من يومية رجل يقيم على حدود العقل
2006-08-14
نشرت المقالة في باب " حديث باطني " في مجلة " الثقافة " عام 1933
أرسلتها أثير محمد علي
أباه كان، يملك بضعة آلاف عثمانية. مما جعل المستقبل الذي يكشر لي مدبراً، يبتسم لفؤاد و يضحك مقبلاً. إن قلت عَبَدته لم أكذب. و من أحق بعبادة فتاة طموح تزين لها المخيلة أن الحياة حفلة راقصة و ألعاب ؟
لكن موقفها آلمني، فكنت أحس برجلها مدسوسة في قلبي. و ما لبثت الأحلام العسلية أن انقلبت ذات مرارة و بشاعة فتاكتين.
منذ ذلك الوقت، يوم خسرت الشئ الوحيد الذي كنت أملكه و هو حبي، أصابني داء يسميه الناس بداء الأرق. أصبحت ليالي جحيماً. و غدوت في أيامي أشعر برأسي دوَّاراً كدوار الأبله. كم كنت أود في ذلك الحين أن يعطيني الخالق أذناً كي أهمس بها ناصحاً بأن يجعل عذابه أرقاً لا ناراً. و كنت، اذا خطر لشيطان دائي أن يحل عني ساعة، أدخل في غفوة مضطربة تشيه شريطاً سينمياً لا يزال يعرض علي الحلم المزعج حتى ينتهي الأمر إلى كابوس غليظ.
مرت سنوات و داء الأرق هذا على حاله مني. لكنني لم ألبث بعد مدة أن ألفته كما تألف الدنيا النوم. بل أصبحت و أنا في يقظتي المستمرة أحاكي الغارق في سبات عميق لذلك خف علي هم دائي وبت أحاول أن أجعل لي فيه مسلياً متبعاً بأمانة المثل الحكيم : إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
و فعلاً أصبحت أجد شيئاً من اللذة في أرقي. فقد أكسبني هذا الداء عادة لا بأس بها، ذلك أنه تملكني غرام التفكير. كنت أفكر مستمراً، فغدوت لا أراني إلا و الخاطرة في رأسي تدفع الخاطرة، و الآراء و الأفكار و الملاحظات تجول في داخل جمجمتي و من حولها كما تجول قبائل النحل حول جرارها.
و إن لذة الفكر – و كل من ذاق هذه الفاكهة يعلم ذلك – لمتعة لا تعدلها متعة أخرى. هي لذة الفكر التي وهبت سقراط صبراً على اكسانتيب و دارون روحاً طويلاً على مرضه. و هي نفسها التي حببت إلى إِديسن العمل في مختبره ليلة زفافه، ساهياً عن عروسه و ما تحوي برداها من سعادة.
ثم إن هذه الليالي الساهرة أكسبتني توسعاً في خيالي، فأصبح في مقدور هذا الخيال أن يصغر الكبير و يكبر الصغير. أن يخلق لنفسه عالماً يستقل به، فيتربع على عرش رفيع، في حاشيته من العرائس و غرائب المخلوقات. و هي عوالم لم يحلم بمثلها شاعر أو نبي.
و حدث في إحدى هذه الليالي أن فكري وقف عند المعضلة الإنسانية الكبرى. لم تعجبني القضية في بادئ الأمر لأني كنت أتخوف من المسائل الكبيرة موقناً بأنها ثقيلة على طاقتي. لكن فكري الخبيث لم يكن ليتزحزح عن تللك المعضلة بل تشيث بمكانه فلا السوط كان يردعه و لا التمليق يسكته. لقد حرن كالحمار ومتى حرن الفكر قل : أعوذ بالله ! فلما يئست أطعته، و أركبته رأسي، و أطلقت له الزمام كي يعمل في حل المعضلة الانسانية على حسب هواه. و قد كنت أعتقد أن هذه السياسة أفضل ما يصح معه لأنه فوق العنيد إذا عوند، و إذا ترك لنفسه قتله تذبذبه، بيد أنه في هذه المرة خالف القاعدة و بقي مكانه مأخوذاً بهمّ واحدٍ : هو المعضلة التي أمامه. فكان تارة يداعبها و تارة يرفسها و يلطمها، كالهرة إذا وضعت بين يديها كبب الخيوط.
دام الأمر كذلك حتى انفرجت أمام الفكر كوة في جدار المعضلة فوثب و راح يركض في الحقول. فكان من نتائج هذه الوثبة أن خطرت لي نظرة فريدة في تلك المعضلة نفسها فخرجت من سريري على الفور صائحاً : "وجدتها ! وجدتها !" كما فعل الشيخ أرخميدس. و إذا كان هذا الشيخ قد اكتشف " الثقل النوعي " في الحمّام فأنا قد وصلت إلى أغرب و أروع ما يتصوره انسان في الفراش.
رحت أدون الإلهام الذي جاءني به فكري تلك الليلة في الحال، خوفاً من أن يشرق الصباح فيكون ما اكتشفته قد طار مع أبخرة الليل. و عند الفجر جعلت من مدوناتي مقالة أرسلتها إلى مجلة معروفة. لكن يظهر أن تلك الصحيفة البلهاء لم تفهم سر اكتشافي. فطرحته في وعاء من قصب يسمونه سلة المهملات، إذ أن الأيام لحقت بعضها بعضاً دون أن يظهر له أثر أو خبر في تلك المجلة الرفيعة.
لم يثبط هذا الحادث من عزيمتي، بل كان له في نفسي رد فعل غريب. لقد تدفقت علي فعالية هائلة. كنت لا أنام في الأربع و العشرين ساعة أكثر من ساعتين. غصت في الورق إلى أذني. رحت أكتب و أكتب حتى بريت قلمي. و أصبحت أصابعي سوداء. أرسلت إلى الجرائد و المجلات بعجائب خاطراتي. ثم أخذت في تأليف الكتب حتى غدوت في النهاية أديباً و مفكراً كبيراً تستبق الصحف و دور النشر إلى شراء مقالاتي و تآليفي بالأثمان الباهظة التي ما كنت أحلم في ليالي قلقي بعجيبة تشبهها بل إن الفراديس التي كنت أرفع معالمها في طبقات الهواء ما حوت عجيبة أبعد عن التصديق من هذه الحقيقة الجميلة. على أن من يتمعن فلسفة الحياة في ترتيبها الحاضر يجد أن هذه أمر جد طبيعي، إذ ما من تقدم إلا و يخرج عن تأخر، و ما من زيادة إلا و تصدر عن نقص، و ما من عظمة إلا و تسبقها حطة. و لقد ادعى بعضهم أن النبي قد قال : " كل ذي عاهة جبار " .
حتى الجبروت تنفرج عنه العاهة، فهذا عندك الاله " أودين "، أو لم يكن أعور ؟ و هذا نبوليون ألم يك قزماً مجنوناً ؟
أما أنا فقد كنت أنطوي على مجموعة من العاهات. فغدا من الطبيعي إذن أن أصبح معادلاً لمجموعة من الجبابرة : كل جبار بعاهة ! بيد أن الغنى الذي أصابني من مؤلفاتي قد أخذ مني جلّ عاهاتي، و بالتالي قد كاد يجعلني مسخاً. كنت دميماً فأصبحت مقبولاً تمدحني الحسان. كنت تاعساً فغدوت سعيداً. كنت جائعاً (و أظن سبب دائي القديم كان لتقاعس بطني من قلة المؤونة) و الآن أجدني تخمة دائمة. على أني لا أبالي إن كنت فقدت عاهاتي و تضاءل جبروتي لأني الآن أعيش. ألم أكن وحيداً عازباً ليس في العالم قلب يحنو على قلبي ؟ ثمّ ألا أجدني اليوم متزوجاً بفناة حسناء غرها في الأول مالي و مكانتي حتى مرَّ وقت فما لبثت أن فهمتني و أحبتني ؟ أليس عندي بيت مريح آوي إليه فترن في أذني سأسأة ملاكين صغيرين ينثران في رحاب روحي الفارغة بهجة و حلاوة ؟ على أن الانسان لا يقبض في جهة حتى يدفع في جهة. أجل لقد خلصت من داء الأرق بعد أن امتلأ بطني، لكني ابتليت بداء آخر هو النوم. النوم و الكسل يحرقاني في هذا الوقت. و كثيراً ما تعاودني ذكرى شبابي فأتمنى لو ترجع بي السنون القهقرى فأقطع مرحلتي الصغيرة من الوجود في قلق من الحلم و الفكر بدل أن أموت ثلثي عمري راقداً. أتمنى هذا، لكن بشرط.
و الشرط هو أن لا تعمر وجودي خيالات تلك الشيطانة التي كادت أن تقتلني إذ أورثتني كآبة الخيبة و يأسها زمناً طويلاً، إلى أن خلصني الفكر و الجوع.
هذا، و بخصوص اكتشافي الذي تكلمت عنه، فهو أعظم و أجدى من " حجر الفلاسفة " أو " اكسير الحياة " و لو صحت أوهامهما. و ما يفيد حجرهم ؟ هل ينبع عنه الذهب ؟ إن هذا الاله الصفراوي لينحط يداني التراب فيما لو تحققت تلك الفكرة السخيفة. ثم أين هي قيمة هذا المعدن ؟ أيؤكل ؟ أيلبس أو يفترش ؟ أم أن رباً شريراً أوجده ليحمس البشر في تمثيل مهازلهم ؟ أليس من الجنون الكامل أن يأكل الانسان الانسان عبر ستين قرناً من أجل الغبار ؟ و هل تجد البشر بعد كل تاريخه القاتم إلا أبلغ في الجنون به من كل وقت قبل : فلا يزال الناس يبحثون عن الحجر المفقود، لا يزال وسواسهم يصور لهم اللمعة كأنوار الفراديس، فيواروا في اللحد و ظمأهم إلى سمهم أقتل لهم مما كان. ثم ما " اكسير الحياة " ؟ و لم يطلبون هذا الاكسير بينما هم يعشقون الموت و يحكمونه في رقاب أنفسهم و رقاب أبنائهم.
أما اكتشافي فلا يشبه بينه و بين هذه " الخنفشاريات ". ليس له نظير. على أني قد عوّلت على أن لا أنشره بين الناس، لأنه، إذ رفضوا النظر فيه لما قدمته لهم عفواً و غيرة، أصبح الأمر يتعلق بكرامتي، فمن أحسن إلى آخر و رفس إحسانه حق له أن يغضب، و حق له أن يمتنع عن بذل نعمته إذا طلبت فيما بعد. لكنني إذا ما رأيت العالم سيبقى ممعناً في طيشه، و إذا كان الناس سيظلون يبسمون لبلهاء الساسة، و يمتدحون أصحاب المال، يصفقون كالسعادين كلما سمعوا رعود المدفع و " طقطقة " الرشاش، وإذا كانت الأرض ستبقى حاملة مشعوذين يلبسون السواد و المزركش و يحتكرون التوسط بين الناس و الأصنام – بالمختصر المفيد إذا ظلّ قول شكسبير " أي حمقى هؤلاء الناس يكونون " هو الحقيقة الباقية التي تهددني و بيتي بالدمار، أطفالي بالموت الأحمر و صوابي بالذهاب – إذا دام الحال على هذا المنوال لن يسعني السكوت أكثر مما سكت، بل إنني أبادر إلى نشر اكتشافي لحل المعضلة الانسانية الملعونة.
أما الآن فأكثر ما أصرح بشأنه أنه سهل التطبيق جداً، و قد اقتبسته من أسناذي الكبير الدكتور " اومنوبيل " و لعلك تجهل هذا الدكتور على شهرته في بعض الأوساط المختصة. كبلاط ذلك الاثيني العبقري المعروف بالأمير " تيمون ". لو راجعت التاريخ الكبير الذي ألفه أحد شذاذ الإفرنج و جمع فيه أخبار جزيرة يقطنها أناس من الطيور البحرية لوجدت أن الدكتور " اومنوبيل " رجل قبع في غرفته ستين عاماً يدرس الكتب. و بعد ذلك نظر إلى حاله فرأى أنه لم يزل ركيك العلم. فقرر، لاصلاح هذا النقص، أن يقوم بجولة يجوب بها نواحي الكرة الأرضية. و لما قضى في ذلك عشرين عاماً أخرى ارتد إلى صومعته ليقطف ثمرة علمه. جلس إلى منضدته و أمامه الكتب و الدفاتر، بعضها مقنطر فوق بعض، مستعمرات للغبار و الفراشات الصفراء التي كانت تحوم حول رأسه و القنديل في ليالي الدراسة. و ضع رأسه في يديه و راح يفكر. كان يفكر بحزن. جمع علمه و استخلص حاصله، فوجده هكذا : إن دام الحال على هذا المنوال فليس من مخرج للبقية الباقية من العقلاء سوى أن يلمّوا كل ما تصل إليه أيديهم من اختراع صديق السلام " نوبل " ذلك الاختراع المشهور بالدناميت، ثم أن يشقوا في الأرض حفيراً عميقاً كبيراً يحشونه بتلك المادة السلمية. و من بعد، فلتطر الأرض في طبقات الفضاء ذرات منسية. و ليسترح ضمير الكون من حشرة اسمها الانسان !
لا شك في أنك تلحظ خللاً في فكرة الدكتور. فهي " عملية " ليست بعملية : تصح أن تكون حلماً يراد منه الخير و لكن لا يأتي عنه، كالرؤى التي يستعرضها بعض العلماء و الشبان عندنا، و هم أناس لا يعرفون من الخير سوى النية. لكن اكتشافي أمر ميسور. هو حلّ فذ لا أشبهه، بغير طريقة الفتى المقدوني المجنون في فك العقدة التي كبّل بها الملك جورديوس نير العجلة، بعد أن قدم ثيرانه ذبيحة للآلهة.
... كنت ابن خمسة عشر إذ ذاك، و كنت مغرماً بفتاة أخذتها وحدها من بين جميع بنات الحي مأخذ ملاك طاهر لأنها كانت ذات شعر كأمواج النور و عينين كسماء أيار. لكن اللعوبة لم تبال بحبي إذ كنت بحترياً دميماً، أميل إلى الإنفراد و أقطع الساعات حالماً. و لعله كان يحق لها أن تحب فؤاداً و تعرض عني. فقد كان هذا الشاب، ممشوق القامة، بهي الطلعة، ضحوك السن، طريف الحديث. ثم إن
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |