رسالة الكندي 3
2006-04-07
رسالة الكندي إلى الهاشمي يردُ بها عليه، ويدعوه إلى النصرانية
وإذ قد خلا من الشرطين اللذين يوجبان الإيمان بالنبوَّة، نسأل: هل أجرى محمد معجزات باهرات؟ فنسمعه يقول: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَّوَلُونَ (سورة الإسراء 17:59). أي: لولا أن يكذبوا بآياتك كما كذبوا بالآيات التي جاءهم بها الأولون من قبلك، لأعطيناك الآيات! وأنت تعلم أن هذا جواب مرفوض، لا يقنع أحداً!
فإن ادّعيت أن من دلائل نبوته ظفره وظفر أصحابه على ما كانوا عليه من القلَّة والضعف بملك فارس على عظمته وجودة تدبير أصحابه وحسن سياسة ملوكه، مع كثرة العدد والسلاح والرجال، أجبناك بكلام الله وقوله لبني إسرائيل: مَتَى أَتَى بِكَ الرَّبُّ إِل هُكَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا، وَطَرَدَ شُعُوباً كَثِيرَةً مِنْ أَمَامِكَ: الْحِثِّيِّينَ والْجِرْجَاشِيِّينَ والْأَمُورِيِّينَ والْكَنْعَانِيِّينَ والْفِرِّزِيِّينَ والْحِّوِيِّينَ والْيَبُوسِيِّينَ، سَبْعَ شُعُوبٍ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِل هُكَ أَمَامَكَ,,, لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ واخْتَارَكُمْ، لِأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ. بَلْ مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ (التثنية 7:1-8).
ولكن عندما طغى بنو إسرائيل وجعلوا لله أنداداً وجحدوا آياته فقلَّ شكرهم لله، سلَّط عليهم شرَّ خلقه بختنصر عابد الصنم المشرك بالله، فقتل الرجال الذين كانوا أولاده وصفوته وخيرته وشعبه، وسبى ذراريهم، وأخرب البيت الذي كان معروفاً باسمه، ونقل الآنية التي كانت فيه إلى بابل النجسة بعبادة الأصنام. فهل نقول إن بختنصر ظفر ببيت المقدس وبلغ منه ومن أهله ما بلغ لأنه كان نبياً؟ أم للسبب الذي ذكرناه آنفاً؟ فكذلك أيضاً كانت قصة صاحبك وأصحابه مع ملك فارس، لأن أهل فارس كانوا مجوساً يعبدون الشمس والنار وادّعوا الربوبية التي لم يجعلها الله لهم، وابتذلوا نعمه كفراً وسعوا في الأرض فساداً، وارتكبوا العظائم، وتوهموا أن الذي هم فيه إنما هو من صحة تدبيرهم وكثرة قوتهم، فسلبهم الله نعمته وسلط عليهم من أخرب بلادهم وقتل رجالهم وأخلى مساكنهم منهم وسبى ذراريهم ونهب أموالهم وبادوا بسخط الله ورجزه. كذلك يفعل الله بالقوم الظالمين.
أما كتاب صاحبك الذي ادّعى أنه منزَل عليه من عند الله فليس فيه شيء من ذكر المعجزات، فقد قال إن الله لم يجعله صاحب معجزة لأن السابقين كذَّبوا بآيات الأنبياء الأولين، فكره الله أن يؤتيه بشيء منها فيكذبون به. نعم إن الأولين من اليهود كذبوا بآيات الأنبياء وردُّوها، وأما الأعراب فبآيات من كّذَّبوا، ولم يُبعث فيهم نبي قط، ولا وُجِّه إليهم رسولٌ لا بآية ولا بغير آية؟ ولعله لو كان جاءهم بشيء من الآيات لكانوا صدقوه ولم يكذبوه! ألم نر أن كثيرين منهم أجابوا دعوته ولم يروا منه آية ولا سمعوا عنه أعجوبة؟ أما غير الكتاب فقد وجدنا لكم أخباراً وقصصاً هي كخرافات العجائز، منها زعمهم أنه كان من آياته العجيبة أنه وقف بين يديه ذئب فعوى وبكى، فالتفت محمد إلى أصحابه قائلاً لهم: هذا وافد السباع، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئاً لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه وتحرَّرتم منه. قالوا: ما نطيب له بشيء، فأومأ إليه بأصابعه الثلث أن خالسهم، فولَّى وهو غائل. فهذه آية عجيبة لم يسمع السامعون بمثلها قط ولم ير الراؤون أعجب منها: أنه عرف عواء الذئب وأنه وافد السباع. لو كان قال لهم إن هذا الذئب رسول رب العالمين إليه، مَنْ كان يردُّ عليه قوله، ولا منتقد باحث فيهم؟ ومنها زعمهم أن الذئب كلم أهبان بن أوس الأسلمي فأسلم، ولو ادّعى أن أهبان ذكر أن الأسد كلَّمه لكان عندي أعجب. على أنه ساوى بينه وبين نفسه فيهما، بل فضَّله على نفسه، إذ الذئب معه عوى، فادَّعى معرفة ما قال في عوائه إنه وافد السباع. فأما أهبان فزعم أن الذئب كلَّمه بلسانٍ عربي. والأعجب في ذلك أن هاتين الآيتين لم تجريا إلا بواسطة الذئب الذي يُعرف بالخاطف من السباع، وهذا لقبه! وكذلك قصة ثور دريخ وادّعاءهم أنه كلَّم دريخاً عندما ضربه. وكتابه يشهد أن الأعراب أشد كفراً ونفاقاً. وأما شاة أم معبد ومَسْحه يده على ضرعها وما يلي ذلك من الخرافات الأخرى كدعائه الشجرة فأسرعت إليه مقبلة مجيبة تجهد في الأرض، فهذا أمر نؤخّره، لأن أكثر المسلمين الراسخين في العلم لا يقبلونه.
وكذلك السم الذي سمَّته به زينب بنت الحارث اليهودية (زوجة سلام بن مشكم اليهودي) في شاة مشوية فكلَّمته الذراع. وأكل معه بِشرْ بن البراء بن معرور فمات، وإن السم الذي لم يزل يدب في بدن محمد كان سبب موته. فهل سمع الكلام من الذراع وحده، أم سمعه من كانوا بحضرته؟ فإن كان سمعه هو وحده فلِمَ لم يمنع ابن البراء من أكل طعامٍ مسمومٍ حتى لا يموت، وهو رجل من أصحابه اختصَّه بالأكل معه؟ وكيف استحل ذلك واستجاز كتمان قول الذراع له إنها مسمومة؟ وإن كان جميع الحاضرين سمعوا كلام الذراع، فكيف لم يمتنع ابن البراء من الأكل وهو يسمع الذراع تقول: لا تأكل مني فإني مسمومة؟ فليس يخلو هذا من أحد وجهين، إما أن يكون سمعه هو وحده وكتم ذلك غدراً، وإما أن تكون الجماعة سمعوه فلم يمتنع ابن البراء من ذلك الأكل حيث سمع ولا يموت. ولعل ابن البراء أكل السم ثقةً منه بأنه يأكل مع نبي مُستجاب الدعوة ورسول رب العالمين، مشفَّع عند ربه في جميع ما سأله. فلماذا لم يَدْعُ محمد ربه فيجيبه كعهدنا بالأنبياء المشفعين في إحياء الموتى؟ فإن إيليا النبي قد أحيا ابن الأرملة بصرفة (1ملوك 17) وهكذا أليشع تلميذ إيليا أقام ابن الشونمية من الموت (2ملوك 4). وقد فعلت الأنبياء مثل هذا مراراً كثيرة وهم أحياء، وفعلت أيضاً القوة الحالة في عظامهم كفعل عظام أليشع النبي حيث وُضع الميت عليها فعاش (2ملوك 13). وأنت تعلم أن هذا خبر صحيح في كتب الله المنزلة ليس فيه اختلاف بين النصارى أصلاً ولا بين اليهود، وهما ملتان مختلفتان اجتمعتا على صحة ذلك. وكيف لم يأكل محمد منها أيضاً ولم يصبه شيء، فيكون ذلك آية له وشاهداً على صحة ما يدّعي من النبوة إن كان نبياً؟ لأن الأنبياء معصومون بالوقاية الإلهية من الآفات التي تحتال الكفرة بها عليهم وعلى أولياء الله، كقول المسيح عن تلاميذه: وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لَا يَضُرُّهُمْ، وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ (مرقس 16:18). وحقق المسيح لهم هذا، فقد كانوا يُمتحنون بمثل هذا فتظهر صحّة دعواهم عند التجربة، فانقادت لهم الملوك الجبابرة والعلماء الفلاسفة والحكماء أصحاب الحيل والقضاة، بلا سيف ولا عشيرة ولا حكمة دنيوية ولا فصاحة ألفاظ ولا ترغيب في شيء ولا تسهيل في شريعة.
وأما الميضأة وخبرها، وأنه أدخل يده فيها ففاض منها الماء حتى شربوا وشربت دوابهم، فالخبر بذلك جاء عن محمد بن إسحق الزهري، وأمرها ضعيف عند أصحاب الأخبار، ولم يجتمع أصحابك على صحته. وقد قال صاحبك في حديث: ليس من نبي إلا وقد كذبت أمته عليه، ولست آمَن أن تكذب عليَّ أمتي، فما جاءكم عني اعرضوه على الكتاب الذي خلفتُه بين أظهُركم، فإن كان له مشاكلاً وكان له فيه ذكر فهو عني، وإني قلتُه وفعلته. وإن لم يكن له ذكر في الكتاب فأنا بريء منه وهو كذب ممن رواه عني، وما قلته ولا فعلته .
فانظر في هذه الأخبار التي ذكرناها مما يقول أصحابك: هل تجد لها أصلاً في الكتاب الذي في يدك؟ فإن كان لها فيه ذكر فهي صحيحة قد فعلها، وإلا فهو بريء منها، وهي أباطيل وأكاذيب!
ثم أعظم من هذا وأشنع أنه كان يقول لهم في حياته ويوصي إليهم إذا مات ألاّ يدفنوه، فإنه سيُرفع إلى السماء كما ارتفع المسيح، وإنه أكرم على الله أن يتركه على الأرض أكثر من ثلاثة أيام. ولم يزل ذلك عندهم متمكناً في قلوبهم. فلما مات يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة 63 لمولده، وقد مرض 14 يوماً، تركوه ميتاً، يظنون أنه سيُرفع إلى السماء كقوله. فلما أتت عليه ثلاثة أيام وانقطع رجاؤهم من ذلك ويئسوا من تلك المواعيد الباطلة، دفنوه يوم الأربعاء. وحكى بعضهم أنه مرض سبعة أيام بذات الجنُب، وأنه غرب عقله وخلط في كلامه تخليطاً شنيعاً، فغضب لذلك علي بن أبي طالب وأنكره. فلما أفاق أخبره بما كان فقال: لا يبقينَّ في البيت أحدٌ إلا العباس بن عبد المطلب . فلما كان اليوم السابع من مرضه مات، فارتفع بطنه وانعكست إصبعه الشمال وهي الخنصر. وذكر ضمران أنه كان تحته في مرضه شملة حمراء وعليها مات وفيها أُدرج بعد موته ووُوري في التراب بغير غسل ولا أكفان. وروى عمران بن خضير الخزاعي أنه غُسل وأُدرج في ثلاثة أثواب بيض يمانية، وأن الذي تولى ذلك منه علي بن أبي طالب والفضل بن العباس بن عبد المطلب عمه. فلم يبقَ أحدٌ ممن كان تبعه إلا ارتدَّ ورجع عما كان عليه، غير نفرٍ يسير من أخصّ أهله وأقربهم نسباً إليه، طمعاً بما كان فيه من تلك الرئاسة. فكان لأبي بكر (عتيق بن أبي قحافة) في ذلك أعجب تدبير فتولى الأمر بعده. فاغتاظ علي بن أبي طالب غاية الغيظ لأنه لم يكن يشك أن الأمر صائرٌ إليه، فانتُزع من يده. كل ذلك حرصاً على الدنيا ورغبة في الرئاسة. فلم يزل أبو بكر يلطف بالمرتدّين إلى أن رجعوا بضروبٍ من الحيل والرفق والأماني. وكان بعض ذلك بالخوف من السيف، وبعض بالترغيب في سلطان الدنيا وأموالها وإباحة شهواتها ولذاتها. فرجع من رجع في ظاهره لا في باطنه. وما أشك في أنك تذكر ما جرى في مجلس أمير المؤمنين، وقد قيل له في رجلٍ من أجلّ أصحابه إنه إنما يُظهر الإسلام وباطنه المجوسية، فأجاب: والله إني لأعلم أن فلاناً وفلاناً (حتى عدَّد جملة من خواص أصحابه) ليُظهرون الإسلام وهم أبرياء منه، ويراءونني وأعلم أن باطنهم يخالف ما يظهرونه لأنهم قوم دخلوا في الإسلام لا رغبة في ديانتنا هذه، بل أرادوا القرب منا والتعزُّز بسلطان دولتنا. وإني أعلم أن قصتهم كقصة ما يُضرب من مثل العامة أن اليهودي إنما تصحّ يهوديته ويحفظ شرائع توراته إذا أظهر الإسلام! وما قصة هؤلاء في مجوسيتهم وإسلامهم إلا كقصة اليهودي. وإني لأعلم أن فلاناً وفلاناً (حتى عدَّد جماعة من أصحابه) كانوا نصارى فأسلموا كرهاً، فما هم بمسلمين ولا نصارى، ولكنهم مخاتلون: فما حيلتي وكيف أصنع؟ فعليهم جميعاً لعنة الله. ولكن لي قدوة برسول الله. لقد كان أكثر أصحابه وأخصّهم به وأقربهم إليه نسباً يُظهرون أنهم أتباعه وأنصاره، وكان محمد يعلم أنهم منافقون، وأنهم لم يزالوا يريدون به السوء، ويعينون المشركين عليه، حتى أن جماعة منهم كمنوا له تحت العقبة واحتالوا في تنفير بغلته لترمي به فتقتله، فوقاه الله كيدهم. ثم كان يداريهم دائماً إلى أن قبض الله روحه. أفما ينبغي لي أنا أن أشابهه؟ هذا وكان حياً ملء ثيابه، ثم ارتدّوا جميعاً بعد موته، فلم يبق منهم أحد كان يظن به رشداً إلا رجع وارتدّ، إلى أن أيَّده الله وجمع تفرُّقهم وألقى في قلوب بعضهم شهوة الخلافة ومحبة الدنيا، فربط النظام وجمع الشمل وألَّف التشتيت بالحيلة ولطف المداراة، وأتم الله ما أتمه. وما المنّة في ذلك له ولا هو محمود عليه، بل المنّة لله والحمد والشكر له على ذلك بأسره. فلستُ أذكر ما أراه ويبلغني عن أصحابي هؤلاء إلا المداراة والصبر عليهم، إلى أن يحكم الله بيني وبينهم، وهو خير الحاكمين .
ولولا أن أمير المؤمنين تكلم جهاراً على رؤوس الملأ في مجلسه، فذاع الخبر بذلك ونقله الشاهد إلى الغائب، لما حكيتُه. وأنت تشهد لي أني إنما ذكرتك بما جرى من الكلام في ذلك المجلس وليس له مدة طويلة.
فلنرجع الآن إلى كلامنا الأول، ونقول إنه كان عمره 63 سنة، منها 40 سنة قبل ادعائه النبوة، و13 بمكة، وعشر في المدينة. فإن ادعيت أن موسى النبي ويشوع بن نون خليفة موسى قد حاربا أهل فلسطين وضربا بالسيف وقتلا الرجال وسبيا وأحرقا القرى والمساكن بالنار ونهبا الأموال، قلنا لك إنهما فعلا ما فعلاه عن أمر الله لتنفيذ ما أراده وإنجاز مواعيده، فإن ذلك كان في قوم طغوا وبغوا فأحب الله تأديبهم كتأديب الأب المشفق على ابنه. فإن سألت: وما الدليل على أن ما فعلاه كان عن أمر الله سبحانه، وأن الذي فعله صاحبك لم يكن عن أمر الله؟ قلنا: إن نبي الله موسى جاء بالآيات العجيبة التي فعلها بمصر بحضرة فرعون وجميع أهل مصر، بعد ما فعل أهل مصر ببني إسرائيل ما فعلوه. وبعد ذلك أخرج بني إسرائيل بتلك القوة المنيعة، وفلق لهم البحر وأجازهم، وغرق فرعون وأصحابه عندما تبعهم. وضرب موسى الحجر الأصم فتفجَّر منه 12 نهراً سقاهم منها، وأنزل لهم المن والسلوى، وما أشبه ذلك مما أتى به مما هو ممتنع في قدرة المخلوقين، لا يقدر أحد أن يفعل ذلك غير الخالق ومن أعطاه الرب القدرة على فعل مثله. فصارت هذه دلائل واضحة بأن جميع ما حكاه وفعله هو عن أمر الله. وكذلك ما فعل يشوع بن نون من وَقْفه الشمس وسط الفلك عن مسيرها، إلى أن انتقم الشعب من أعدائه، وكذلك توقيفه القمر بأمر الرب فوقف. وشهد له الكتاب بأنه لم يكن مثل ذلك اليوم فيما مضى ولن يكون في المستقبل، لأنها معجزة خصَّ الله بها يشوع بن نون، فتكون شهادة له إلى الأبد. ونحن واليهود المخالفون لنا متفقون على تصديقه عن غير تواطؤ، وإنه حق في كتاب الله.
فأعطنا أدنى حجة أو أعجوبة من صاحبك فعلها أو يقرّ له كتابه بصحّتها حتى نصدّق نبوّته ونقرّ برسالته ونقبل دعوته، ونعلم أن ما فعله من قتل الناس وأخذ أموالهم وإخراجهم من ديارهم كان عن أمر الله عز وجل، كفعل أولياء الله. وإنما هو رجل ادعى لنفسه ما ادعاه، فأعانه على ذلك قوم من عشيرته وأهل بيته وبلده.
الشرائع والأحكام
ثم دعني أناقشك في ما جاء به صاحبك من الشرائع والأحكام، فنقول إن الشرائع والأحكام لن تخرج عن ثلاثة أوجه، وذلك إما أن يكون الحكم حكماً إلهياً وهو حكم التفضُّل الذي هو فوق العقل والطبيعة ويليق بالله جل اسمه لا بغيره، ولا يشبهه سواه. وإما أن يكون حكماً طبيعياً قائماً في العقل مولوداً في الفكر يقبله التمييز ولا ينكره، وهو حكم العدل. وإما أن يكون حكماً شيطانياً، أعني حكم الجور، وهو ضد الحكم الإلهي وخلاف الحكم الطبيعي.
فأما الحكم الإلهي الذي هو فوق الطبيعة، فهو التفضُّل الذي جاء به المسيح مخلص العالم سيد البشر الذي شهد له صاحبك إذ يقول: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (سورة المائدة 5:46). وذلك أن المسيح قال في إنجيله الطاهر: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الْأَشْرَارِ والصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الْأَبْرَارِ والظَّالِمِينَ (متى 5:44 ، 45). فهذا هو الحكم الإلهي، وشرائعه فوق الطبيعة وأعلى من العقل الإنساني، وهو حكم التفضّل والرحمة والعفو والتشبُّه بفعل الله الرؤوف الرحيم.
والنحو الثاني هو الحكم الطبيعي والشريعة القائمة في العقل الجاري مع الغريزة، وهو ما جاء به موسى النبي بقوله في حكمه ما معناه العين بالعين والسن بالسن والنفس بالنفس والضربة بالضربة والجراح قصاص . فهذا حكم الطبيعة الداخل في قانون العقل، وهو حكم العدل والنصفة: أن تأتي الناس بمثل ما أتوا به إليك وتفعل بهم كما فعلوا بك، إنْ خيراً وإنْ شراً. وليس ذلك مضاهياً للحكم الإلهي.
والنحو الثالث هو الحكم الشيطاني الذي هو الجور والشر بعينه.
فأي هذه الأحكام الثلاثة وأي شريعة جاء بها صاحبك؟ فإن قلت إنه جاء بالأحكام الإلهية، قلنا لك قد سبقه المسيح إليها بستمائة سنة. وإن قلت إنه جاء بالأحكام الطبيعية وشرائع العقل وسنن العدل، قلنا قد سبقه إلى ذلك موسى النبي. فهذان حكمان قد عرفنا أصحابهما وأقررنا بهما. بقي الحكم الثالث الذي هو حكم الشيطان وشريعة الجور.
فهل تقول إنه جاء بالحكمين معاً (يعني حكم المسيح وحكم موسى) وشرحهما في كتابه قائلاً: النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن الخ كما قال موسى ثم أَتْبعه بقول المسيح وإن غفرتم فإنه أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (سورة المائدة 5:8). فأنت تعلم أن هذا كلام متناقض، كقول القائل: قائم قاعد، وأعمى بصير، وصحيح سقيم في حال واحدة! وإن أقررت كل واحد من هذين الحكمين وادَّعيته، فلا يدعك أصحابهما، لأنهم ورثوه فصار في أيديهم حقاً مسلَّماً لهم، ويقولون لك إنك متعدٍّ ظالم تروم أخذ إرثنا من أيدينا، مع إقرارك أنت أنه لنا. فإن حاولت أخْذه فأنت غاصبٌ لا حقَّ لك، بل آتنا أنت بما في يدك وعندك مما ليس في أيدينا ولا عندنا، لنعلم أنك صادق في ادّعائك. ولا أظنك ترضى لصاحبك أن يكون تابعاً للمسيح وموسى، وأنت تزعم فيه وتدَّعي من الحظوة والقدر والمنزلة عند رب العالمين، وتجترئ على الله وتقول: لولا صاحبك ما خُلق آدم ولا كانت الدنيا!
معجزته القرآن
تقول إن الحجة البالغة عندك هي هذا الكتاب الذي في يدك، وإن الدليل على صحّة كونه مُنزلاً من عند الله ما فيه من الأخبار القديمة عن موسى والأنبياء وعن سيدنا المسيح، وصاحبك رجل أمّي لم تكن له معرفة ولا علم بتلك الأخبار، فلا بد أنه أُوحي إليه وأُنبئ بما قاله. ثم تقول لا يقدر إنسيّ ولا جنيّ أن يأتي بمثله، ثم تقول: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَّزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (سورة البقرة 2:23) و: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (سورة الحشر 59:21) ونظائر هذه أعظم الدليل على نبوّته، فكأنك جعلت هذا آيةً له وحجة، مثل فلق البحر لموسى، ووقوف الشمس ليشوع بن نون، وإحياء الموتى للمسيح، وأعاجيب الأنبياء السالفين.
فنقول إنه ينبغي لك أن تعلم أولاً كيف كان السبب في هذا الكتاب، ذلك أن رجلاً من رهبان النصارى اسمه سرجيوس أحدث حَدَثاً أنكره عليه أصحابه، فحرموه من الدخول إلى الكنيسة وامتنعوا عن كلامه ومخاطبته، على ما جرت به العادة منهم في مثل هذا الموقف. فندم على ما كان منه، فأراد أن يفعل فعلاً يكون له حجة عند أصحابه النصارى، فذهب إلى تُهامة فجالها حتى بلغ مكة، فنظر البلد غالباً فيها صنفان من الديانة: دين اليهود وعبادة الأصنام، فلم يزل يتلطف ويحتال بصاحبك حتى استماله وتسمَّى عنده نسطوريوس، وذلك أنه أراد بتغيير اسمه إثبات رأي نسطوريوس الذي كان يعتقده ويتديَّن به. فلم يزل يخلو به ويكثر مجالسته ومحادثته إلى أن أزاله عن عبادة الأصنام ثم صيَّره داعياً وتلميذاً له يدعو إلى دين نسطوريوس. فلما أحست اليهود بذلك ناصبته العداوة، فطالبته بالسبب القديم الذي بينهم وبين النصارى. فلم يزل يتزايد به الأمر إلى أن بلغ به ما بلغ. فهذا سبب ما في كتابه من ذكر المسيح والنصرانية والدفاع عنها وتزكية أهلها والشهادة لهم أنهم أقرب مودّة، وأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون (مائدة 82).
فلما توفي وارتدّ القوم وانتهى الأمر إلى أبي بكر، قعد علي بن أبي طالب عن تسليم الأمر لأبي بكر، فعلم عبد الله بن سلام وكعب الأحبار اليهوديان أنهما ظفرا بما كانا يطلبان ويريدان في نفسيهما، فاندسَّا إلى علي بن أبي طالب فقالا له: ألا تدَّعي أنت النبوّة ونحن نوافقك على مثل ما كان يؤدب به صاحبك نسطوريوس النصراني، فلست بأقل منه؟ ولكن أبا بكر عرف بما كان من أمرهما مع علي، فبعث إلى علي. فلما صار إليه ذكّره الحرمة. ونظر علي إلى أبي بكر وإلى قوته، فرجع عما كان عليه ووقع بقلبه. وكان عبد الله بن سلام وكعب الأحبار قد عمدا إلى ما في يد علي بن أبي طالب من الكتاب الذي دفعه إليه صاحبه على معنى الإنجيل، فأدخلا فيه أخبار التوراة، وشيئاً من جل أحكامها، وأخباراً من عندهما بدلها، وشنَّعا فيه وزادا ونقصا ودسّا تلك الشناعات كقولهما: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَا للَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفوُنَ (سورة البقرة 2:113) ومثل الأعاجيب والتناقض الذي يجعل الناظر فيه يرى المتكلمين به قوماً شتى مختلفين، كلٌّ منهم ينقض قول صاحبه، ومثل سورة النحل والنمل والعنكبوت وشبهه. إلا أن علياً حين يئس من الأمر أن يصير إليه، صار إلى أبي بكر بعد أربعين يوماً (وقال قومٌ بعد ستة أشهر) فبايعه ووضع يده في يده. وسأله أبو بكر: ما حبسك عنا وعن متابعتنا يا أبا الحسن؟ فقال: كنت مشغولاً بجمع كتاب الله، لأن النبي كان أوصاني بذلك. فما معنى شغله بجمع كتاب الله، وأنت تعلم أن الحجاج بن يوسف أيضاً جمع المصاحف وأسقط منها أشياء كثيرة؟ وأنت تعلم أيضاً أنهم رووا أن النسخة الأولى هي التي كانت بين القرشيين، فأمر علي بن أبي طالب
بأخذها لما اشتد عليه الأمر لئلا يقع فيها الزيادة والنقصان، وهي النسخة التي كانت متفقة مع الإنجيل الذي دفعه إلى نسطوريوس، وكان يسميه عند أصحابه جبريل مرة والروح الأمين مرة. فلما قال علي لأبي بكر في البيعة الأولى: إني شُغلت في جمع الكتاب، قالوا: معنا قول ومعك قول، وهل يجمع كتاب الله؟ فاجتمع أمرهم وجمعوا ما كان حفظه الرجال من أجزائه كسورة التوبة التي كتبوها عن الأعرابي الذي جاءهم من البادية وغيره من الشاذ والوافد، وما كان مكتوباً على اللِّخاف (وهي حجارة بيض رقاق واحدتها لَخْفة وهي في حديث زيد بن ثابت جامع القرآن) والعُسُب (وهو جريد النخل) وعلى عظم الكتف ونحو ذلك، ولم يُجمع في مصحف. وكانت لهم صحف وأدراج على منهاج أدراج اليهود وذلك من حيلة اليهود. وكان الناس يقرأون مختلفين، فقوم يقرأون ما مع علي بن أبي طالب وهم أتباعه إلى اليوم، وقوم يقرأون بهذا المجموع الذي ذكرنا أمره، وقوم يقرأون بقراءة الأعرابي الذي جاء من البرية وقال إن معي حرفاً وآية وأقل وأكثر، فكتب ولا يدري ما قصته ولا في ما أُنزل، وطائفة تقرأ بقراءة ابن مسعود لقول صاحبك: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أُنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد . وكان يُعرض عليه في كل سنة مرة، وفي السنة التي مات فيها عُرض عليه مرتين. وقوم يقرأون قراءة أُبيّ بن كعب، لقوله: أقرأكم أبيّ، وقراءة أُبي وقراءة ابن مسعود متقاربتان . فلما صار الأمر إلى عثمان بن عفان واختلف الناس في القراءة، أقبل علي بن أبي طالب يتطلَّب العلل على عثمان ويتتبع العثرات في القراءة، ويعيبه، وذلك تدبيراً لقتله. فكان الرجل يقرأ الآية ويقرأها الآخر قراءة مختلفة، ويقول الرجل منهم لصاحبه: قراءتي خيرٌ من قراءتك ويحتجّ كلٌّ منهم لصاحبه بالذي يقرأ بقراءته، ويقع في ذلك الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل. فقيل ذلك لعثمان إنهم يختلفون في القراءة ويزيدون في الكتاب ويُنقصون ويقع بينهم الشر والأخذ بالعصبية، ولا نأمن أن يتطاول الأمر ويتفاقم فيقع بينهم القتل ويفسد الكتاب وترجع الرّدة. فبعث عثمان فجمع كل ما أمكنه من تلك الأدراج والرِّقاق، وما كتب أولاً. ولم يتعرضوا لما في يد علي بن أبي طالب من مصحفه ولا لمن كان يقرأ بقراءته ولا دخل معهم في هذا التأليف. فأما أُبيّ بن كعب فمات قبل هذا التأليف، وأما ابن مسعود فطلبوا منه أن يدفع إليهم مصحفه، فأتى فصرفوه عن الكوفة واستعملوا أبا موسى الأشعري، وأمروا زيد بن ثابت الأنصاري وعبد الله بن عباس (وقيل محمد بن أبي بكر) بتأليفه وإصلاحه وحذف الفاسد منه. وقالوا لهما: إذا اختلفتما في شيء أو لفظة أو اسم فاكتباه بلسان قريش. فاختلفا في أشياء كثيرة، منها التابوت . قال زيد هو التابوه، وقال ابن عباس بل هو التابوت فكتباه بلسان قريش. ونظائر هذه كثيرة. فلما جمعوا هذا التأليف على ما في هذه المصاحف كُتبت أربعة مصاحف بخط جليل، ووُجِّه أحدها إلى مكة، وحُفظ آخر في المدينة، ووجّه آخر إلى الشام (وهو اليوم بملطية). ولم يزل ذلك المصحف الذي كان بمكة إلى أيام أبي السرايا. فلما كان في تلك الأيام وهو آخر سلب سلبت الكعبة (سنة 200 ه ). ليس أن أبا السرايا سلبها، بل في تلك الفتنة. فقد قيل: احترق في ما احترق. وأما مصحف المدينة ففُقد في أيام الحيرة، وهي أيام يزيد بن معاوية. ووُجِّه بالمصحف الرابع إلى العراق، وكان بالكوفة وهي يومئذ قبة الإسلام ومجمع المهاجرين والصحابة. ويقال إن ذلك المصحف فُقد في أيام المختار. ثم أمر عثمان بجمع ما جُمع من تلك المصاحف والأدراج التي جُمعت من البلاد، وغلوا له الخل وسرحوه فيه وتركوه حتى تقطع واهترى، ولم يبقَ شيء إلا متفرقاً، مثلما قيل عن سورة النور إنها كانت أطول من سورة البقرة، وكما قيل إن سورة الأحزاب مبتورة ليست بتمامها، وكذلك قالوا في التوبة إنها لم يوجد بينها وبين الأنفال فصل يعرف، فلم يفصلوهما بسطر بسم الله الرحمن الرحيم، ومثل قول ابن مسعود في المعوَّذتين لما أثبتوهما في المصحف: لا تزيدوا فيه ما ليس منه . ومثل قول عمر على المنبر: لا يقولُنّ أحد إن آية الرجم ليست في كتاب الله، فإنّا كنا نقرأ والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة . فلولا أن يُقال عمر قد زاد القرآن ما ليس فيه لزدتُها فيه بيدي . ومثل قوله في آخر خطبة خطبها: إني لا أعلم أن أحداً قال إن المتعة ليست في كتاب الله، بل قد كنا نقرأ آية المتعة، ولكنها سقطت. فلا جزى الله من أسقطها خيراً، فإنه أؤتُمن فما أدَّى الأمانة، ولا نصح الله ولا رسوله، فقد أسقط المموَّه عليه من القرآن شيئاً كثيراً . وقوله أيضاً: وما كان عليه أن يرخّص الله للناس، وإنما بعث محمداً بالدين الواسع . وقال أبيّ بن كعب: سورتان كانوا يقرأونهما فيه، وإنما قال هذا في التأليف الأول، ولم يدرك هذا التأليف، وهما سورتا القنوت والوتر، وهما: اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونتوكل عليك إلى آخر الوتر. وكذلك آية المتعة فإن علياً كان أسقطها وقال إنه سمع رجلاً يقرأها على عهده فدعاه وضربه بالسوط، وأمر الناس ألاَّ يقرأها أحد، فكان هذا بعض ما شنَّعت به عليه عائشة يوم الجمل، وقد دخلت منزل عبد الله بن خلف الخزاعي، فقالت في بعض قولها: إنه يجلد على القرآن ويضرب عليه وينهى عنه وقد بدَّل وحرَّف . وبقي مصحف عبد الله بن مسعود عنده فهو يُتوارث إلى الساعة، وكذلك مصحف علي بن أبي طالب عند أهله. ثم أن الحجاج بن يوسف لم يدع مصحفاً إلا جمعه وأسقط منه أشياء كثيرة ذكروا أنها كانت نزلت في بني أمية بأسماء قومٍ، وفي بني العباس بأسماء قومٍ، وزاد فيه أشياء: وكتبت نسخ بتأليف ما أراد الحجاج في ستة مصاحف، فوُجّه واحد إلى مصر وآخر إلى الشام وآخر إلى المدينة وآخر إلى مكة وآخر إلى الكوفة وآخر إلى البصرة، وعمد إلى المصاحف المتقدمة فغلى لها الزيت وسرَّحها فيه فتقطعت، كما فعل عثمان.
والدليل على ما كتبنا أنك الرجل الذي قرأ كتب الله المنزلة، وأنت تعلم أن الأيدي الكثيرة تداولت كتابك واختلفت فيه الآراء وزيد فيه ونقص منه، وكلٌّ قال ووضع ما أراد وأسقط ما كره. أفهذه عندك شروط كتب الله المنزلة سيما وصاحبك أعرابي جلْف، فخطر خاطر في قلبه فسجَعه بلسانه وصار به إلى قوم بَدْوٍ فتقرَّب به إليهم، وهم يشهدون في كتابهم أن الأعراب أشد كفراً ونفاقاً؟ وكيف يُؤخذ سرّ الله ووحيه وتنزيله على نبيّه ممن هو أشد كفراً؟ وأنت تعلم ما كان بين علي وأبي بكر وعمر وعثمان من العداوة، فقد زاد هؤلاء ونقصوا، وزاد هذا ونقص. وإنما كان كل واحد منهم يريد الخلاف على صاحبه. فمن أين نعلم أي الأقوال هو الصحيح؟ وكيف يمكن أن تميّزه من السقيم، وقد زاد فيه الحجاج ونقص منه؟ وأنت عارفٌ بمذهب الحجاج في جميع أموره. فكيف تأمنه على كتاب الله، وقد كان الرجل الذي يتقرب إلى بني أمية بكل ما يجد إليه سبيلاً؟ هذا وقد خالطهم اليهود، وكان بعضهم منافقين دسوا في كتاب صاحبك مكراً منهم وخديعةً للفساد، وتدبّراً منهم عليهم ليبطلوا أمر المسلمين. ولولا أنك الرجل الذي قرأ كتب الله ودرسها حق دراستها، وأن الإنصاف أصل شيمتك، لما شرحنا لك هذا الشرح. والحق فيه بعض مرارة عاجلة وحلاوة كثيرة آجلة، فلهذا السبب قد اكتفينا بما ذكرناه. فاصبر للمرارة اليسيرة من الدواء تعقبك حلاوةٌ كثيرة في العاقبة.
وأنت تعلم أننا لم نكتب إليك بشيء من ذات أنفسنا، ولم نثبت إلا الصحيح مما نقلَتْهُ رُواتكم العُدول عندكم، المأخوذ بقولهم، المعوَّل في الدين على ما نقلوه من هذه الأخبار وغيرها في صحتها، وأنهم لم يزيدوا ولا مالوا إلى أحد الفريقين.
فأخبرني أصلحك الله عن قول صاحبك قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ والْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (سورة الإسراء 17:88). أفتقول أفصح ألفاظاً منه؟ فجوابنا لك في هذا: نعم. أفصح منه كلام اليونانية عند الروم، والزوبة عند أهل فارس، والسريانية عند أهل الرها والسريانيين، وعبرانية بيت المقدس عند العبرانيين، فإن كل لسان له كلام فصيح عند أهله من سائر الألسن، ولهم ألفاظ فصيحة يتخاطبون بها، وهي عندك كلها أعجمية. كما أن لسانك العربي الفصيح أعجمي عندهم. هذا إذا أطلقنا قولك إن كتابك أفصح ألفاظاً بالعربية، فصاحب فصاحة الألفاظ هو الذي لا يحتاج إلى استعارة ألفاظ غيره، ولا يستعين بها في خُطبه وكلامه، بل يكون مستغنياً بمعرفته وفصاحته عن لسان غيره. ونحن نرى صاحبك قد افتقر في كتابه إلى استعمال كلمات غيره، وهو القائل: إنا أنزلناه قرآناً عربياً ولكنه استعان من الفارسيّة بالإستبرق وسندس وأباريق ونمارق، ومن الحبشيّة المشكاة وهي الكوة، ومثل هذا كثير قد استعمله في كتابه. فنقول إن العربية ضاقت عليه فلم يكن فيها من الاتساع ما ألجأه إلى لسان غيره في هذه الأشياء، سيما وأنت ترى أنها مُنزلة من عند رب العالمين على يد جبريل الملك الأمين. فأنت توقع النقص بالمرسِل أو بالرسول. فإن كان من عند صاحبك فوقع النقص به لأنه لم يكن يعرف هذه الأسماء بالعربية، فلذلك أعجزته. فهذه ألفاظ امرء القيس وغيره من الشعراء والفصحاء المتقدمين والمتأخرين الذين لا يُحصى عددهم، وكلام الخطباء والبلغاء الذين كانوا قبل مجيء صاحبك أفصح ألفاظاً منه وأرق وأدق معانٍ بإقراره لأهلها حيث حاجّوه فقطعوه فقال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (سورة الزخرف 43:58) لأنهم خصموه فكانوا خصماً بأصحّ حجة. وكانوا أبلغ في الخطابة منه، وهو القائل إن من البيان لسحراً فلا يخلو إذاً أمر هذا الكتاب مما وُضع فيه من الألفاظ الأعجمية من أن يكون قد ضاق على صاحبك اللسان العربي، مع علمنا أن لساننا العربي أوسع الألسن كلها.
أو أن يكون قد أُدخلت فيه الزيادة من قوم آخرين، كما ذكرنا لك في أصل خبره، وأن الأيادي الكثيرة قد تداولته. فأخبرني أي القولين أحببت، فإنه لا محيص لك من أن تقول بأحدهما، وأنت عارف بنتيجة ذلك إذا قلتَه. فإن قلتَ إنهم لا يقدرون أن يأتوا بمثل تنضيده وترصيعه، قلنا لك إن تنضيد الشعراء لشعرهم ووزنهم له الوزن الصحيح الذي هو أصعب وأدق معنى، واختيار الألفاظ النقية الصافية العربية الخالصة مع اتساق المعنى الحسن أكمل في الأحكام وأصح في الصنعة، لأن كتابك كله سجعٌ منكسر وكلام مختلف وتكبير معانٍ لا معنى لها. فإن قلتَ: بل هو أصح معاني، سألناك: أي معنى جديد ظفرت به فيه، نتعلمه منك! وأي معنى صحيح وجدته فيه، فأوقفنا عليه! وأي خبرٍ لم نسمعه على غاية التمام والكمال من الشرح والصحة في الكتب المتقدمة، أَفْدنا منه؟
لقد عمل مسيلمة الحنيفي والأسود العنسي وطليحة بن خويلد الأسدي وغيرهم مثلما عمل صاحبك. وأشهد أني قرأت مصحفاً لمسيلمة لو ظهر لأصحابك لردَّ أكثرهم، إلا أنه لم يتهيأ لهؤلاء أنصارٌ مثلما تهيّأ لصاحبك.
مكتوب على العرش
وأما قولك إنه مكتوب على العرش لا إله إلا الله. محمد رسول الله فلقد كثُر تعجُّبي منك. كيف أمكن أن تتصور مثل هذا أنه صحيح حتى ترويه وتكتب به إلى مثلي من أهل اليقين وصحة الانتقاد، لأنك في حكمتك لم تترك شيئاً لليهود الذين يحدّون الله ربَّهم أنه جالس على عرشٍ محدود، فلم ترض أن أجلسته على عرش محدود حتى تكتب على العرش اسمه واسم آخر من خَلْقه. هل هو الذي كتب ذلك الكتاب أم كُتب له؟ ولمَ كتب ذلك؟ هل لنفسه لئلا ينسى اسمه، أم لتعرفه الملائكة؟ فليس لها حاجة إلى أن يكون لها كتاب نصب أعينها يذكّرها لئلا تنسى اسم خالقها، وهي تسبّح اسمه وتقدسه من غير انقطاع، وتنفّذ أمره في كل لحظة. وإن كان كتب ذلك للناس، فهم غير منتفعين به، لأنهم لم يروا ذلك العرش ولا قرأوا ما عليه من الكتابة! فإنْ قلت إن ذلك كُتب ليُقرأ يوم القيامة، فأقم لنا دليلاً على ذلك، فإنك تعلم أن الناس كلهم يوم القيامة يُعطَون المعرفة الكاملة بخالقهم، ويحصلون على اليقين الصحيح، يوم تُجزَى كلُّ نفسٍ بما كسبت. فإن صدَقْت نفسك علمت حقاً أن هذا محال، لا معنى له، ولا منفعة. وإن الله في حكمته لا يفعل المحال وما ليس له معنى. وقد وجدنا إجماعكم على أن الرجل إذا قام خطيباً فيكم يبالغ في دعائه ويظن في نفسه أنه قد بلغ الغاية القصوى في خطبته، فيفتح كلامه قائلاً: اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم فأراك ظننت أنك قد بالغت له في الدعاء والصلاة عليه إذ تمنيَّت له أن يصير مثل إبراهيم وكأحد آل إبراهيم، فهذا نهاية الشناعة أن رجلاً اسمه مع اسم الله جلَّ ذكره وتقدَّست أسماؤه مكتوب على العرش من نور، وأن آدم بل الدنيا كلها إنما خُلقت بسببه كزعمكم، تتمنى له اللحاق برجل من آل إبراهيم! وكتابك يشهد في عدة مواضع قائلاً: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (سورة البقرة 2:47 ، 122) فقد وجب عليك في هذا القول إن بني إسرائيل أفضل منك وممن ذكرته بالفضائل.
ما دعوتني إليه
وأما ما دعوتني إليه من الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان، فالجواب في ذلك إقرارك في ما كتبته من أمر صلواتنا وصومنا ومواظبتنا، فقد رأيت ذلك معاينةً وسمعتَهُ وشاهدتَ تلك الأمور الإلهية المخالفة لما دعوتني إليه من الأمور المبهرجة. فاكْتفِ بما رأيت، وليكن لك دليلاً وجواباً. فلست أجيبك في هذا بأكثر مما عندك من المعرفة، وكفاك بذلك حجة عند نفسك.
وأما قولك أن نستعمل الوضوء ونغتسل من الجنابة ونختتن لنقيم سُنَّة أبينا إبراهيم، فجوابه قول المسيح لما سأله اليهود لماذا لا يغتسل تلاميذه: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الْإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، ل كِنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الْإِنْسَانَ. إِنْ كَانَ لِأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ . وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ عَنِ الْمَثَلِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَفَأَنْتُمْ أَيْضاً هكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الْإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى الْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْخَلَاءِ، وَذ لِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ الْأَطْعِمَةِ . ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ ذ لِكَ يُنَجِّسُ الْإِنْسَانَ. لِأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ،تَخْرُجُ الْأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. جَمِيعُ ه ذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الْإِنْسَانَ (مرقس 7:15-23).
وما معنى غسل اليدين والرجلين والقيام على الصلاة وقد صمّم الإنسان على قتل الناس وسلْب أموالهم وسبي ذراريهم؟ إنما ينبغي للإنسان أولاً أن يغسل داخل قلبه ويطهره من الأفكار الرديئة. وإذا نظفَتْ نيّته وطهر ضميره من ذلك الاعتقاد الرديء حينئذ يغسل ظاهر بدنه بالماء. فميِّزْ هذا القول وانظر فيه بعقلك. أليس هو قول مقنع وجواب شافٍ؟
وأما الختان فينبغي لك أولاً أن تعلم قصته، ثم تحثّ الناس على أن يمتثلوا سُنَّة إبراهيم أبيهم. فإن الله لما كان مُزمعاً أن يُدخل بني إسرائيل (الذين هم نسل إبراهيم) أرض مصر، وهو يعلم أن الشرّ سيحملهم على ارتكاب الزنا، جعل هذا سبباً لحفظهم منه، فالمصرية التي ترى علامة الختان في جسد اليهودي تمتنع وترفض. فكيف تحث الناس على الختان وأنت تعلم أن صاحبك لم يختتن على ما نقلت الرُّواة عنه أنه لم يكن مختوناً بتَّةً ، لأنهم شبَّهوه بآدم أبي البشر وشيث ونوح وحنظلة بن أبي صفوان؟ فإن قلت إن المسيح قد اختتن، قلنا لك قد اختتن لإقامة سُنَّة التوراة لئلا يحسبوه قد استخفَّ أو أنقص شيئاً من سُننها، فأكد ذلك بقوله: لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الْأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ (متى 5:17) وكذلك قال الرسول بولس: فَإِنَّ الْخِتَانَ يَنْفَعُ إِنْ عَمِلْتَ بِالنَّامُوسِ. وَل كِنْ إِنْ كُنْتَ مُتَعَدِّياً النَّامُوسَ، فَقَدْ صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً! إِذاً إِنْ كَانَ الْأَغْرَلُ يَحْفَظُ أَحْكَامَ النَّامُوسِ، أَفَمَا تُحْسَبُ غُرْلَتُهُ خِتَاناً؟ وَتَكُونُ الْغُرْلَةُ الَّتِي مِنَ الطَّبِيعَةِ، وَهِيَ تُكَمِّلُ النَّامُوسَ، تَدِينُكَ أَنْتَ الَّذِي فِي الْكِتَابِ والْخِتَانِ تَتَعَدَّى النَّامُوسَ؟ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّ فِي الظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً، وَلَا الْخِتَانُ الَّذِي فِي الظَّاهِرِ فِي اللَّحْمِ خِتَاناً، بَلِ الْيَهُودِيُّ فِي الْخَفَاءِ هُوَ الْيَهُودِيُّ، وَخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ لَا بِالْكِتَابِ هُوَ الْخِتَانُ، الَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللّ هِ (رومية 2:25-29).
فإن أنصفتنا علمت أن الختان ليس عليك فريضة واجبة، لأن كتابك لا يذكر أن الختان شريعة واجبة، وإنما هو سنَّة، من شاء عمل بها ومن شاء لم يعمل بها. ومن اختتن من أصحابنا وأسبغ الوضوء واغتسل من الجنابة فلا يفعل ذلك لأنه سنّة وفريضة، بل يفعله على سبيل العادة الجارية عند أهل الزمان للنظافة الظاهرة لا غير، لعِلْمنا أن من تغوَّط كان أحق أن يُفيض عليه الماء السابغ بالغسل بقدر ما يخرج منه نتن الرائحة وقبيح المنظر، بخلاف من تصيبه الجنابة التي لا لون لها منكر ولا رائحة منتنة، بل يتولّد منها إنسان كامل المعرفة والعقل والعلم، يكون منه النبي المرسَل والملك المتسلّط والحكيم الناقد والعبد الصالح المسبِّح لله ليلاً ونهاراً. وكذلك يفعل من اجتنب منّا أكل لحم الخنزير كاجتنابه أكل لحوم الحمير والجمال، لأن ذلك غير محرَّم عليه، لأن الله لم يخلق شيئاً قبيحاً كقوله في التوراة: وَرَأَى اللّ هُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً (تكوين 1:31). أفأجترئ أنا وأقول عن شيء خلقه إنه قبيح أو حرام؟ إذاً أكون معانداً لله مقاوماً ما خلقه واستحسنه! ومعاذ الله أن أكون لربي معانداً، بل كل ما خلقه الله مما تقبله نفسي ويجوز لي في طبيعتي آكله، فهو مطلق لي
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |