لسركون بولص في موته الأخير
2007-11-08
أن يكتب سركون بولص حكاية موته وتفاصيل لقائه الأخير بملاكه الحجري، موته الذي لم يختره قبلاً منذ نفيه الأول عن أرض العراق، أمرٌ في غاية الغرابة، وهو الذي حمل وطنه في قلبه، وارتحل عبر بقاع الأرض يفتش عن مساحةٍ لنبضة قلبه أو نفَسهِ، بين أوروبا وأمريكا وبيروت، باحثاً عن مدينة "أين" التي حملها في قلبه وهو لا يدري، راهناً حياته بإيجادها أو بنائها، وهو قد أسكن فيها أحباءه من أقارب وأصدقاء، قلب أبيه وكرسي جده الذي ما زال يهتز على أسوار أوروك، وارتحل لا يلوي على شيء إلا قليل الشعر الذي جناه بيديه، مردداً مع المعري "هذا ما جناه أبي عليّ، وما جنيتُ على أحدِ".
سركون بولص مات بعدما ترجل عن حصان المسافات ليسكن الوقت متاحاً له بكلّه، منذ استعاد قلبه ووقته وعاد ساخطاً على البشارة القاتلة، على الحرية التي لم تأتِ وعلّقوها على أعواد المشانق عند مداخل بغداد، أو أغرقوها مثقلةً بأصفاد الحديد في بحيرة الحبانية حيث مولد
الشاعر، وهو الشراع المسافر عابر القارات، مثل حصانٍ متعب إلى نفسه، وهو الحجري الواقف كصرح الجندي المجهول، في رؤياه الشعرية التي صوّرته ذات يوم، كأنه فاتح الكون، قال:
"حتى ذلك اليوم
عندما يصعد العالم في صوتي
بصهيل ألف حصان
وأرى بوابة الأرض مفتوحة أمامي".
كأنه في الرؤيا الحلم يحتج على الواقع المذل، منذ المعارك والهزائم والخيانات الكبرى، يفتتح عهده الجديد بالفرح الشعري، وغيبوبة القلم عن كتابة ذاته في ما لا ينكتب، ولكن يحكى بالسرّ والخفاء، وهو الرامي بالسهم في قلب الفراغ لينطق بالحقيقة، في يد الريح، حين يجمع سركون نفسه بكل خرق الأيام ونكباتها، تحت سقف الملاك، هذا الحاضر المجنّح الذي يشبه قلب أبيه، يحمل سركون أحبته إلى عالمه الداخلي الخفي، ليكتبهم شعراً وبركاتِ زمن غاب ولن يعود، إلا في تحقق المعجزة، أو استعادة الذاكرة الجماعية، لوطن ضيّع أحبته هو أيضاً.
سركون الشاعر يبحث في شعره عن موت قريب، فلا غرابة في أن يجده الموت بسهولة لأنه لم يكلف نفسه عناء الاختباء، وهو الساطع في الموقف كشمس، لا يحيد عن درب الموت إليه ولو قليلاً، يقول:
"حتى ذلك اليوم الذي لن أعود فيه
مثل حصانٍ متعب إلى نفسي
هذا الملاك الحجري
سمائي وسقفي".
هو المرتاح إلى قدرية توصله إلى غاياته الشعرية، ولا يرتجف، ولا يخاف بل تراه ينكمش على ذاته كجنين، في حميمية الشعر وولادات القصيدة، منتظراً الموت كأنه الولادة، متماهياً مع صورة الجندي الذي مات بحربته المعوجة، يقول:
"دافعاً راية الزئبق إلى الخلف
لتصطكَ النوافذ
لتنجرّ ميتافيزياء الكون
إلى قاع الأحذية الفارغة
لجنديّ مات بحربته المعوجّة".
كأنّ سركون بولص شاعرٌ بألف عراق، وألف ذاكرة، منذ نبوخذ نصر وجلجامش وقبلهما، إلى ما لا يحصى من وجوه تختزلها القصيدة كأنها عينا الشاعر، في تشكلات الوجوه فيها، مخاطباً سيزار فاييخو:
"يا سيزار فاييخو
أنا من يصيح هذه المرة
إسمح لي أن أفتح فمي
وأحتجّ على الدم الصاعد
في المحرار".
بين أزقة المدن يرتحل سركون بولص، يخط على الجدران خربشاته الأخيرة، عن الوطن المسبي، والمنفى الريح، التي صاحبها سركون طوال حياته، باحثاً فيها عن حريته المجنحة، الطائرة به فوق الحدود والقيود، كأنه يردد قصيدته، مقولته:
"واليوم
أنا من يصيح
ومن غير أن نولد
كيف نحيا مع الريح
دون كفالات".
صديق الريح هو، سركون المنفيّ في بقاع الأرض كغيمة، لا تتسع لها أرض ولا سماء، يأتي كالظلال التي ترافق كلاً منا على مهل، ولا تسبقه، لنرى أنفسنا فيه، ولا نخاف منّا. وهو الصديق في المقهى، والرصيف، والشارع، والمدن المخيفة، كما الحياة نفسها، يهرب سركون منها إلى موته الجميل، يقول:
"وفي هذا المساء يا فاييخو
تعلو الأبجديات وتسقط
المبنى ينهار
والقصيدة تطفئ نجومها
فوق رأس الميت المكلل بالشوك"، مبشراً بما سيأتي ليسحب أجسادنا على مجراه الحجري كاندفاعة نهر، أو جلوس الشاعر على حجر، يستنطقه ليقول، كما في الريح والظل والجسر، والبيوت الخشبية التي تترنح قبل مجيء الإعصار، في مسقط الرأس تماماً.
هامش للنص:
لا يشبهك الموت صديقي الراحل فيه
تشبهنا جناياتنا أن نحيا بلا شغب
أو نسافر في الريح فارغة حقائبنا إلا منها
رحلتنا الأخيرة إلينا يا حبيبي
تتنبأ لنا الزوايا بكثير أرق وغربة
ونحن وحيدان كلصّينِ هاربين وتائبينِ ولا رأفة بنا
نرتطم بالسماء كلما رفعنا رأسينا ناظرين إلى الوطن الغيمة
معلّقينِ بأهداب صبية دجلة الغاسلة قدميها في النهر
أيها المسافر تعالَ لتسكن قلقي والوقت
ليتسع لكَ كلّه ولا تعرفك المدن فتتركك حرًّا كأنك
عصفور النخيل
تبني عشّك القش من سعف المساء لتسكنك العتمة
وهناك تغني لنا
تفتح فمك لتحتجّ كالنشيج وصهيل ألف حصان
تعال نتقلّب في النهر
مع الأحياء والموتى
ندفش أسناننا حتى تصطكَ فيسقط العالم
معلناً تسوّسه الأزليّ
أيها العراقي اليتيم
المقامر بالمدن كأنها ملك يديك
08-أيار-2021
03-آذار-2009 | |
09-كانون الثاني-2009 | |
09-تموز-2008 | |
07-حزيران-2008 | |
تحولات الرّمل: وعي الاستمرارية في التجربة الروائية في الإمارات |
02-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |