ولد الشاعر موريس قبق في مصياف من أعمال محافظة حماة، عام 1932، لأبوين حمصيين. بعد نيله شهادة الدراسة الثانوية درس اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة دمشق وعمل مدرساً للأدب العربي في ثانويات حمص. بدأ بنظم الشعر مبكراً، وبعد أن نضجت أدواته التعبيرية أخذ بنشر قصائده في الصحف والمجلات السورية واللبنانية فسطع نجمه كشاعر مجدد.

ساهم في تنشيط الحركة الأدبية في مدينة حمص من خلال إقامته لأمسيات شعرية على منبر المركز الثقافي العربي في أواسط النصف الثاني من خمسينات القرن المنصرم إلى النصف الأول من الستينات. وكان إلقاؤه للشعر خلاباً.
أصدر ديوانه (الحب واللاهوت) في حمص عام 1962 وكتب مقدمته صديقه كمال أبو ديب. أصدر كتاب الإعراب التطبيقي عام 1971.
ترك التدريس في أواخر حياته وتحول إلى العمل في التجارة والأعمال الحرة.
يعتبر أحد أهم رواد الحداثة المعاصرين في الشعر السوري، وكان مقلاً في إنتاجه وله نثر يرقى بإبداعه إلى منزلة شعره.
توقف عن كتابة الشعر منذ النصف الثاني من القرن الماضي لأسباب لا يعرفها سواه.
توفي في 16 كانون الأول عام 1996 أثر نوبة قلبية ودفن في حمص.
أقام فرع اتحاد الكتاب العرب في حمص ندوة نقدية لأعماله الشعرية بعد وفاته.
تعكف أسرته حالياً على إصدار ديوان له بعنوان (شهيد النهد الأسود) يضم قصائد كتبها بعد صدور ديوانه الأول.
الحب واللاهوت - موريس قبق
ولعلي لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن موريس قبق في ديوانه الجديد «الحب واللاهوت» يخطو بالشعر الحديث خطوات جريئة إن دلت على شيء فإنما تدل على نزوع صادق نحو التجديد بالإضافة إلى ما حمل الكلمة العربية من طاقات تتفجر بمعان جديدة.
ولعل هذا النزوع إلى التجديد، وهذه المعاني الجديدة هي التي جعلت لشعر موريس وقعاً خاصاً، ولوناًَ يشفع له بالوقوف إلى جانب المبدعين من شعرائنا المحدثين.
ولم يكن ذلك ليقوده إلى التردي في مهاوي الغموض، والبعد عن أصالة الكلمة العربية الفصيحة، واللغة السليمة.
مدحة عكاش
بين التوبة والإلحاد، بين مهاوي الشهوة وقمم الزهاد، تنوس أبيات إنسان مازال يبحث عن قضيته....
غادة السمان
... أن نخلص للفنن حتى الاستشهاد، وأن نعتبره مبرر وجودنا العميق.. تلك هي صفات الفنان الأصيل، المبدع فن مستقبلنا.
ولعلي خلال بعض ما قرأت من شعرك، توسمت ذلك في أحرفك المتحلبة عرق الجهد الصادق..، ومعانيك وصورك التي تكاد تتفرد بها فتقول: «هذا أنا»..
في روحك اللاهتة في كل كلمة: سوف أصل.
علي الجندي
الحب واللاهوت
تمزق إنسان أمام متناقضات عالمه
«... وهذا شاعر من القافلة، إنه يحاول أن يكون إنساناً، إنساناً طيباً بسيطاً، يبحث عن محبة. إنه يطرح أشياءه أمام العالم كما هي، براءتها، وبساطتها، ودفئها. يحمل معه نبل فطرته، إنسانيته اللذيذة، يحاول أن يعيش، بل إنه يندفع إلى الحياة بطيبة، ومحبة. إنها كنزه الذي لا كنز بعده. الحياة..!! ألذ وأحلى لم يوجد، أدعى إلى الفرح لم يكن بعد. إنه يحمل معه قلبه، بحرارته وشبابه، بعطشه إلى أنثى.. واحدة تكون له كل شيء. واحدة تدفئه.. تشعره بأنه يحب جيداً. وأحلى من واحدة إلى قلب شاب؟!... لم تر عين.
إنه ينطلق إليها.. مندفعاً بشوق، ببدائية يبحث عن حب. هي في الصيف، على الشاطئ الحالم. ومرآة عينيه صافية جداً، بحيث أنها تلتقط كل شيء في جسدها الرائع.. ويرعش شغافها الفضي حق محلى الرأس طواف. وهي تعجبه، إنها حلوة.. رائعة: يحدثها؟!.. طبيعي.. إنه مدفوع إلهيا بحيوية الشاب إلى كنوز امرأة.. لكنه يفاجأ، إنها نمرة. ترفض. بغرابة فظيعة يتلقى حقدها وثورتها، ويصرخ في وجهها:
لن تطردينا.. نحن نصطاف
ولنا على الشطآن أصداف
لم تصرخين: محدّق وقح
ورداؤك البحريّ شفاف؟!
غريب..!! إن رداءها شفاف جداً، وهي تعرض نفسها تماماً للعيون لكنها تثور.. تثور لماذا؟!.. إنه يدرك أخيراً بألم:
لو زرتنا، والصبح منسكب،
لوقتك لغوَ الناس أسجاف
ها..!!
دائماً هم.. هم الآخرون.. «الجحيم هي الآخرون» هكذا دائماً يجد أمامه.. إنها ترغب أكيداً، هو رائع، وهي رائعة، هو يدرك أن:
كل الحسان يردن صحبتنا
قبلاتنا، كالخمر، أصناف
وهي أيضاً بالنسبة له:
أمليكة الأصداف راوغنا
في ساحل الإسفنج عرّاف
وشراعُ يخت أبيضٍ شبق
ملاَّحة، إن طاش، مجذاف
ولكن لا رغبته هو.. ولا رغبتها هي تستطيعان إلا أن تكونا كبتاً ينعق في عروقهما لأن الآخرين دائماً يضغطون صدريهما باللغو، أمام هذا.. يصرخ: إنه فتى بربري،.
وصباح وراءه ألفُ سرب
لا يبالي ارتحال طير ألف
إنها كبرياؤه التي يفترض أن يحتفظ بها.. أن يتبجح بها ولو كان إدعاء وغروراً. إنهم يطلبون منه دائماً أن يصون كبرياءه. عندما تركته تلك التي راحت لتطوف في الموانئ.. راحت إلى الكهوف.. تشق قلب المحار.
هو يحبها.. يتبعها.. يتمناها، كان يستطيع أن يفعل أي شيء لأجلها. ولكنها كبرياء الرجل، غروره هو الذي يجعله يصرخ:
ستدوخين في الموانئ يوماً
وتعودين، طوعَ أمري، فطوفي
هكذا تبدأ الخيوط تنشد.. إنه يحسها مشدودة إلى شيء قاس، لكنه لم يدرك بعد أنها تخنقه. إنها تلتف بنعومة الأفعى ولكنه يظل نفس المنطلق، نفس العنيف، إنه هو.. لم يتعكر بعد.. أقدس ما فيه حيويته، بكل ما فيه ينتظرها. المرأة؟! وأحلى منها في وجود الرجل؟!..لا..
لكنه يراها في تبرجها، يراها تتعبد مرآتها. إنها مطلية، ممرغة بأقذار التبرج.. بدنسه، إنها تزيف عربها، حيويتها، أقدس ما فيها!! هكذا غدت المرأة.. ألعوبة تضمخ نفسها بالزيف.. من أجل ماذا؟! من أجل الرجل. هو لا يريد إلا حيويتها، جسدها العاري، أقدس أقداسها، لكنها تتعبد مرآتها. من أجل الرجل بالذات:
هاجرتْ ليلة، ولما تنوّلني
أصدّاً أم خوف تمريغ بهرجْ؟
لن أقول شيئاً.. لأن هذا يفضح أعماق المرأة في زمننا. هي لم تصد أبداً، ولكنها لم تنوله، خوف تمريغ بهرج، مع أن البهرج أصلاً كان فقط من أجله هو الرجل، إنها أجبن من أن تعيش حيويتها، تعري نفسها أمامه، أجبن من أن تكون «حواء» الأولى.. بنقائها. هكذا يبدأ الغبش أمام عينيه، إن الأشياء مموهة أمامه. حتى تلك التي رباها فرخ برج، طارت عندما توهمت النضج. لماذا طارت؟! إنه تمنع المرأة. هذا ليس دلالاً.. إنه فضح كامل لزيف النفسية الحديثة في عالمنا. كانت:
فرخ برج ربيته ناقراً حبي، فلما توهّم النضح رفا
ولكنه يدرك السبب الآن. إنها أعماقها المزيفة. أعماقها التي ترفض أن تتصرف ببساطة وبراءة وفطرة. ترفض أن تكون «حواء» التي اكتشفت روعة جسد آدم، وحاجة جسدها له.. فارتمت عليه.. أطعمته التفاحة فقط كي يعرف حكة الجنس في دمه.. فيرى ما رأت.
إنها تكدس فوق رغباتها ألف موروث.. «تدللي يا بنت» قالتها لها أمها. «تغنجي» قالتها لها صديقتها. «اهربي منه حتى يتبعك» همست بأذنها عمتها. ولكنه يثور.. إنه يبدأ بالعنف:
تتأبين.. والشموع صبابات، وحسي بومضها يتدفّأ كيف ترضين بالفواصل جذلى؟ مشتهى الحرف أن يعانق حرفاً.
ولكنه يدرك أنها مسممة.. لقد سممتها موروثات أجيال السكارى. لقد علموها أن الحب أكبر خطيئة، أن الحب رعب الإثم ومنتهاه، علموها أن حواء وآدم هبطا من الجنة الموهومة عندما اعتنقا حرفين منغرزين بعضهما في بعض. ويدرك بحدسه الرهيف ومرارة رؤياه أن الأمر ليس إلا محاولة لكبت أعماق الإنسان ورغباته. ليس إلا أكداساً من موروثات تسحقه. إنه يصرخ في وجهها فاضحاً أعماق المرأة التي تريد وترغب لكنها تنسحق أمام الآخرين:
لا تخالي درب المحبة صعباً جرّبي خطوة.. فتمشين ألفاً
إن أعماقها، حيوية رغبتها هي التي تجعلها تمشي ألفاً.. عندما تخطو الأولى. لماذا؟! لأنها تكون قد حطمت القيد وانطلقت، فقأت عيون المومياء بالخطوة الأولى، وأروع ما في الوجود الخطوة الأولى. هكذا تبدأ الأشياء بالتعقد بالنسبة له.. إنه يرى كل شيء مقلوباً. الحب محرم. الرغبة ـ أقدس ما فيه ـ بالأنثى مكبوتة.. إنه يقف وجهاً لوجه ضد الكل.. ضد الآخرين وتبدأ الأشياء تنكشف أمامه.. أوه..! إنها رعبه المرير. اصطدامه مع الآخرين. لقد تعقد.. لم يعد هو هو.. أدرك أن بدايته الطيبة أصبحت بحاجة إلى دفن لأنها لم تعد بضاعة رائجة بالنسبة للآخرين. الآخرون.. ماذا يريد منهم.. لا شيء. فقط يريد أن يكون طيباً، حبيبا لواحدة.. لكنهم أبداً يسحبونه إلى الهاوية.. أنه يخشى الهاوية.. لكنهم كلهم فيها.. إنها تستطيع أن تحجب الشمس، وتجعلهم يعيشون في الظلمة، يمارسون قذارتهم هناك. نفس الأشياء ـ وأقذر ـ التي حرموها في الشمس بالرغم من أن الشمس دائماً أطهر.
ويجد نفسه في الهاوية.. إنه في قبو صيادة الرجال التي تكدست في قبوها عفونة الرجال وقذارتهم.. إنه يزني..؟! ـ كيف لا؟!
«والقسر يغذو الرفض»!
إنه يزني برعب.. هو يدرك تماماً أنه..
«حتى الصخور تستطيب حكة الإزميل»
إن الجنس في دمه.. شيء منه.. رائع إحساسه به.. برغبته في المرأة.. لكنهم أبداً يسحقونه. الجنس عار، أكبر ما يكبت شرقنا بأكمله.. الوحش الذي يصلب أعماق الإنسان الطيب. إنهم يدفعونه إلى الانتحار.. إلى قبو صيادة الرجال. هو يكرهها.. إنها عفونة.. قذارة، لكنهم يسمحون له بها بل يدفعونه إليها.. إلى المواخير المشروعة.. بينما هو بكل طيبة يرغب أن تكون له تلك.. تلك البريئة. الإنسانة التي معها.. إنه يشعر إنه كان لن يأتي إلى قبو صيادة الرجال لو ظلت تلك معه.. لو لم تعقد الأشياء.. كان طهره ينبع من أعماقه قيمة ذاتية. كان هو بالذات قد قال من قبل:
أطفأ الطهو شهوتي إذ تبدّيت، وصلى في معبد البح غربي موسمي عفت قطفه، وتمنيت على نخلك السرابي صلبي
إن القيمة هنا تنبع من إنسانيته، من أعماقه.. بشكل طبيعي أصبح طاهراً.. لأنه أحب. لكنهم لم يرضوا.. وجاؤوا يفرضون عليه الطهر من خارج.. من قيم محمولة إليها حملاً.. يريدون أن يغرزوا سم الطهر في أعماقه . ولكنه يثور على القيم لأنها ليست منه، ومفروضة عليه. لقد أنتن في القبو.. ماتت حيويته.. يبست عروقه، بينما كان عندما أحب في منتهى الحيوية والبراءة:
غبت في مرصد التصوّف آباداً، ولما أطللتِ عاينت ربي وتعبدت مطلق الصمت حتى جئت فاستعذب المناجاة قلبي وهجرت الحلوات كرمى لعينيك، وصوت منغم العتب، عذب
لقد كانت الحيوية تجري مقدسة في عروقه، والطهر ينبع دافئاً، طيباً، من شرايينه.. ولكنه انتهى إلى القبو، لأن الآخرين لم يريدوا له الطهر مترقرقاً من دمه، أصيلاً فيه، لأنهم يتلذذون بفرض قيمهم، بتعذيبه، يتلذذون بالقسر، ليكن طاهراً.. ولكن قسراً، غصباً عنه.
ولكن كيف يكون طاهراً؟! «والقسر يغذو الرفض»!! لم يعد الطهر عنده قيمة حياتية.. قيمة إنسانية، لقد أصبح رعباً موروثاً، أصبح عبثاً.. مخدراً يفرزونه في شرايينه، لقد خدروه.. أماتوه.. قتلوا حيويته.. صار ميتاً، وبالطبع صار طاهراً، في عرفهم، لماذا؟!.. لأنه مات.. والميت لا يستطيع إلا أن يكون طاهراً.
ويبدأ اصطدامه مع المواريث، موروثات أجيال السكارى. وتبدأ الثورة تحز في شرايينه. ويدرك، حيت تتكشف الأشياء أمام بصيرته، أن موروثاتهم بالذات هي التي سحقته. يدرك أنها الوصية «لا تزن» والشيوخ الذين تجمعوا في الحلقات التي:
تتوه في مسارب الضبابْ
وتعلك الأفيون، تلعق الهباب والسموم من قرارة المباخرْ
وتستمد الوحي من شرانق الدخان،
من فتائل تأرّجت في مخبأ المقهى العتيقْ.
ويرى نفسه مسحوقاً.. يرى جيله، جيل الحيوية، موطوءاً بالنعال المهترئة:
تصطك فوق جيلنا حوافر الغيلانْ
تنغرز المخالب النسرية الجوفاء في ندوبه العميقه
تجزّ فرو رأسه
تذكار نصر الموت، والعوائد العتيقه
تسحقه.. تقيء فوق لحمه القديد سيل القيح، والقطرانْ
تصرخ ضفادع الكهوف المنتنة:
تنقّ في مستنقع الوراثة الدوديّ:
لا طوف ولا مجذاف إلا من رقى جلودنا، أفخادنا العريقه.
وتسخر من الجيل الشاب، تشده إلى الهاوية، تزرع سم الخيبة في عروقه:
مآلكم أن تخذلوا عظامكم مرساتكم.
أن تسقطوا.. تبلعكم رمالْ
أمجادكم هباءْ
خط الحياة في عرى قفازكم يموج بالمراره
لا جزر مدّ بحركم،
لا شيء غير قهقهات الجن في مغاره
وتجلده قسوة التوابيت التي تكفن الحضارة، تكفن الجيل الشاب أخشابها المهترئة، ويدرك أنه لا شيء في طريقه غير الرعب والخيبة، طالما أن القيم التي تنق ضفادع الكهوف معلنة عنها ليست إلا قيوداً تزيف أروع ما في الإنسان من عطاء.. وطالما أنه سوف يبقى إلى الأبد:
جيش من الأموات حول شرقنا يرابطْ
يحاصر التاريخ بين دفتي زمانه، يسمو الخليفه
ينصب منجنيقه
يدكُّ نصف برجنا بوابل الحجاره
يهدر: لا تقاوموا
ويتمنى وهو في رعبه، وهو يختنق في ملكوت سقر:
إني في أسرار المطلقْ
أترامى مختنق الصوت
في عين، في بحر أزرقْ
أطفو.. أغرقْ
وأقاسي أهوال العمق الزيتي
يتمنى لو يتاح له بعث جديد.. رب جديد، لو أن صلاته تستطيع أن تنجيه، أن تعيد له الأقانيم الثلاثة، يتمنى لو يستطيع أن يصلي بعمق وحرارة، كي تعود إليه أشياؤه، براءته، دفء وجوده، كي تعلو دنيا من الكنائس المزينة في عالمه، كي يخنق يهوذا.. وينقذ المصلوب. لكنه يظل هناك:
لا ربّ هناك.. لا نجوى
وأعبّ الماء، أسف الملح بلا جدوى
أتقرى أسنان الحوت
وأطوّف في كبد العتمه
ويدرك تماماً أن:
مأساتي أني لم أذبح رفضي، عربون غدي، قربانْ
لم أسقطر حتى دمعه
والوحش يشق بحار المجهول السبعه.
وتذهله الرؤيا. رؤيا يونان:
تتحدّى الويل سفينته، والله هو الرّبانْ
ولكنه يعرف أنه انتهى، إنه يتساءل في ذهول الرعب:
ما لنا نحفى على الثلج، ونعرى آن لا يكوي نبيّ معطفه؟!
لقد فقد الله نهائياًن ولا يمكن أن تعود له الأشياء.. لأن صلاته صلاة مداجية. وهي التي تحبل:
الابن، والروح القدسْ
والآبْ
أقاسها تهرّأت، وأنتنت..
شموعها تفحّمت في نقرة التكهّن المذابْ
وهي التي تزيف حتى ترانيم ابتهاله، لأن صلاته لم تعد ترى غير أقانيم ثلاثة هي:
الوحش، والإنسان، والطبيعه
ولم يعد الآب والابن والروح القدس تعني أشياء بالنسبة له:
وأنا في بدء التكوين
أتحمل خوفي، أوزاري، كابوس سفرْ
كفري.. ديني
مازالا شدقيْ تنينِ
وأنا بهما أهرس ذاتي. وأنا بهما أقتاتْ
لحم الأمواتْ
تاريخاً.. أسماء طمست فوق الصلبان المحفوره
وهو يفقد الله نهائياً.. لأنه يرى، وهو في رعبه واختناقه، يرى «يسوع الفادي يتعذب»؟!.. بل إنه ينزف دمه، إنه يمرغ صليبه بالدم الفادي. لكنه مع ذلك، يفشل في أن ينقذه. لقد انتهى كل شيء، واستحال العالم إلى صفر بالنسبة له، لم يعد هناك حتى أمل.. حتى أمل.. بالحوت.
هكذا.. يرتمي المنهك وقد فقد العالم.. لقد أصبح خارج العالم.. لم يعد يستطيع أن يتلاءم مع هكذا قدر. لقد تحول شيئاً آخر.. تحول إلى حقد.. إلى ثورة.. صارت الأشياء متغيرة لديه تماماً.. إنه لا يستطيع أن يقبل العالم هكذا.. والعالم لا يقبله. هكذا.. إذن.. لا بد من الاصطدام، الاصطدام الذي حدث عنيفاً ثم تحول إلى حقد، ورفض مر، وثورة. هكذا أصبح العالم بحاجة إلى تغيير كلي.. وسيطر عليه الحلم وابتدأت الرؤيا تغاويه وتجلت الرؤيا وإذا عالم آخر، ليس هناك أي ارتباط بينه وبين عالمه.. إنه نقيض له.. لهذا العالم المهترئ.. وحومت الرؤيا.. وإذا صور «مولوخ».. والكهان.. وعشتروت وحبيبها. وإذا مر كبولو يراود الشرق قيانا وأسرة، ولكنه يجده عالماً جديداً.
لقد أنجب العالم من رحم جديدة إنساناً جديداً، وقيماً جديدة.. هناك صور.. حيث الجنس عيد الخصب.. وحيث مولوخ، الإله الذكر..:
يتسلق أعناق الأرحام، ويودعها أنثى.. ذكراً لا أياً كانْ
وحيث:
ولهت صور، فسقت في قلب معابدها حتى الكهانْ
قلعت نهداً فجّاً..
نهداً رخواً..
أقعت فوق بطون النسوه
هناك الكهان ليسوا صخرة كبت تضغط عروق الإنسان الذي ولد وفي دمه حكة الجنس وتنميله. لكنهم أسياد الخصب.. أسياد أعياد الشهوات.. هناك:
خمر، وأناجيل حبلى
وإِله ترشح قربته نطفاُ.. لا عقم ولا صلا
وهنا عذراء تتلقّى فحلاً شبِقاً..
ينهدُّ، ويسلبها في خبطة ساقين بكاره
يا طيب الصيد السهل بلا طعم، وتحدّب صنّاره.!!
هكذا...؟ أصبح الصيد سهلاُ.. لم يعد الإنسان يحرق أيامه بحثاً عن واحدة.. لم يعد الشاب ـ مثلنا ـ يتحرق من أجل أنثى.. من أجل عذراء.. لم يعد أحدنا يرصد هبة ريح لكي يبحث في الشارع عن فستان يطير منها.. لقد انحلت مشكلة الجنس. صارت الأشياء عادية تماماً. حتى إنه:
زخماً كانت صور.. خصباً.. نسلاً حرّاً
ما عانى حساً منطمساً، سأمامرا
ما دوّم في آبار الطين الرخو.. وما
أفضى لما..
لقد انحلت الخيوط الكئيبة.. لم يعد الجيل مدوماً في آبار الطين، ولم يعد يخاف رعب الماء. تعد القيم الدينية تكبته، ولم يعد يتغلغل في وحول الصهر، لسبب بسيط هو أن الجنس لم يعد خطيئة. لم يعد وحلاً، لقد أصبح عيد خصب وحب. وهكذا أصبح الجيل شيئاً آخر. لقد أذهلته الرؤيا، سيطرت عليه تماماً. ولم يعد يستطيع إلا أن يحطم الأشياء كلها. وذلك العالم البعيد الذي يقيم في ذهول الرؤيا يضغط أعصابه. إنه يثور، يرفع قبضته في وجه الموتى، والقبور العفنة ويصرخ:
لا.. لن نموت.. لن نكفَّ عن رجا خلاصنا، نماري
غداً نفكُّ سبحة أجيالنا حباتها الرهائنْ
غداً نحيل قفرنا مدائن
ونهزم الحداد رجماً، نغسل الحنوط في مسارب الحقيقه
وعندما يهدر صرير الموتى: «لا تقاوموا» يصرخ في وجهه الشاعر المهووس بالرؤيا:
سوف تعود خائباً
لن يرفع الأكفَّ من تروسهم صفائح الإيمان بالحضاره
الحضارة..؟! أي عالم جديد يعيش في خياله حضارة نقية.. وعطاء وخصباً؟! أية حضارة تلك التي يحل فيها «الخلاص» وتغدو مدينته التي كرهها.. سم ذلها وعبوديتها، أية مدينة هذه:
مدينتي أحبها وحشية السماتْ
تنزو، تفلّي الأرض آن تحرث الفضاء بالخوذاتْ
بيوتها من سنديان الغابة المجاوره
أبناؤها برابره
لا يتلفون ليلة الحداد تعزياتْ
لا يدمنون القسر، برد الخوف، تأليه الشجونْ
ويقفزونْ
فوق سياج الرفض، عقفة الصليب،
يبدر الأشواك في مواسم العذابْ
أحبها جوريّة الرغابْ
تثور لا ترتدُّ حتى تزحن التابوت في المعاد
تفتُّه، وتلقم التنين بالحرابْ
هكذا.. تنهض مدينته في ذهول الرؤيا.. تنهض لأنه يؤمن بها:
لا.. لن تغطي جوها مظلةُ الغربانْ
ولن تعاني قسوة المنفى،
أفناني المزاد في ممالك الرقيقْ
لأنها تمور بالحياة دفقاً، لا تني تجيش بالفرسانْ
بزهوة المضاء في مقابض الخناجرْ
تغلي.. تئزُّ. تستخف ظلمة المقابر
وتستعيد صهوة التاريخ، مجدها العريقْ.
إن مدينته تثور.. وهو يحبها.. يقدسها في ثورتها.. في حقدها العارم، لأنها بدون الثورة، بدون الحقد، لن تكون أبداً نقية.. ولن يحل البعث. ولأنه لم يعد يستطيع أن يحبها إلا إذا انفجرت:
لأنني سئمتها مغزوّةً، مسلوبة المفاخرْ
تعجُّ بالمساخرْ
المساخر؟! وهل هناك أقسى من مساخر مدينته؟! أليست مدينته تعج بالمساخر؟! ألم يراودها مركبولو هكذا.. مدينة تعج بالمساخر؟! ألم تكن في خياله بلاد الأفيون والخرافات.. بلاد سندباد والجنية وخاتم سليمان ومصباح علاء الدين وبساط الريح وجواري الرشيد؟!
مركبولو.. راوغ الشرق قيانا وأسره
ساحراً يستنبئ البلورة الزرقاء، يستوحي ثآليل المجرّة
طير رخٍّ ينفض الريش.. يرد الشمس خجلى أن تكابرْ
ويزخّ البيض فوق السفن، يهويها.. ويطفو سندبادْ
دورةٌ.. باعٌ.. وسطح البحر مشكول جزائرْ
حفلت ماءً سماوياً، وزادْ
هكذا مساخر الشرق دائماً.. طير رخ يهري السفن.. ولكن المعجزة تحدث وينجو سندباد، ولفتة واحدة.. ثم يجد البحر مشكولاً جزائر حفلت ماء سماوياً، وزاداً.. هكذا مركبولو.. وهكذا الشرق في خياله.. وهذا هو، وقد:
ركب المدَّ يقاوي الريح بسطاً لا قلوعاً
ينخز الموج بسن الفيل مجذافاً متاجرْ
ويزيح الرصد عن كنز مصابيح عتيقات جلتها شهرزادْ
حكة.. سحب دخانْ
وإذا جنيَّة منغومة الصوت تلبّي:
أي تاج؟!.. أي صندوق جواهرْ
مرْ أنوّلك..!!
وكن مركبولو لا يراود الشرق جواهر فقط، ولكنه يهفو إلى غيبياته، إلى روحانيته، موتع وبعثه وجحيمه. فهو يصرخ:
.. أريد الشرق لغزاً ومخاطرْ
وحلولاً في إله الغيب،
يبدو في نبوءاتٍ، وموت، وارتدادْ
ولكن عصب الشاعر ينبض بالثورة.. إن الشرق ليس هذا.. إن الشرق شيء آخر.. إنه أبطال.. شيء أسطوري العظمة.. إنه أرض المعاد.. والسواحل التي أنجبت للعالم الحرف والشراع، السواحل التي:
صانها قدموس، قرمُ الحربِ،
يومَ الأبيض المطروق أربابٌ تخاتلْ
وانتخى بالحرف وهّاج المدادْ
وحتى الجنية منغومة الصوت التي رصدت فقط لتلبي حامل المصباح عندما تحدث الحكة، وتنتشر سحب الدخان، حتى هذه الجنية تتردد للمرة الأولى، وترفض أن تنول مركبولو هذا الشرق الذي يرجوه، والذي ارتسم في خياله.. لأنها هي أيضاً تعرف أن الشرق مجد العظمة، ورفعة الشموخ.
وهكذا أيضاً يموج الشرق في خيال الشاعر، بعثاً جديداً لشرق قدموس، وعطاء الحرف، وتلجلج الشراع، على أنقاض الشرق المهترئ؛ شرق الأفيون والكبت والتهويم. وهكذا ينتفض الحلم، تتوضح الرؤيا، يولد الشرق العظيم، ويختفي الشرق المنتن، شرق المساخر.
ويعود مركبولو بمرارة.. يعود خائباُ.. لأن الشرق لم يكن شرق المساخر التي سمع عنها، لم يكن صحراء الرمال والهوادج، وحياة التوحش في البوادي. وتطغى على عينيه صورة الشرق العظيم، شرق القناطر والحضارات، ويستعيد موكب الحضارة وهو عائد في خيبته:
هركبولو عبر الجسر إلى الصين، وعادْ
يتباهى أنه طوَّف في رحم المجاهلْ
واستعادْ
صورة الهودج منكبّاً،
سنام الجمل المكدود تبريه القناطرْ
وأتى بالخز، والمرجان،
لكن..
أين.. أين الشرقُ؟! لا رق ولا غزو مفاخرْ
كمال أبو ديب
إلى مصطافة
لن تطردينا..
نحن نصطافُ
ولنا على الشطآن أصدافُ
وجزيرة مغسولةٌ أبداً
بالهوهم،
والسكّانُ أطياف
كلّ الحسان
يردن صحبتنا
قبلاتُنا، كالخمر، أصنافُ
وعيوننا
مرآتعنّ صفتْ
فمدارها غنجٌ، وهفهاف
وشغافها الفضي يرعشه
حق
محلّى الرأس، طوّاف
مشبوبة الأبعاد قلبك من
ثلجٍ..
فما تغويك آلاف
لم تصرخين:
محدّق وقح
ورداؤك البحريُّ شفّاف..!؟
هلاّ عدوت..
ورفرفتْ خصلٌ
مشطُ الجمان لهنّ صفّاف
ودلفت
حافية مظلتنا
عصر المدى الزبدي ألفافُ
والطوفُ
منغلقٌ، ومنفتحٌ،
والمفرشُ الناريُّ مضياف
*
أمليكة الأصداف راوغنا
في ساحل الإسفنج
عرّاف
وشراعُ يختٍ
أبيضٍ.. شبِقٍ
ملاّحه، إن طاش، مجذافُ
لو زرتنا،
والصبحُ منسكبٌ..
لوقتْكِ لغوَ الناس أسجاف.
12 تموز 1957
أبحري
لا تشقّي قلب المحار
وطوفي..
في بحار أسماكها من حروفي..
واستقلّي
مراكباً قرمزيّات
تزلّجْنَ فوق نصلٍ رهيف
ربما
تنبشين كنزاً بدائياً
خبيثاً في قفر كهفٍ مخيف
ربما
ترشقين مرساتك السوداء
في مرفأ الضباب الخريفي..
وترودين شاطئاً
استوائياً
تصبّى غيمات ثلجٍ نديف
كيف أرجوحةٌ
ببال هوائي
تتصدّى.. حتى لخفقة ريف..!؟
وشبابيكُ مغلقاتٌ
بصَدْري
تلقف الضوء من شقوق الدفوف..!؟
أيُّ شيءٍ أنا..؟
فتىً بربري
ينسل العرق هازئاً بالنزيف
وصباحٌ..
وراءه ألفُ سربٍ
لا يبالي ارتحال ير أليف
*
أين منديلُ لوزةٍ
تفرز الدفعَ..
وأخرى تسوح عبرَ المصيف؟
وأضاميمُ زنبقٍ لوّحتْها
شمس تموزَ
بالسمار الخفيف..؟
أبحري..
ما يسوط تيّارك العاني
بغاء، وجذفي عن رصيفي..
زبدُ حبُّك المريبُ،
وسر
يتعرّى في مغربٍ من طويف
ستدوخين في الموانئ يوماً،
وتعودين طوع أمري،
فطوفي..
3 آب 1975
الحب والاهوت
الحبُّ لا يموتْ..
الحب خمرُ مأدبات الآلهة
ليلَ انتهاب الدنّ، هتكِ الحس إذ زرْقُ العيون شادهه
وإذ نضارُ الشمعدان يستبي فيءَ الشقار موهنا
حَرّ هنا..
بردٌ هنا..
وتمتمات العقد: أين يسبح الياقوت؟
أبين نهدي عابده..؟
ولوثةُ التخوتْ..!
أيستردُّ نكهة العطر الخبيءِ آدمٌ.. أينزف التفاحُ حول مائده
قبلَ: فُتات خبزها اللاهوت..!؟
وكان أن تدلّهتْ فينوسْ
إلهةُ الجمال حتى بانهدال الثوب.. والتعرّي
أوان صلّى دربُ عدن: مُرّي
وضو أتْ معابرُ العشاق بالشموسْ
ومورست في نهزة الولادة الطقوس
ونوهبت حوصلة الزمان..
وكانْ
أن أجّتِ الأعشاب.. أن تفاوح اللبانْ
تناوست أرجوحة الأحباب في أفق الفرحْ
مطالُها.. قوس قزحْ..
أزرارها مداهنُ الأطيابْ
يغار من نضرتها، ألوانها، العنّابْ
والدّيسةُ السوداء، والدفْلى، وحبُّ التوتْ..
بينا زيوس يني يحتبل الطهاره
يفترشس النساءَ في سواحل الدعاره
ويقلع الصاري العتيق، يولج الجديدَ في مرافئ تعجُّ باليخوتْ
وينما تنتهر الغيومَ عشتروتْ
تفتُّ تاجَ بعلها..
تشكُّ في الفضاء لمحَ نيزكِ يكاد أن يستبق الضياء
تنقيف ابن الأرز بالفيروز، أعين الربوب في رقى السماءْ
وكانْ
أن نهنه المكانْ..
وانطفأ التوقع الديني في رؤى جبيل غبّش الإحساس بالخطيئة
وانسحق الناموسْ
إرهابه.. وصيّة شوهاء في ألواحه الخبيئة:
لا تزنِ ـ كيف لا..!؟
القسر يغذو الرفضَ.. يستفزُّه بكزة الأضراس والتكبيلْ
لا تزن ـ كيف لا..!؟
حتى الصخور تستطيب حكة الإزميلْ
وكومة الرماد نفخة الرياح
الحبل شدة الأكف الصفر حتى يجهش الناقوسْ:
الحب لا يموتْ..
الحب خمرُ مأدبات الآلهة
ليلَ فُتاتُ خبزها اللاهوت...
2 نيسان 1961
تبرّج
هاجرتْ ساعةٌ
ومعبودتي السمراء
تغوي بَنانَها.. تتبرّجْ
والمرايا
في مرسمِ الضوء حارتْ
أيُّ أوضاعها أحبُّ.. وأبهجْ..!؟
مرودُ الكحلِ
ذوَّب الليل في رمشين..
فالعين نجمةٌ تتوهّج
غرّها سالفٌ
ترحّل فوق الصُدغ،
والتفَّ في مدى الأذن يغنج
وشجاها قرطٌ
تنقّل بين العنق رخصاً..
والجدّ حلواً.. مضرّج
قلمُ الحمرة استلذَّ انتهاءً
وهي تمحو ذرّاته...
فتعرّج
وتأبّى
أن يترك الثغرَ حراً..
أيُّ نحلٍ، من مصه، يتحرّج..؟
هو مرمى العنقودِ
مُنفرطَ الحب..
وملهى الشعاع أنّى تموّج
أسلت شعرها سواداً مُندّى
فوق نهد..
فهبّ آخرُ يحتجْ:
كم تصبَّرتُ، والتوازعُ تغويني
ولا وكْفَ خصْلةٍ..
لا بنفسج..
وأخى مفلتُ الغرائز.. عربيد
وحولي
صُديرَةُ الكبتِ تُنسج
هاجرتْ ليلةُ..
ولمّا تنولني..
أصداً أم خوف تمريغِ بَهْرجْ..!؟
7 تموز 1957
تهرّب
تتأبّين..
والشموع صباباتُ
وحسي بومضها يتدفأ
وارتعاشي يصبُّ شلال وهجٍ
في عرى الصدر..
بينما النهدُ يخفى
فرخُ برجٍ
ربيته ناقراً حي..
هلما توهّم النضجَ.. رفّا
واحتمى عريه
بثوب لصيقٍ
يا بعيني نسيجه إن يشفّا..
لا تكوني بخيلة
يقطر الشريانُ جمراً..
ويرصد القلبُ مرفأ
وتلوّيْ
إلهةً تنهك الصنجَ،
وتأبى عبّادها أن تكفّا
واستجيبي نسرينةً
تعشق الأمطار زخاً...
وهبّةَ الريح عصفا...
منتهى الوحدِ
أن تهلّي عطيّات
فيغدو تصوُّر الحب أصفى
لِمْ تلوحين لي، وتنأين عجلى
وانتظاري الوحشيُّ بي..
يتشفّى..!؟
أأنا شهقة المواسمِ
أم أنت..
إذا نسغنا الربيعي جفّا؟
كيف ترضين بالفواصل جذلى!.؟
مشتهى الحرف
أن يعانق حرفاً
لا تخالي درب المحبّة صعباً
جرّبي خطوةً..
فتمشين ألفاُ..
13 نيسان 1959
مولوخ
إله ذكر كان نسل صور تعبده..
عاين المؤرخ سترابون تمثاله في أحد معابدها حوالي 450 ق.م
مولوخ.. معبودُ الشهوة
محصولُ عبادات الأجساد، ديانات الجنس العاهرْ
يتعرّى.. يبرز أردافاً لسعتها أسواطُ النزوه
يغزو غاباتٍ، يتحرّى أحواضَ صديد.. ويكابرْ
يتسلّق أعناق الأرحام، ويودعها أنثى.. ذكراً.. لا أياً كان
ولهت صورُ.. فسقت في قلب معابدها حتى الكهان
قلعت نهداً فجّاً..
نهداً رخواً..
أقعتْ فوق بطون النسوه
مولوخٌ جبل خطاة الأرضِ، ونحتُ أزاميل المرَدَه باهى عُقدَه..
وتمرّى وجهاً غوليّاً معموماً في جرن الصبوه
جوفاً، ناموساً نارياً، والحطب إثنان،
ولد حلو..
بنت حلوه..
دقّا لحماً.. طُحيناً عظماً.. صارا جزوه
أو ما رصّا هو مي جنس، ضغيظاً أعصاباً محتقنه..!؟
قال السَدَنه:
ها أعياد الشهوات.. هنا خمرٌ، وأناجيل حبلى
وإله ترشح قربته نطقاً.. لا عقمً ولا صلا
وهنا عذراء تتلقى.. فحلاً شبقاً..
ينهدُّ، ويسلبها، في خبطة ساقين، بكاره
يا طيب الصد السهل بلا طعم وتحدّب صناره!؟
زخماً كانت صورٌ.. خصباً.. نسلاً حرّاً..
ما عانى حساً منطمساً.. سأماً مراً..
ما دوّم في آبار الطين الرخو.. وما أفضى لما..
22 نيسان 1961
بطاقة الميلاد
سألتُ
بطاقة الميلاد:
كيف أصابع الحلوه..؟
وريشتُها..
ولونُ الزهرِ
في نافورتي شهوه..؟
تُرى
حلمت برأسي غامَ
فوق مخدَّةِ النشوه..؟
وتهويمات أفكاري..
تصبَّى عامُها..
دعوه
فنسَّقَ خمسَ باقاتٍ،
وأهداهُنَّ..
في زهْوَه
فهشَّت مزهرياتٌ
لديها..
وانتشتْ عُروه
وصفّق بيتُها
فرحاً..
وكاد يُراقص السروه.
*
تُرى
عبَّتْ نبيذَ العيدِ
حتى قيل: لا صحوه..!؟
وناغى بالها لحنٌ
أبى نهونْدُه
سهوه:
تعالَ الصقْ بموقدتي،
وبي..
إن أعوزَتْ جذوَه
ونَهنهْ مفرشي لعباً..
وليلَ تجرُّدي..
صبوه
تعالَ أكنْ رصيفَ لظى..
وطرْ بي..
أستحلْ صهوه.
*
سألتُ الأحرفَ الزرقاء:
كيفَ..
تولُّه الحلوه..؟
فقلنَ: عبادةٌ تعبى..
وقلتُ:
لعلّها نزوه..!
توبة صوفية
لك عمري.. وللحسان تعلاتٌ
فطيري..
عصفورةً فوق دربي..
ومتى عاتبتْكِ أسرابُ أدغالي
فقولي: أحبُّه أيَّ حبِ..!
ومتى
أتعب الهواء جناحيكِ
فغلي ما بينَ عينيْ وهُدبي..
غبتُ في مرصدِ التصوّف آباداً
ولما أطللْتِ..
عاينتُ ربّي..
وتعبَّدتُ مطلقَ الصمتِ حتى
جئتِ..
فاستعذبَ المناجاةَ قلبي
مزّقي قصّتي وريقاتِ تكفيرٍ..
تحسي
أني سئمتُ التصبيّي
وهجرتُ الحلْواتِ
كُرمى لعينيك..
وصوتٍ منغّمِ العتْبِ.. عذبِ
*
أطفأ الطهرُ شهوتي
إذ تبدّيتِ..
وصلّى، في معبد الصبحِ، غربي
موسمي.. عفتُ قطفَه،
وتمنّيتُ..
على نخلك السرابيّ صلي.
*
إنها توبةٌ..
تبرعمُ في ظني،
ويغزو بياضُها ليلَ ذنبي
كان أمسي طيشاً..
وعفوُكِ أنهارُ خلاصي..
وأنتِ.. أنتِ مصبّي.
6 أيلول 1959
الأقانيم الثلاثة
الابنُ، والروحُ القُدُسْ
والآبُ..
أقداسُها تهرَّأتْ..
شموعُها تفتحّمتْ في نقرةِ التكهُّن المذابْ
وطامَنتْ خدودها وسائد الترابْ
نهايةٌ ساديةٌ.. مريعهْ
مجبولةٌ من زيْفنا.. صلاتنا المداجيَه
تلك هيه:
الوحشُ، والإنسان، والطبيعه..!
الابنُ، والروحُ القدُسْ
والآب..
ثلاثةُ في واحد سرابْ..
ما لم نمجّد ربّنا..
ونهمل الكنوز، والبخورَ في هياكل الخطيئه
ما لم ندقَّ الجرَسَ الخفيّ في ضمائر النوءه..
لدى حموّ ملقط الوشاة.. تكشيرِ الفناءْ
فما لنا..
سوى بياض الصبحِ.. رحمة السماءْ
لو دوَّخت أفكارنا دوّامة الإلحادْ..
ولم يجدْ غيرَ الفراغِ منجلُ الحصَّادْ..
لا قشةُ.. لا سنبله
ليلَ احتشادِ الجوعِ، والأحزانِ حول الجلْجلهْ..
الجمعة الحزينة 1960
طاحونة الموت
أكاد أحسُّ انتهائي،
مرارةَ موتي، استحالة عينيَّ
فحمهْ
نبوءات فكري الرهيفِ
تشقّ الضبابَ..
ترى في دهاليز عتمهْ
تقمّصتُ كاهن غيبٍ
يروض رمزاً معمّى..
ويجهل رسمَه..!
يداه مكبلتانِ
بغلّ القضاء..
يحزُّهما دون رحمه.
*
إلهي يفضُّ مغالقَ ذاتي
فأنحرُّ..
يغتالني رَصْدُ زحمه...
وينتصبُ القبرُ
في عقدي السودِ...
طاحونتي حشرجاتٍ، ونقمهْ
وجسراً..
إلى عالم غيهيّ
يصرُّ.. متى أطلق الفخّ نغمه.
*
أنا نطفةٌ
في ضمير التهاويل
دفْقي.. وأغشيتي محض وصمه
أشدّ قرارةَ رحمٍ..
أعرّى..
فأرتدُّ مستغرباً ألفَ كلمه..!
معقّدَ رسغٍ..
أخوض سراديبَ وحلٍ،
أغوص.. ولا حلمَ قمّه.
لماذا إذن أستشِفّ مصيري..
أنجّمُ..
والموتُ في ضوءِ نجمه..!؟
4 حزيران 1961
ملكوت سقر
إني في أسرار المطلقْ
أترامى مختنق الصوتِ
في عينٍ.. في بحرٍ أزرقْ
أطفو.. أغرقْ..
وأقاسي أهوالَ العمقِ الزيتيْ
لا ربّ هناك، ولا نجوى..
وأعبّ الماء.. أسفُّ الملحَ بلا جدوى
أتقرّى أسنانَ الحوتِ
وأطوف في كبد العتمهْ
حولي أنفاقٌ مهجوره
شيءٌ لَزِجٌ.. شوكٌ.. أعضاء مبتوره..
وأتمتم مشدوه النغمه:
مأساتي أني لم أذبح رفضي.. عُربونَ غدي.. قربانْ
لم أستقطرْ حتى دمعه
والوحشُ يشقُّ بحارَ المجهول السبعه
يتلقّف آدمَ، حواءً، نسلاً ملعوناُ يتهرّبْ
عُقداً.. أسماكاً مذعوره..
طوبى للناقوس المذهبْ
وخوارقِ قدّيس عريانْ..
يونانْ..
تتحدى الويلَ سفينتُه، والله هو الربّانْ
أبداً ترسو، وتغاوي البرْ
لكن.. ألفا طوبى للرفض المر.
ملكوتُ سقرْ..
وكهوفُ الخيبةِ لي.. وأنا في بدء التكوينِ
أتحمل خوفي، أوزاري، كابوسَ سفرْ
كفري.. ديني
مازالا شدقيْ تنينِ
وأنا بهما أهرس ذاتي.. وأنا بهما أقتاتْ
لحمَ الأمواتْ..
تاريخاً.. أسماءَ طُمست فوق الصلبان المحفوره،
ويسوعُ الفادي يتعذّبْ،
أتلقَّف آدمَ.. حواءً.. نسلاً ملعوناً يتهرّبْ
عقداً.. أسماكاً مذعوره..
حتى الدينونة، والنفخات ببوق إلهٍ محزونِ:
يا ويل الطين من الطينِ..!
12 تموز 1960
العلقم البري
..جنسنا البشري غده يقفز فوق جرف، ويستعجل السقطة.. وسدنة معابده يحرقون البخور في خوف الحرب، ويشتمون أرج الأعشاب الطفيلية في مستنقع الموت.. وهم مستريبون.
أما أنبياء عصره، حفدة جوبيتر، فنرجسيون.
لماذا إذن لا يستنفر الضمير العالمي، ويسترد ورقة نعيه قبل أن يتلقفه سرداب العدم..!؟
غدنا
مفُ رماد أزليّ..
معبدٌ غاوى حروفاً في شفهْ
هنَّ والتجديف سبْحات إلهٍ
حجري..
ومسوخ مقرفهْ..
وأباطيلُ استلانت وثنياً،
وحواريّاً،
أسريْ مجرفهْ..
وتوابيتِ رصاصٍ
تتباهى
أنها ساحلُ جُزْرٍ مورفه..
أنها طلسمُ عرقٍ بربرّيٍ
يتأبّى
رحلة مستكشفَهْ.
*
ما لنا نشتامُ عنقوداً،
ولا نحتزُّه..
بينا مُدانا مُرهفه..!؟
أيداجينا سدينٌ مستريبٌ
حسُّه..
ليلاتُه مُستنزَفه..؟
ويغذّينا
شروشَ العلقم البريّ
آمين صلاةٍ مسرفهْ..؟
أبداً ينقعنا في حوضِ كبريتٍ
يصفّينا..
فغدو زعنفهْ.
*
ما لنا
نحفى على الثلج، ونعرى..
آنَ لا يُكري نبي معطفه..!؟
لا يُمنى النملَ بالدفء..
بقشّات سنونو
أتعبتْها الرفرفهْ.
*
غدنا عشرُ وصايا تتناهى
في هيولى الوحلِ..
تعنو مدنفهْ..
سقطةٌ تستعجل الهوَّةَ
دنيا المهبِط السريِّ
دنيا مترفهْ..!
13 آب 1961
توابيت الحضارة
تصطكُّ فوق جيلنا حوافر الغيلانْ..
تنغرزُ المخالبُ النسريّةُ الجوفاء في ندوبه العميقه
تجزُّ فرو رأسه.. تذكار نصر الموت، والعوائد العتيقه
تسحقُه.. تقيء فوق لحمه القديد سيلَ القيحِِ.. والقطرانْ
ضفادعُ الكهوفِ ما تزالْ
تنقُّ في مستنقع الوراثة الدوديّ:
لا طوف، ولا مجذاف إلا من رقى جلودنا.. أفخاذنا العريقه
تنقّلوا على دروز الصخر.. فوق كبّة القنافذ الصديقه..
وقطّروا من قربتي دمائكمْ، خابيتي زيوتكمْ، شلاّلْ..
مآلكم أن تنحتوا عظامكم.. مرساتكمْ
أن تسقطوا.. تبلعكم رمالْ.
تابوتكم محاره..
محارُكم.. سفائنُ الحضاره
لا جزرَ مدَّ بحركمْ..
لا شيءَ غير قهقهات الجنْ في مغاره..
أمجادُكم هباءْ..
خطُّ الحياة في عُرى قفّازكم يموج بالمراره
لا تنزعوا قناعنا.. وجوهُنا أرصفةٌ شوهاءْ
غضونها تشدُّكم فيعانُها.. تقبرُكم أحياء.
زوابعُ الغبارِ في المجاري..
تُليح: موتوا تقبوا أعنّة الذراري..
لا.. لن نموتَ، لن نكفَّ عن رجا خلاصنا.. نماري
غداً نفكُّ سبْحة.. أجيالنا حبَّاتُها الرهائنْ
غداً نحيل قفرنا مائنْ
ونهزم الحدادَ رحماً، نغسل الحنوطَ في مسارب الحقيقه..
تقتلع العرامطْ.
جيشٌ من الأموات.. حولَ شرقنا يرابطْ
يحاصر التاريخَ بين دفّتي زمانه.. يسمّر الخليقهْ
ينصب منجنيقهْ..
يدكُّ نصف برجنا بوابل الحجاره...
يهدرُ:لا تقاوموا..
سوف تعودُ خائباً..
لن يرفعَ الأكفَّ من تروسهم صفائح الإيمان بالحضاره
7 أيلول 1961
الخلاص
مدينتي. أحبُّها وحشيّة السماتْ
تنزو، تُفلّي الأرضَ آنَ تحرثُ القضاء بالخوذاتْ..
بيوتُها من سنديان الغابةِ المجاوره
أبناؤها برابره..
لا يتلفون ليلةَ الحداد تعزياتْ
لا يدمنون القسرَ، بردَ الخوفِ، تأليهَ الشجونْ
ويقفزونْ..
فوق سياج الرفضِ، عقفة الصليب،
بيدرِ الأشواكِ في مواسمِ العذابْ.
أحبّها.. جوريَّة الرغابْ
تثور.. لا ترتدُّ حتى تزحن التابوت في المعادْ
وتنهشَ الصفادْ..
تفتُّه.. وتُلقمُ التنين بالحرابْ..
لأنني سئمتتها مغزوةً.. مسلوبة المفاخر
تعجُّ بالمساخرْ..
تتوه في مسارب الضبابْ..
وتعلك الأفيون.. والزرنيخ في قرارة المباخرْ
وتستمدُّ الوحيَ من شرانق الدخان،
من فتائل تأرّجت في مخبأ المقهى العتيقْ:
هناك أرضُ المنِّ والسلوى، حراجُ اللهِ، أمداءُ العقيقْ..
مليكةُ الشرقِ التي تموج بالمنائرْ...
بالقوتِ.. بالحليّ.. بالأبكارِ لم يمسّهنَّ فاجرْ.
لا.. لن تغطّي جوّها مظلّة الغربانْ..
ولن تعاني قسوة المنفى، أفانين المزاد في ممالك الرقيقْ
لأنها تمور بالحياة دفقاً.. لا تني تجيشُ بالفرسانْ..
بزهوة المضاء في مقابض الخناجرْ
تغلي.. تئزُّ.. تستخِفُّ ظلمة المقابرْ..
1 آذار 1960
فخاخ الشرق
مركبولو.. راوغ الشرقَ قياناً، وأسرّهْ
ساحر آيستنبئ البلّورة الزرقاء، يستوحي ثآليل المجرّه
طيرَ رخّ ينفض الريش.. يردُّ الشمسَ خجلى أن تكابرْ،
وتغويها العبادْ..
ويزخُّ البيضَ فوق السفنٍ، يهويها.. ويطفو سندبادْ..!
دورةٌ.. باع.. وسطح البحرِ مشكولٌ جزائر..!
حفلت ماء سماوياً.. و زادْ..
وفخاخاً حطّها الأقزام في خضر المعابرْ،
وتخفّوا.. مرّة يغتابُهم موجٌ، ومرّه
يدهنون السيخَ بالريقِ المحمّى،
يوشكّون به الأشباح.. و البحّار سادرْ..
ويبتّون: غداً فُصح شواء المارد العاري، نواقيس المسرّهْ
والكفاء الطوف جلديَّاً معنّى
لاكه الصخر.. وقاءته المغاورْ..
ونفته هبةٌ ملتاعةٌ.. لا برَّ، لا تهويمَ طائرْ..
لا كهانهْ..
ترشيد الخلقَ إلى ميناء أمنٍ
مطهر الملحِ.. وجيفات الخيانه..
يا لغربيّ مغامرْ..!
ركبَ المدَّ يقاوي الريحَ بُسطاً.. لا قلوعاً..
ينخز الموج بسنّ الفيل مجذافاً متاجرْ..
يتشفّى بأعاميق الجمادْ..
بفحيح الحنشِ الأسود مجهول الأوانْ..
ويزيح الرصد عن كنزٍ مصابيح عتيقات جلتها شهرزادْ..
حكةٌ.. سحبُ دخانْ..
وإذا جنيَّة منغومةُ الصوت تلبّي:
أي تاجٍ.. أي صندوق جواهرْ..؟
مُرْ أنوِّلك
أريد الشرق لغزاً.. ومخاطرْ..
وحلولاً في إله الغيبِ يبدو
في نبوءاتٍ، وموت، وارتداد.
مرْ أنوِّلك سوى أرضِ المعادْ..
وسواحلْ
صانها قدموسُ، قرْمُ الحربِ،
يومَ الأبيضُ المطروقُ أربابٌ تخاتِلْ..
وانتخى بالحرف وهّاج المدادْ..
مركبولو.. عبر الجسرَ إلى الصين.. وعادْ
يتباهى أنه طوّف في رحمِ المجاهلْ..
واستعادْ..
صورة الهودج منكبّاً سنامَ الجمل المكدود تبريه القناطرْ
وأتى بالخزّ، والمرجان..
لكنْ..
أينَ..أينَ الشرقُ..؟ لا رقٌّ، ولا غزوٌّ مفاخرْ.
1 كانون الثاني 1962