ثلاث قراءات في ديوان "معجمٌ بكِ"
2008-07-09
د. بطرس دلّة / راوية بربارة / ريتا عودة
أيُّها الشَّاعرُ العَاشقُ الشَّقيُّ
د. بطرس دلّة
"محتشدًا بالصُّور الموحشة، ولذاذات الخلق الشعري، هذا هو الشاعر محمد حلمي الريشة في انثيالاته الكتابية، واحتراقه في محترق القصيدة."
(مراد السّوداني)
قرأت هذه المجموعة الشعرية مرَّتين: المرَّة الأولى كانت قراءةً عابرةً وسريعةً، والمرَّة الثانية كانت بمصاحبة القلم.
حيَّرتني هذه المجموعة لأنها مجموعةٌ غيرُ عاديةٍ! مجموعة يلهثُ فيه الشاعرُ كثيرًا وراء الكلمات ذاتِ المضامين الغريبة مستغِلاًّ ثَروتَه اللغويَّة، ووسائل البلاغة المختلفة من بيانٍ إلى بديعٍ، ليصوغَ لنا شعرًا ذا إيقاعٍ موسيقيٍّ جميلٍ، ومقطوعاتٍ نثريَّة ذات شاعريَّةٍ، لأن كلماته النثريَّة تُفجِّرُ شاعريته إلى الأجملِ والأروع؛ فهو بين قصيدةٍ وأخرى، وبين مقطوعةٍ وأخرى، يتألَّق في سماء الإبداع فيأتينا بالغريب والجديد في محاولةٍ منه لأن يقول شيئًا لم يقُلْه غيرهُ من الشعراء المجيدين؛ فقراءةٌ مُتمعِّنةٌ في نصوص هذا الكتاب- المجموعة، تجعلنا نشعر أننا إزاء شاعرٍ متمرِّسٍ في الكتابة، شاعرٍ ذي ذائقةٍ فنيَّةٍ وموسيقيَّةٍ حيث يُمَوسِقُ الكلمات، ويُكسِبها رونقًا خاصًّا، ومعانيَ أبعدَ من مدلولاتها الحرفيَّة، ويلجأ أحيانًا إلى إدخال أل التعريف على الأفعال، كما يلجأ إلى إضافة الصِّفات إلى الأفعال، وهو أمرٌ لم يَسْبق لنا أن تعرَّفنا إليه إلاَّ لدى القليلين من شعراء الحداثة.. هكذا يقول في (ص 15) من المجموعة:
كُلُّ لَوْنِ عَطَشٍ
بَيْنَ
مَدَى
مِعْرَاجِنَا
يُمْحَى بِرِيشَةِ مَاءٍ
مَغْمُوسَةٍ
بِصَرْخَةٍ
تَ تَ عَ رَّ ى
فكيف نغمسُ الريشةَ بماء صرخةٍ تتعرَّى؟!
وفي (ص 16) يكتب:
أَيَّةُ مُوسِيقَى سَائِلَةٍ الْآنَ
تَتَخَارَقُ إِنَاءَيْنَا
تَتَشَاسَعُ دَائِخَةَ تَجَلٍّ
كَسَكْرَانِ وَابِلِ تُفَّاحَةٍ لَا تَكُفُّ
كَأَنَّهَا صَبَاحُ نُعَاسٍ
أَوْ
لَيْلَةٌ هَشَّةُ سُدُولٍ
هُنَا
نُقَارِبُنَا إِلَيْنَا بَعْدَ نِصْفِ تَقْشِيرٍ
وَنَعْتَصِرُنَا
قَطْرَةً كَامِلَةً
فكيف يكون الفاعل مفعولاً به؟!
أيها الشاعر الكبير، لك ميراثٌ عظيمٌ في الشعر والنثر، لذلك نرى فيك نجمًا ساطعًا مُعبَّئًا بالتباشير النديَّة نحو فجرٍ هو الأجملُ والأروعُ آتيًا من بعيدٍ، تدغدغهُ أحلامُك الكبيرةُ عندما تَنضُجُ كلماتُك وكتاباتُك وإبداعاتُك على الأوراق البيضاء، فترتَسمُ البسماتُ على الشِّفاه، وتصحو الذاكرةُ العربيَّة لأنَّ ما تُبدِعهُ هو خُبزُ الحياة! ذلك الخبزُ مصنوعٌ من حبَّات القمح الذهبيَّة التي تُعبِّئُ السنابلَ الخارجةَ من حقول فلاَّحينا الذين طوَّعوا الصخرَ، وطحنوه بسواعِدهمُ القويَّة في عشقٍ مُتوِّهجٍ للأرضِ والوطن.
هذه المقدّمة هي تعبيرٌ صادقٌ عمَّا يجيشُ في الصدر من عواملَ جيَّاشةٍ تجاه شخصِ الشاعر الكريم! فأنت، يا أخي محمد، تحلِّق في سماءِ الكلمة بغير حدودٍ، وتُموسِق أبياتَك بموسيقى كما السيمفونيَّات الرائعة، تُؤنِّثها وتُذكِّرها حتى يتداخلَ المذكَّرُ بالمؤنَّث في شقاوةٍ مفصودةٍ، لأنك ترى معشوقتك كما ترى نفسَك كتابًا واحدًا وبورقةٍ واحدةٍ موضوعها واحدٌ هو: أُحِبُّكِ! فعجمُ القصيدةِ هو كلماتُها، ومعجمُ الحبِّ هو ارتعاشاتهُ التَتَحرَّكُ في مهبِّ الريح حتى لا تتركُ شرشفَ الغبار يُملِي عليها إقامتَهُ!
وإذا ما جنحَ صوتُها- أي الحبيبة- إلى أُذنك بصيغة الآهِ، تَساقَطْتَ فوق بَينِكَ بكلِّ وضوحِ الشَّغف إلى صورتها الغامضة، فكيف يكون وضوحُ الشَّغف إلى صورتها الغامضة؟!
كلماتُك، أيها الصَّديق، حُبلى بالمشاعر الجيَّاشة تجاهَ مَن تحبُّ! فهل يبدأ الليلُ منكَ عتمةَ تماهٍ بيضاءَ كي ينتهيَ نوَّارهُ فيها؟! وكيف إذًا تقدِّم لها طاقةً من ثلاثِ ورداتٍ؟! هي بلَون الحنين، وأنتَ بلَون الشَّوق، وأنتما معًا بلَون المسرَّة؟!
أكلُّ ذلك كي يقطُرَ عطشُكَ قطرةً قطرةً قطرة؟! كيف تنتقلُن لا بل تنزلقُ الكلماتُ مُموسقةً تارَّةً، ومنثورةً أخرى، فتطيرُ رشاقةُ الأثيرِ بخفَّةِ الوَلَه، ويضجُّ الشَّوقُ بتضوجِ وخزهِ كي يفرُكَ الحلمُ أسئلةَ عَينيْهِ هَرِعًا من غبشهما نحو أجوبةِ هتافٍ صافٍ؟! ألأَنَّ ثغرَها نحلةُ عسلٍ تتعسَّلُ غناءً فترشقُها انسكابَ طربٍ؟! أم لأنها تتحوَّلُ بين يديكَ إلى قيثارةٍ بتواجُدِ الوترِ تعزفهُ ضائعَ البحث عنه؟! وعندما تتصاعدُ أنفاسُها هديل ورقاءَ وسطورًا، فكيف يخرقُكَ أنينُ لهثكَ، فتخونُها معها؟!
يتراقصُ صخبُكَ من عُلوِّ نارهِ فتنطفئُ نارُك في موقد عشقِها!
أيها العاشق الشقيُّ! تنخطفُ إلى برزخِ الحُلمِ تتوقُ إلى احتضانها خصرًا وحصرًا، فتتهجَّاها لتبقى أبجديَّتُكَ، وتبقى صاديًا صبابةً تتعلَّلُ بلثغةِ الأثير أمامَ كوَّةِ السَّمعِ، أو تأتأةِ القلب حين تحبُو على شفتيها، وعلى سُندس السُّطور! فتكون هي بين يديكَ أُبَّهةً مُستكينةً، وما أروعها من أُبَّهةٍ!
فمَن هي هذه المحظوظةُ التي تتماهى فيها متوحِّشًا في لذاذاتكَ الشعريَّة ناهبًا منهوبًا، تُصدِرُ روحكَ رغوةَ الشَّوقِ والشَّبق توَّاقًا لصناعة الحياة مع تلك المعشوقة؟!
فهل هي فتاةُ أحلامِكَ الحقيقيَّة ورمز الأنوثةِ الصَّارخة، أم هي قصيدتك التي تشعر بعقدةِ عشقها ككلِّ شاعرٍ يحبُّ قصائدَهُ كما يحبُّ الأبُ أبناءَه، فتُسكنها شغافَ القلب حتى لو احترقتَ في احترافكَ لقصائدِك؟!
أنت أيها العزيزُ تُطلِق نفسَك إلى القمر والنُّجوم.. تُطلِق نفسَك إلى فوق؛ إلى ذروة جبلِ البياض، وتمسحُ طلَّكَ عن سطح بهاءِ مَن تحبُّ بفوطةِ سحابةٍ! فمن أين تأتي بكلِّ هذه الاستعارات المُنمنمة؟!
في (ص 34) تضيف تساؤلاً غريبًا خارجًا عن كلِّ مألوفٍ عندما تقولُ:
كَيْفَ صِرْنَا نُشْبِهُنَا؛
نَحْنُ اللَّذَيْنِ اخْتَزَلْنَا سِيَاجَ الْفُصُولِ/
فنَهَضَتْ لأَجْلِنَا مَنَازِلُ
الْوَرْدِ.
إن موسيقى شاعرِّيتكَ تشيرُ إلى تفجُّرِ الشَّاعريَّة من بين الكلمات، ومن حقيقة انسجامها مع بعضها!
في الصفحة التالية تُضيف، وهو أيضًا من غريب تجديداتكَ:
كَمْ تَمَنَّيْتُ لَوْ أَكْسِرُ سَاعَةَ الرَّمْلِ؛
تِلْكَ الَّتِي أَغَاظَتْ لَحْظِيَ بِسَرِقَتِهِ/
وَأَنَا جِدُّ جَعَلْتُهُ نَحْوَكِ
دَائِمًا.
فكيف أضفتَ الجِدَّ إلى الفعل؟! هل هو تحليقٌ في عالم الرَّمز والخيال أم ماذا؟ وكيف يكون بضع الأرق؟!
أنتَ أيها الشَّاعر صيَّادٌ ماهرٌ تصطاد الكلمةَ الحلوةَ لأنك تعرف أنَّ الكلامَ الجميل هو شيءٌ من الرَّقص، وعند سماعه ترقصُ قلوبُنا فرحًا ونشوةً!
أهي مبالغةٌ عندما تصطاد سربَ خيالاتها بخدشةٍ طائشةٍ، وتعجنها بمحلولِ الحنينِ؟! ثم تعود لِتَنقُرَ بأصابعكَ على صهوةِ الوقت!
الله.. ما أجملَ هذا النَّقر! وتنتقل بعدها إلى نثرنتها بانفتاحٍ يُضرِّج قماشَ وجهها!
الأنثى، يا عزيزي، هي القصيدةُ، وقد تكون الحياةَ أيضًا، ونحن لا غنى لنا عن الاثنتين! كما قد تكون فتاةَ أحلامِكَ، أو أيَّة معشوقة أخرى! مع أنك لا تشبه عمر بن ربيعة الذي قال:
سلامٌ عليها إن أرادتْ سلامنا / وإنْ لم تُرِدْ هذا السلام إلى الأخرى
فعمر هذا كان شاعرًا عابثًا، أمَّا أنتَ فلا يليق بكَ العبثُ، ولا الشَّقاوة بهذا المستوى.
أخيرًا بحثتُ في صفحات المجموعة عن الوطنيَّة والتعلِّق بالوطن، فلم أجدها صريحة إلا إذا كانت معشوقتك أرضَ الوطن فلسطين، عندئذٍ تنقلب الموازين، ويتحوَّل تفسير مضامين القصائد.. ولنا أن نفلسفَ المعاني كقرَّاء كما يحلو لنا!
لك الحياة!
· أُلقيت في قاعة إبداع بكفر ياسيف بدعوة من خيمة البادية يوم الخميس 26/06/2008).
محمد حلمي الريشة في "معجمٌ بكِ"
صهيلٌ لا تجمحُ مهرتُه إلاّ في سهلِ المخيّلةِ
راوية بربارة
"مُعْجَمٌ بكِ" للشاعر محمد حلمي الريشة؛ معجمُ حبٍّ يستنبطُ من جذرِ الشّعرِ لغةً جديدةَ المعالِم كأنثى محمد حلمي الريشة:
آنَ لِي
[ بَعْدَ انْخِطَافِي إِلَى بَرْزَخِ الْحُلُمِ ]
أَنْ أَشُدَّكَ خَصْرًا
وَحَصْرًا
نَحْوَ لُغَتِي
كَيْ أَتَهَجَّاكَ، وَتَبْقَى
أَبْجَدِيَّتِي المَالَ عَرْشُهَا
إِلَى صَوْتِ
صَادِ الصَّبَابَةِ
وَبَلِيغِ بَائِهَا
(المجموعة ص 38-39)
معجمُ علاقاتٍ تربِطُ "ما بعد" (القسم الأوّل من المجموعة) بنشوةٍ يكتنهها عاشقٌ ما شبعَ من نَهَمِ الأشواقِ.. يراودُ، لا يقطفُ ثمرةَ الحبِّ، فيظلُّ جائعًا إلى المحبوبة "ناصتًا إِلَى هِرَّةِ خُشُوعِهَا مِنْ شِدَّةِ شُبَاطِهَا".
معجمٌ بكِ؛ معجمٌ شعريٌّ يمزجُ بينَ اللغةِ والمحبوبةِ حتّى تخالَ اللغةَ روحًا والمحبوبةَ جسدًا. قصائدُ تجعلُ نبضَ شرايينها حروفًا تتدفّقُ حرفًا حرفًا، تستنزفُ دمَ القارئ الباحثِ عن تجميع الأصواتِ، لتصدحَ كلِمةٌ تنزُّ أثيرًا وطيوبًا:
لاَ وَزْنَ لِي فِي طُقُوسِ جَاذِبِيَّتِهَا المُضْمَرَةِ؛
أَ
شْ
تَ
ا
قُ
كَ
هكَذَا ..
تَدَلَّتْ حُرُوفُهَا كَانْدِلَاقِ دَالِيَةٍ
فِي حَلْقِ عَيْنَيَّ،
وَهكَذَا..
لَملَمْتُ عِنَبَ شَهْقَتِي.
(المجموعة ص 51-52)
"معجمٌ بكِ"؛ لغزٌ أفُقيُّ التركيبِ عموديّ المعنى، مثلث المبنى (ص11-17)، يتّكئُ على الانزياحاتِ اللغويّة ليَصْمدَ نَفَسًا مغايرًا في عاصفة الشّعرِ المتناثرِ في فوضى الحبر المجتاحةِ أيّامنا.
لغةٌ تتفجَّرُ بهدوءٍ.. تنثالُ شلاّلَ إضافاتٍ تَجرُّكَ لاهثًا وراءَ المضاف إليه، بعدَ أنْ تكونَ قد هيّأتَ انسيابكَ القرائيّ لِتوقُّفٍ اضطراري.
"معجمٌ بكِ"؛ كتابٌ أوراقُهُ صفحاتُ سنواتِ ما بعد وما قبل الحبِّ، سطورُهُ كانت فارغةً بوجودٍ لا معنى لهُ بدونِ تلكَ المشاعرِ الفيّاضَةِ المتدفِّقَةِ حِبْرًا يُرَطِّبُ إبهامَ محمّد حلمي الريشِة ليقلبَ الموازينَ.
كتابٌ تتشكّل فيه المعاني على هواها في صورٍ غير مسبوقةٍ لا شعرًا منثورًا ولا شعرًا مقفّى.. تتشكّل فيه الحروفُ بتكثيفٍ يختزلُ كلَّ الروابط اللّغويّة تاركًا روابطَ القلبِ ووريدَهُ وشريانَه الأورطيّ يربط الكلمات دون أسماء موصولة، فتنشغل الضّمائر بتصريف الأفعال مع ياء المتكلّم، وتنصرف ضمائر القرّاء لتصريف علاقات ممنوعة من الصّرف.
"معجم بكِ"؛ كتابٌ "طافحٌ بحروف العطف، نافرٌ بنون نسوةٍ واحدةٍ"، يلثمه محمّد صفحةً صفحةً.
"معجمٌ بكِ"، صهيلٌ لا تجمح مهرته إلاّ في سهل المخيّلةِ، لتتعبَ اللغة مِن ازدحام المشاعر، ولا يتعبُ الشّاعر من ازدحام المحبوبة واللغة اللتيْن لا تستأذنان لا باب القلب ولا باب الشِّعر...
"معجم بك"؛ انخطافٌ يشدُّ خاصرة اللغة، يتهجّاها بحرفين: صاد الصّبابة وبليغ الباء.. صبٌّ أنتَ يا شاعر.. شاعرٌ أنتَ أيّها المعجميّ.
* ألقيت في الندوة التي أقيمت بدعوة من جمعيّة إبداع – كفر ياسيف.
"معجمُ بكِ" للشاعر محمد حلمي الريشة أنموذجاً
النصّ المُناور يتطلَّبُ قارئًا مُناورًا
ريتا عودة
على عتبة عُنوانٍ جماليّ مُربِك كهذا، تضطر أن تتمهل كي تخلع عنك نظرياتك النقدية المُسبقة، ومخزونك الأدبيّ، وتتأهب لعبور الضفة الآمنة لهذا البحر الشعريّ إلى العُمق، حيثُ اللآلئ اللغوية، والصور الشعرية المبتكرة، والأمواج الشعريّة المتمايزة.
يعتقلك عُنوان الكتاب فتتورط به.. تدركُ أنَّ هذا الأفق الشعريّ لن يمتدّ كالسهل أمام خطواتك، بل يتوجب عليك أن تجتهد؛ تطرح التساؤلات.. تبحث.. ترتقي سُلَّمَ الأفكار والصور كي تقطف الدهشة الشعريّة.
هكذا، يفرضُ الشاعر شرطه الأول لاقتحام عالمه الشعريّ ألا وهو ضرورة أن تكون قارئًا يقظًا، يناور النص صعودًا إلى الذروة، فإذا بك تدخل متاهة العنوان لتبدأ بالتمحيص كي تسلمك مفاتيح القراءة اليقظة، ولأنّ الشاعر قد أطّر هذه التجربة الشعرية بعنوان: "معجمٌ بك"، تتساءل ما دلالة هذا العنوان؟
تحملُ كلمة "معجم" معناها المعجمي المتداول، غير أنّها ترتبط بعلاقة غير متداولة مع الكلمة المجاورة لها: "بكِ"، ما يباغت الذاكرة بالتعبير المخزون: "معجبٌ بكِ"، مُوَلِّدًا "الصّدمة الجمالية" الأولى التي ستشحن القارئ اليقظ بالطاقة الضرورية للخطوة التالية إلى العُمق، وما يضفي مسحة جمالية على العنوان كون الشاعر قد وضع الحرف الأول (م) من اسمه مكان الباء في معجب، فبدا كأنّه يعترف للملأ أنّه هو الشاعر( م..) معجبٌ بها، والشاعر يُوقّع رسائله بالحرف الأول من اسمه كعادة بعض الأدباء.
ترتبّ أوراقك، فتجد أنّ الشاعر قد شهَر في وجهك بطاقة العبور الأولى، فتُدرك أنّه يمتلك معجمًا لغويًّا متفردًا، في محاولة يقظة للخروج عن المكرر المتداول، وهذا المعجم الذي يمثل مشروعه الشعريّ الجديد، المطروح في هذه المجموعة، يرتبط بالذات الأنثوية ثلاثية الأقانيم: الأنثى، والقصيدة، والذات الأنثوية الرقيقة القابعة في صدر الشاعر.
وإذ تخطو الخطوة التالية، تتورط ثانية بفصول المجموعة، فتقرؤها بمسار أفقيّ: "ما قبل، ما بعد، جويس"، فتهرع إلى المخزون المعرفيّ لتتعرف إلى "جويس منصور" التي كرّس الفصل الثالث لها، بل وضمّن النص بمقاطع من مجموعتها "صرخات". تكتشف أنّها شاعرة وُلدت لعائلة مصرية سنة 1928، وانضمت إلى الحركة السريالية، وبقيت وفيّة للمشروع السريالي كتابة وسلوكًا حتى وافاها الأجل في باريس في 28 أغسطس 1986. هذه المعلومات تطرح جانبًا إمكانية أن تكون جويس هي إحدى أقانيم الذات الأنثوية المرتبطة بهذا المعجم الشعريّ، فالفارق العمري بين كونها من مواليد 1928 وكون الشاعر من مواليد 1958، يطرح جانبًا إمكانية كونها الحبيبة، ويضيء أمامك احتمال استعمالها كرمز للحركة السريالية، فتعيدُ قراءة فصول الكتاب على هذا النحو" ما بعد، ما قبل، الحركة السريالية" وتتملّكك الدهشة. تعودُ لتربط ما بين العنوان وفصول الكتاب فتجد أنه يتماشي مع ما توصلت إليه من إدراك، فالحركة السريالية تعتمد على الأشياء الواقعية فتستخدمها كرموز للتعبير عن الحلم والارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي، وقد وصفَ النقاد اللوحات السريالية بأنها تلقائية، فنية ونفسية تعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللاشعورية والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام، وتخلصت السريالية من مبادئ الرسم التقليدية في التركيبات الغريبة لأجسام غير مرتبطة بعضها ببعض .
هنا تتساءل: أهي إشارة من الشاعر أنّ نصوصه غير تقليدية، وأنك ستصادف تركيبات لغوية غريبة بدءًا بـ"معجمٌ بكِ"، وأنّ عليكَ أن تجتهد لتفكك مدلولاتها؟
لقد تخلص الشاعر من الارتباطات المتداولة بين الكلمات ففجّر طاقاتها وأتى بتركيباتٍ مبتكرة غريبة وغير تقليدية، تمامًا كما السرياليّ، لكنه مضى ما قبلَ وما بعد السريالية التي تهتم بالمضمون لا بالشكل، فتبدو لوحاتها غامضة معقدة، فاهتم شاعرنا بالمضمون كما بالشكل، وأتت نصوصه طازجة شهيّة، تحتاج إلى قارئ مُتذوّقٍ يقظ كي يسبر جمالياتها.
تعدّت القصائد مرحلة الإعجاب إلى الهوس إلى الحلول روحين في جسد واحد، وهل أجمل من نصّ يوشوش في المقطع الخامس من قصيدة "نشيش" (ص30):
بِصَلِيبِكِ وَدُعَائِي؛
أَقْلَعَتْ عَنْقَاءُ الشَّوْقِ بِرَفِيفِ أَجْنِحَتِنَا/
نَحْوَ مَحْمِيَّةِ
الوَجْد!
أليس النشيش هو صوت الماء إذا غلى؟! ألا تسمعُ صوت الحبّ وهو يغلي على نار الشوق إذ اتحدت المعشوقة مع العاشق، فأدّى هذا الاتحاد داخل القصيدة وخارجها إلى انتفاض عنقاء (الشوق) من رمادها، فكأنّ الشوق انتفض من مواته ليحمل الحبيبين الطائرين (رفيف أجنحتنا) لينقلهما إلى محمية الوجد؛ هذا المكان الذي يكفل البقاء للأجناس التي قد تؤول إلى زوال. هنا في هذه المحمية، أو الفردوس الأول، تعود الطبيعة إلى سيرتها الأولى، فيعود العاشقان إلى طفولة ما قبل الخطيئة، ما قبل السقوط أو الهبوط كما جاء في النصّ الشعريّ:
كَأَنَّكِ طِفْلَةٌ تَعِدِّينَ بَاقِي المَسَافَةِ..
كَأَنِّي طِفْلٌ أُعِدُّكِ شَهْدًا لِشَفَا شَفَتَي..
كَأَنَّا طِفْلاَنِ كَبِيرَانِ يَهْبِطَانِ العُمْرَ إِلَى
أَوَّلِه!
(قصيدة "نشيش"، ص29)
محمية كهذه تكفل للعاشقَيْن عدم زوال الوجد واتحاد الذاتين المنفصلتين، فينصهر الجسدان العاشقان روحين في بوتقة جسد واحد، ما يستدعي سقوط الحركات اللغوية عن (أحبّكَ- أحبّكِ) إذ سيحيا الاثنان ككيان واحد:
كِتَابَانِ نَحْنُ؛
بِوَرَقةٍ وَاحَدِةٍ
لِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ:
أُحِبُّك..
بِكَافٍ مَفْتُوحَةٍ هِيَ أُفُقُنَا،
وَذَاتُهَا بِالْكَسْرِ انْحِنَاءً فِي الْعُبُورِ.
( قصيدة "جنوح"، ص47)
أو:
وَاشْتَعَلْنَا شَمْعَتَيْنِ؛
بِذُبَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
(قصيدة "حواس"، ص23)
هذا الانصهار الحسيّ/ الروحي يستدعي تبادل الأدوار النفسية، فيحلّ (هو) في الذات الأنثوية كي يستميل في المعشوقة الذات الأنثوية، وتحلّ (هي) في الذات الذكورية كي تستميل فيه الذات الذكورية فيكتمل الكيان العاشق:
أَنَا وَاحِدَتُكِ هُنَا
إِذًا..
أَنْتِ وَاحِدِي.
(ص23)
هذا هو الشاعر محمد حلمي الريشة المتورط الأبديّ بالأنثى/ القصيدة التي يعشقها، لذا يشتهيها الأجمل بين النساء، بينَ القصائد.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |