القدمين أهون عليه من أن يحاول أن يحيا حياة فيلسوف بصفة دائمة !.
وعلى الرغم من ذلك , فإن غالبيتنا لا يسعها إلا أن ترى الفلاسفة على حق – على حق لم أعلنوا – برغم اختلافاتهم كلها – أن جل ما نحفل به من أشياء غير خليق باحتفالنا .
الحق أن الناس جميعا متفقون على أن رجالا كسقراط وإبكتتس كانوا مصيبين كبد الحقيقة بعدم احتفالهم بالأمور المظهرية . حتى أولئك الذين يدنو دخلهم في العام من 10000 جنيه , ويبذلون قصارى جهودهم لحيازة المزيد من المال يقرون بذلك . ومع هذا , وأثناء الإقرار به , سينتاب معظمنا الهم لو شرع أحد أحب صحابنا إلينا في تطبيق فلسفة إبكتتس بحذافيرها .
إنا لننظر إلى ما نعده حكمة لدى إبكتتس على أنه جنون إذا كان لدى أحد من نعرفهم , أو لعل الأصح ليس لدى أحد من نعرفهم بل لدى أحد أقاربنا الأدنين .
لا تساورني ريبة في أن لو أضحيت كإبكتتس في عدم احتفاله بالمال والراحة والأشياء السطحية قاطبة , ولو ماريت كما يماري باسما ابتساما جذلا عند ذكر الممتلكات واللصوص , لاعترى ذوي قرباي غم أكثر مما لو أمسيت مؤسس شركة ناجحا لديه من الفلسفة المادية أوفر نصيب قادر الفكر على إدراكه .
لتفكر , مثلا , بالمنحى الجدلي الذي نحاه إبكتتس في حديثه عن اللص الذي سلبه قنديله الحديدي :
" إنه ابتاع قنديلا بثمن باهظ , لقد صار لصا من أجل قنديل ! لقد صار خائنا من أجل قنديل ! لقد صار بهيميا من أجل قنديل ! هذا ما بدا له مريحا !"
إن هذا التعليل مصيب . ومع ذا فإننا أفرادا وهيئات اجتماعية لا نزاول في حياتنا هذا الازدراء للمال الذي بني عليه . نعم ثمة نفر قلة يصنعون ذلك , لكن حتى أولئك يسببون , في بادئ الأمر , لأصحابهم ضيقا وبرما عظيما .
حين تكون الدنيا عادة مبهجة ومريحة , فإنا نستمسك بالرأي الموحي بالتناقض والقائل إن ( الفلاسفة رجال حكماء , لكنا , إن حاكيناهم , مجانين ) .
نحن على ثقة أنه , مع أن أفكار الفلاسفة قمنة بأن تقرأ , فإن الماديات أيضا قمنة بالاحتفال بها .
يبدو و كأننا نجد متعة في الحكمة إذا كانت ( مشهدا ) ... مشهدا سارا على خشبة مسرح لا يليق بالنظارة محاولة انتهاك حرمته .
أَخُلِقَ الإغريق والرومان من طينة أخرى ؟ . أحول المعجبون بسقراط وإبكتتس حقا أن يصبحوا فلاسفة , أم كانوا مثلنا آملين في نيل الحكمة لا بالممارسة بل بجرعة سحرية يقدمها لهم إنسان أغزر منهم حكمة ؟ .. أن يصبحوا فلاسفة بلا محاولة .. بالاستماع إلى صوت .. بقراءة كتاب ..
إنه أعظم الأحلام إثارة وأكثرها إرضاء في آن واحد . في مثل هذا الحلم تعلقت بإبكتتس , ولتلاحظ أنه ما كان سوى حلم .
القصة منشورة في مجلة الفيصل السعودية العدد 119
مرسلة بواسطة مصعب فريد حسن
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |