النرجس وأولاد السفلة
2008-03-22
معطراً برائحة الهال الشهي كان الصباح , و كنت أحصي خفقات قلبي في المسافة ما بين تصاعد البخار المحمل برائحة البن من دلة القهوة, وصوت فيروز ,وهي تغني "يا عود يا رفيق السهر يا عود" , أنهيت سكب فنجان القهوة في روحي ,حملت جسدي على جناح فراشة ,وحملتني خطواتي خفيفاً كالملائكة باتجاه الجامعة, في الطريق كانت وجوه المارة مبتلةً بالندى تهرب من دخان عوادم السيارات,و تترقب شيء ما , وجوهٌ لأناسٍ لا أعرفهم تتراءى لي كرغيف خبز ساخن ,وهم ينفخون البخار على أيديهم ليدفئوا أصابعهم في هذا الصباح البارد , وصلت إلى الجامعة وبعد انتهاء المحاضرة رحت أبحث كالمتيم عن فنجان قهوة أخر يعيد لي اتزان دماغي بعد محاضرة طويلة في المعادلات الفيزيائية الرياضية ,إنني بحاجة إلى فنجان قهوة ليتصعّّد كالنسغ في جوفي ويمحي إشارات التكامل ,والتفاضل , وكلام الدكتور عن التفاضلات الكلية ,ومعادلات الحركة ..
كان الطريق من كلية العلوم باتجاه كلية الهندسة المدنية كدرب الجلجلة و الطقس بارد أما الغيم فكان للمنظر فقط غيمٌ بلا مطر كأرقام الحكومة الخلبية في تصريحاتها عن ارتفاع معدلات النمو, والطلاب أشبه بكراتٍ تتقاذفها الأقدام , جلست في ندوة كلية الهندسة المدنية الراقية نسبياً ,والتي لا يدخلها إلا ذوي الدخل الغير محدود, أبناء ضباط ,أبناء تجار, أبناء أطباء ومهندسين ,أبناء لصوص ,أبناء زانيات , وأنا وحيداً ككومة لحم باردة ,أحضرت فنجان قهوتي رفيقي الأبدي ,وجلست أترقب الجالسين ,غريبٌ أمرهم ..!! لا أحد من الجالسين ينتبه إلى صوت فيروز...!! ,وأحاديثهم تطغى على أغنية "شط إسكندرية " ,ادقق في أصواتهم ,ضجيج يرعب الروح , كأنني في قن دجاج ,أتمعن في وجوههم ,ألوان ثيابهم, تسريحة شعرهم , أحاديثهم , موبايلاتهم ,دخانهم ,الكل متشابهون لا أحد يدخن الحمراء الطويلة ولا القصيرة إنها عقدة الإنتاج الوطني على ما يبدو, الجميع يمسكون علب دخانهم الأجنبي الفاخر لتظهر بأيديهم كأنها بطاقات تعريف لتحديد الانتماء (جيتان ,مارلبورو, وينستون, غولواز ,) وبنفس الطريقة تتراقص الموبايلات بالأيدي ,لا أحد يمسك جهازاً إلا من أحدث الأجهزة , وأغلاها ثمناً , بناطيل ممزقة عند الركبتين ليس نتيجةً لفقرٍ بل لأنه الموديل الدارج ,(انه اغتصاب كامل لملامح الفقر وحقوق ملكيته الفكرية) ,طلاب متشابهون كالتوائم السيامية ,فتيات حسناوات كالصيصان الملونة لا تستطيع التمييز بين واحدة وأخرى , شباب بلا هوية بلا انتماء , المهم تسريحة الشعر , رائحة البارفان , نوع الموبايل ,عدد المعجبات ,عدد المعجبين, عزائم المقاهي , لا اكتراث بأي شيء , كفتريات موزعة على الطوائف وبالأحرى كانتونات طائفية تتقاسم حتى حقوقنا في شرب القهوة , وفروقٌ طبقية حتى النخاع تظهر فاقعةَ في نوعية مرتادي كفتريات الجامعات , آه من يتّمنا ؟؟ من حولنا إلى مجرد كرات تتقاذفها سيقانٌ طويلة ؟؟
صوت فيروز يخبو في معركة ضروس مع ضجيج الشباب الجامعي ,ولا أحد ينصت لصوتها إلا أنا ,وفنجان قهوتي ..
غاب صوت فيروز رويداًً رويداً وانكسر في الزحام.
في غمرة هذه الدورة الجنونية لعصر الاستهلاك والقشور وغياب الأحزاب التقدمية منها والرجعية وصعود أحزاب (الكوردون بلو) و(الفيلي) و(الدلفري) ومجتمعات (الياي) و (البابي) و (المامي), دارت في رأسي الأخبار وكأنها رشقات رصاص حي تثقب جسدي ( حصار غزة , مليون شهيد ومليونا طفل يتيم في العراق ,أمين الجميل والاشمئزاز من أشلاء الجنود الإسرائيليين لدى حزب الله , هيلاري و أوباما وقناة العربية, اعتقالات في صفوف إعلان دمشق , رياض الترك يشكر بوش , الدعايات في تلفزيونات بلاد النفط عن مساحيق التجميل , والأطعمة الجاهزة المستوردة من ماركات ماكدونالد وكي اف سي , مطاوعة يختطفون امرأة وشاب في السعودية - بلد الإعتدال- لمجرد جلوسهم في مكان عام دون محرم , فتاوي عن الإرضاع وأخرى سلفية مؤيدة لتوريث جمال ابن حسني مبارك أمير المؤمنين , الدنمارك تعيد نشر صور مسيئة للرسول محمد والمسلمين يحتجون - بالمناسبة مليون قتيل عراقي في حرب أمريكية قذرة ولم يتحرك المسلمون إلا رقصاً لبوش الفاتح وأطفال الكويت ينشدون لبابا بوش-)
تدور الدنيا في رأسي ,فجأة أحس أن الكون عبارة عن كومة قمامة, أو أن الله تقيأ هذا العالم في لحظة دوار إلهية , أهرب مضطرب الخطى أحاول الابتعاد بأقصى سرعة تلاحقني وجوه صيصان وديكة الجامعة , رنات موبيالاتهم الحديثة , نكتهم السمجة ,أحاديثهم الممجوجة , نقاشاتهم الفارغة حول قياس صدر (هيفا وهبة) وأغنية ( تامر حسني) الجديدة , أسأل بصراخ مكتوم أين هم الطلبة المثقفون ..؟؟!, الذين في زمن ما أسقطوا حكومات ,أين المسرحيين, والموسيقيين ,أين النخب التي عطبت ونخرت ولم تعد ترى في اليسار إلا مصاحبة النساء و كرع كؤوس العرق والتنظير ,والنخب الدينية التي لم تعد ترى في الجنة إلا الحور العين وبالإسلام سوى قمع المرأة وتعليبها وحفظها ليوم الفتح العظيم..؟؟؟!! ,أخرج من بوابة الجامعة الرخامية الضخمة, لاشيء ينقذني من هذه الصور الملعونة وكوابيس اليقظة إلا وجهه ,يديه ,رنة صوته , انه مخلصي؟!!
رجل في السبعين من العمر بثياب الفلاحين المتيممة بتراب الأرض والمتعطرة بعبق الأعشاب الخضراء الندية ...أه أنني أشم رائحة الله تنبعث من يديه المرتجفتين ,ادقق نظري في وجنتيه المجعدتين ,والمحمرتين من البرد, وعينيه الصغيرتين , ينادي على المارة ليشتروا منه باقات من النرجس البري كان قد قطفها عند الفجر في قريته (دنحا) النائمة على كتف بحيرة قطينة , نسقها وجمعها ووضعها في سلة خشبية وركب بأول حافلة تقطر الفلاحين وتلقيهم في جوف المدينة ليصيروا رقما في معادلات السوق , كان صوته حنوناً خافتاً يؤذن بالعاشقين ليهبّوا وليشتروا لعاشقاتهم باقة نرجس بري , ينادي ويؤذن كبلال الحبشي ( حلو للحلو , اشتري ورد للورد , يلا يا حبايب يلا يا عشاق)
لم يدرك مخلصي أن الناس تغيرت ,وأن الإسمنت يخصي الإنسان والروح معاً , وأن كائنات المدينة استغنت عن الورد البري وبدلت زراعة الورد الجوري والقرنفل في الحدائق , ليحل محلها ورد اصطناعي أو بأحسن الأحوال مُنبَت في بيوت بلاستيكية بلا طعم ولا رائحة , ورد خُلِقَ ليباع على عكس تلك النرجسات البرية التي نبتت بإرادتها حرةً وتحولت بيدي هذا العجوز باقات فرحٍ طفولي, اشتريت إحداها ب 25 ليرة سورية أي نصف دولار (أيام عز الدولار), مسكتها فرحاً كأنها أكسير الحياة ليحمي روحي من عطب أولاد السفلة ,وشعارات الدجل, وعصور الاستهلاك , وطوائف التدجين , وبقاليات السياسة , والموت المعمم لأطفال غزة, وميسان, والبصرة, وبغداد ,وقانا ..أطفال قتلوا برصاص دعاة الديمقراطية دون أن يدركوا ببراءتهم أن الحياة تستحق العيش, وأن النرجس سيعيد الأرض مكاناً أقل وطأة على سكانها
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |