من قصص الانتفاضة / عصا وكفن عمر حمّش ـ بيضاء مثل القمر غريب عسقلاني
2007-12-27
عصا وكفن ــ عمر حمّش
المخيم يرتفع وينخفض، ينفرد وينقبض، يدور يدور، ويصرخ هاويا على الرأس الهرم، الشوارع تموج تحت الأقدام، والفراغ يمتلئ، يتعبأ بالهتاف يهتزّ الرأس الثقيل بعينيه المطفأتين :
- أين أنت يا رشيد؟
البيت يتراقص، والأصابع في الفراغ تتباعد، تتلمس للجسد الأعمى الطريق.
أين الجدار؟ المخيم ناس، وجنود،وحجارة، ورصاص، جريّ ولحاق،و نار تجتاح الأزقة، والزوايا، والعتبات، قبضات في الهواء، وحلوق تكتوي بالزعيق واللهاث، المخيم رقص مجنون ، في مسرح يتجشأ نارا، ويفرش التراب بالقتلى والمصابين، يقفل المخيم مداخله ويفتحها، وأزقته فوهات تطلق آدميين.
الجسد الأعمى يتحرك، يصرخ على الشارع من خلف الباب
- يارشيد .
كان علي رشيد أن يبقى، يمسك اليد العجفاء ويمضى، يوصل الجد حيث مقر الروح، يجنبه شرّ العثرة بحواف ويوصله كالعادة إلى القبر، هذا قبره يا جدي، تتلمس يداه رأس القبر، بالضبط هذا رأسه، يرتخي الجسد، يتقرّب إلى الشاهد ويحضنه، هذا أنت ياولدي، القبور، يتربع الظهر، يأتي ويروح، ينطبق الجفنان، وتزول الحدقتان، وينفرج الفم المتحطب العجوز:
... ياسين والقرآن الحكيم .. انك لمن المرسلين ..
يروح الجدّ بعيدا، يهتزّ غائبا، رائحا غاديا على رأس القبر.
المخيم يتقلب في فرن، الشوارع تتسع، وتضيق، المخيم ينفجر، والجدّ المنحنى فوق العصا لا زال يدور، يصل الباب ويفتحه :
- يا رشيد .
رشيد لا يجيب، رشيد بعيد، لا مقبرة اليوم ، لن يدفأ حضنك برأس القبر، ولدك وحده يجلس فيه، وينبهر، يتحرك داخله ويقف، يجرى، ويقترب، عيناه تصافحانك، تخبره:
- صغيرك اليوم قفز!
وتدور، ترقص في باب الدار مع الراقصين، تلوح بالعصا، لمن تلوح ؟ لعرب أم ليهود؟ ظهرك المنحنى يرقص كولد في العشرين، صرت تصول وتجول وتنادي:
- أين الصغير؟
أبوه نقل القبر، قشّره وخرج الآخر يدور، حمل الكفن وصار يلوح، تتقابلان وتلوحان، عصا معقوفة، وكفن يتراقص أجمل من منديل .
المخيم يشعل أركانه ويتلوى، يشوى الجارين ويزأر، جدران الطوب تتحرك، والدنيا عدوّ نشط بين البساطير والنار .
- عليهم .
هتف رشيد في الحشد الجاري، عدت قدماه العاريتان في الرمل، الولد صغير عليه وحل عالق، يقع، ويتدحرج، ويقف، يتكور خلف جدار ، يهبّ بعيدا عن أعين بسطار، للولد ذراعان مثل عودين، وفي العودين أصابع تضغط حجارة، وتصوّب .
حجارة رشيد حادة بحواف، حجارته سكاكين تنغرز، دم بدم، دم أبيك أعزّ.
أبوك سقط قبيل تسابيح الفجر .
قال الجدّ: غطى أبوك رفاقه وسقط .
وقال الجدّ: سقط بعد آخر حبة في المشط .
دم أبيك طوفان تحت الجلد.
الجدّ عند الباب يتخلى عن رقصته، ويوقف عصاه اللوّاحة، ينصت لنداء في الشارع، صيحة مخنوقة من حلق صغير،عاد الجدّ يحلّق بذراعيه وعصاه ويصيح.
ساقاه تهتزّان ويصيح:
- أين أنت؟
القلب يخفق، الذراعان تضربان الهواء، والصّدر يعدو كالحريق.
- يا ..رشيد
هاج الجدّ كطائر وجد فرخه.
ضغط الجدّ، ضغط، لهث فوق الرأس الناعم، وأصابعه تلهفت على العمود الفقري الرفيع .
- ابعد يا حمار .
ذراعا الجدّ تنضغطان، الساقان تنضغطان، الرأس يدفع الأجساد، يتقوّس الظهر أكثر،تبرز عظامه أكثر .
- يا ولدى .
- ابعد يا حمار .
الولد يغوص في الجدّ، والجدّ كهف لحمىّ تأتيه اللكمات، والرّفسات والأعقاب، تدكّ الحصن المستعصي، تقصفه طويلا، بالأيدي والأرجل والأسنان .
يهوى الجدّ بلا أنين، بلا صراخ ولا همس، فكّّوا حضنه وجرّوا الصبيّ، والجد تكوم شاخصا .
عمر حمّش
قاصّ وروائيّ من غزة...
بيضاء مثل القمر ـ غريب عسقلاني
القصف يمطر المدينة
وغزة تنصت للهدير, وطائرات الأباتشي ترقص جائعة تترصد صيدا, تقف معلقة, تقصف خبرا عاجلا, والحصاد موت.
هي تتذكر جيدا.. كان الوقت موعد قصف, لا تتذكر كيف بدأ الحوار, ولكنها لا تنسى كيف انتهى وكيف تحول رجلها الوسيم إلى ثور جامح جائع, شدقاه طافحان بزبد أصفر, يأكل نصف الكلام ويقذف النصف ألآخر قصفا:
- اخرجي من حياتي
مسمرة تتأمله,عيناها كرتان من زجاج.. كيف تختزن الوداعة والوسامة القدرة على القتل, ابنها وابنتها يلتصقان بها.. رشقته صارمة وقد اختارت قسمة عادلة :
- الأولاد معي..اخرج أنت ..
الرغوة حول فمه تتحول من الأصفر إلى الرمادي, تسقط على بلاط الصالة مع لهاث جاف, يتشقق البلاط.. يتفتت إلى رمل ناعم يسحبها إلى بطن زوبعة متوحشة معبأة برؤوس ثعابين تبخ لعنة وعتمة لزجة..
لم يأتِ في الخبر العاجل أنها وقعت مغشيا عليها, وصحت مغسولة بعرق يغلي, يدها باردة في كف ابنها الشاخص إلى أبيه المصلوب في الزاوية تمثال من شمع.
الطبيب يقلب في نتائج التحاليل, تبدو عليه علامات الارتياح, يمسح عن جبينها العرق ويهمس بإبوّ’:
- الانفعال الزائد يؤثر على صحتكِ ويضر بالجنين..
تأخذها الدهشة, تحدق في الوجوه من حولها.. الوجوه مرايا صافية. فضة تسكنها أميرة.. مرآة في الزاوية لا تسكنها الأميرة..
***
بعد قصف.. بعد عصف.. وبعد صيام سنين هي حامل, لم تخذلها التحاليل ولم تخذله, كل مرة تخذل الطبيب فيقف عاجزا عن تفسير عدم استجابة البويضة للاندماج.. وفي كل مرة تأخذها أمها إلى حضنها:
- مازلتِ صغيرة يا ابنتي.. اهتمي بالولد والبنت, عندما يأذن الله يقول للشيء كن فيكون.
في البداية لم يكترث, واعتبر الأمر تحديدا طبيعيا يوفر عذابات الموانع الصناعية, ولد وبنت وزوجة جميلة مطيعة غاية المرام, لكن أمه لم تتوقف عن النواح:
- ابن الصبا لا يعوض, يسند أباه في الكبر, ويشد من عضد أخيه..
كبر الولد, وكبرت البنت, ولم تتغير نتائج التحاليل, زحف الشيب إلى فوديه, وتبدلت أحواله, يمضي الليل مستلقيا على ظهره محدقا في السقف مهموما, تنام على صدره. تهمس:
- لنجريَ فحوصا جديدة في مختبر آخر.
- نفس النتائج.
- لنسافر إلى طبيب أكثر علما.
- لا مشكلة في الأصل.
- ماذا بيدنا نفعله!
- أريد ولدا..
تبتلع غصة, تتصنع المداعبة والدلال:
- وأنا أريد بنتا حلوة مثل أمها
- ولماذا لا يكون ولدا؟
- حتى لا يحمل تكشيرة أبيه.
تشتهيه راغبة, فيأخذها كمن يقوم بمهمة مكلف بها.. ما الذي غيره.. ما الذي يجعله في الزاوية بلا مرآة..
في البيت وقف الولد سد عليه باب الحجرة :
- كفى يا أبي..أمي لا تتحمل الانفعال..
فوجئ الولد بصفعة تشوي لحم وجهه:
- إخرس.
دمعة الصبي حفرت مجراها على خده, فيما الاباتشي تذرع السماء تحدد أهدافا للقصف..حدثت نفسها:
"هل يشعر الجنين بالقصف.؟"
***
كل مرة يذكرها بموعد مراجعة الطبيب, وفي كل مرة لا يرافقها, هذه المرة يبدي رغبة واضحة, فالحمل دخل الشهر الرابع, والجنين ربما يعلن عن هويته.. حدقت في وجهه.. رأته في مرآة مقعرة تعكس صور مصغرة مضغوطة, ثمة سيدة تحمل بعض ملامحها, قبل أن يأخذها الذعر تذكرت درس العلوم القديم عن " المرايا المقعرة تعكس صورا تقديرية مصغرة ناتجة تلاقي امتداد الأشعة المنعكسة .." الأشعة المنعكسة على مرآته تتلاقى في الوهم.. خيل لها طفلا مشنوقا يتأرجح في زاوية العين..
كان السكون يتربع بينهما يقطعه هدير الأباتشي, ثمة قصف بعيد سألت:
- أين القصف؟
- لا تجزعي..بعيدً عن عيادة الطبيب
الطبيب يرصد الصورة على الشاشة, يقضم شفتيه عن ابتسامة رائقة مرتاحة, طمأنها على الحمل, وطلب منها الاهتمام بصحتها وتشاغل قليلا قبل أن يجيب على السؤال المعلق:
- وضع الجنين لا يسمح بتحديد جنسه, مشاغب يخفي عورته.
في طريق العودة تشبث بمقود السيارة كمن يروض فرسا حرون.. وفي البيت تعلقت البنت برقبته, هتفت مشاغبة:
- أنا عارفه..هي بنت..
نتر ذراعيها ساخطا:
- لا ولد ولا بنت....
البنت تمعن في المشاغبة تضع أذنها على بطن أمها وتنادي على أخيها:
- تعال اسمع ..بنت..
تبدو على الولد سيماء رجولة مبكرة, يفكر بالقادمة والحاضرة المشاغبة, وتذكر حديث جدته لأبيه "عن النساء الناقصات عقل ودين" ونفى أن تكون أخته منهن, لأنها لم تصبح امرأة بعد, ولأنها متفوقة في المدرسة, فهل تقصد جدته العجائز مثلها..سأل:
- أين أبي ؟
- عند أمه.
- ربنا يستر
قالها بنبرة رجل تعذبه المسؤولية.. أخذته إلى حضنها, حدقت في عينيه وبكت فوقع في الحيرة والدهشة:
- لماذا تبكي يا أمي..
***
قُصف بيت الجيران, القنبلة الذكية أو الغبية أصابت حجرة العريس الذي يعمل مع المقاومة, وحرقت مع ما حرقت فستان زفاف العروس التي حملت في ليلتها الأولى.
رجع الولد والبنت من الحارة, سألت:
- كيف العروس؟
ردت البنت:
- تضحك..العروس دائما تضحك.
ومررت كفها على بطن أمها وانحدرت مع التكور..قالت:
- أنتِِ عروس
- ...
- أنتِ حامل, هل تقصف الطائرات بيتنا..
القصف لا يشاور, نظرت إلى عين الصغيرة ورأت كيف يتحول الرمادي الهادئ إلى صفاء مرج أخضر, وكيف تصبح الطفلة وردة.. أرعش جلد بطنها وتموجت داخلها ريح تحمل روح.
وفي الليل زفت إليه الخبر:
- اليوم تحرك الجنين.
أنصت باهتمام, أخذت يده بين كفيها..كانت بارة..
***
..قطار الرحلة يدخل بوابة الشهر التاسع, والجنين لا يكشف عن سره, قالت أمها:
"الحمل بالأولاد أكثر راحة من الحمل بالبنات"
وقالت أمه:
"حركة البنات أكثر من حركة الأولاد خلال الحمل"
فجأة أعلن التلفاز عن خبر عاجل
"الزوارق الحربية تقصف المصطافين على شاطئ جباليا" وطفلة ترفرف مثل طائر ذبيح, تعفر الرمل على وجهها, تبحث عن روح أبيها الذي أخذه الموت جثة صامتة..الجنين يتحرك بعنف.. ينتقل من زاوية لزاوية, هل يبحث عن مكان آمن.. يتوقف عن الحركة.. ربما خلد إلى النوم. ."كيف ينام الجنين..هل يزوده الحبل السري بالنعاس كما يزوده بالغذاء..؟"
يومان مرا
لم يشاغب لم تتموج داخلها الريح التي تحب.. ساورها القلق.. دلقت هواجسها أمامه.. طمأنها:
- دعكِ من الأوهام.
في اليوم الرابع هاتفت الطبيب, رد حانقا:
- تعالي إلى المستشفى فورا أنا في الانتظا.
***
مثل خبر عاجل أعلنوا موت الجنين.
صرختُ...
في الصورة أعلن الجنين عن سره,كانت بنتا تستسلم للسكون.. أمها تأخذها إلى حضنها:
- يعوضكِ الله خيرا.
قالت أمه:
- الحمد لله أنها لم تكن ولدا
الطبيب يكتب التقرير عن الحالة, وعند تحديد سبب الوفاة توقف, ثم كتب السبب غير معروف.وقرر:
- بعد أربعة أيام تتم الولادة..
***
أربعة أيام شاخصة في فضاء بعيد, النوم/الموت والميلاد بدون صرخة حياة.. لو تظل العمر مستلقية تهيئ للطفلة نوما مريحا.. ترعبها فكرة أن تصبح قبرا والطفلة ما زالت موصولة بها بالحبل السري تأخذ من دمها.. هل ينقل الدم الموت.. كيف يكون الموت في رحم حي.. هل تنهش الديدان لحم الطفلة الطري.. وهل ما سيحدث ولادة أم إجهاض أو قذف طرح..
"لماذا ذهبتِ يا ابنتي بعد طول انتظار.."
وبعد طول انتظار وحقنة طاردة, انزلقت مثل سمكة. طفلة بيضاء مثل القمر, شعرها فاحم مثل ليل, عيناها بلون زرقة بحر, ودت لو تقبلها لكن الطفلة اعتذرت ..
متى يعتذر الطفل عن قبلة أمه..؟؟
سألها الطبيب يتأكد من يقين جازم:
- كيف كانت حركتها قبل السكون؟
- حركة مذعورة وسريعة
- حركة عشوائية جعلت الحبل السري يلتف على رقبتها ويخنقها..
همس معتذرا, وقد أسقط في يده :
- كم حذرتكِ من الانفعال الزائد
***
في خبر عاجل, أعلن المذيع عن سقوط ثمانية شهداء, حصاد القصف
تمتمت معاتبة.
" ثمانية شهداء وطفلة بيضاء مثل القمر,شعرها فاحم مثل ليل, عيناها بزرقة بحر هادئ"
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |