Alef Logo
نص الأمس
              

تطاحن الثقافات / المساعي التمهيدية لخلق ثقافة دولية

ألف

2006-08-30

نشرت المقالة عام 1929 في مجلة مينرفا، و هي مجلة نسائية أدبية، اجتماعية و فنية. و بما أن المقالة غير ممهورة بتوقيع فمن المحتمل أن تكون لمحررة المجلة و صاحبتها ماري يني (1895-1967 ؟ 1975). وأهمية المقالة تأتي من الرؤية الثاقبة لكاتبتها بحقيقة ما يمكن أن يجري في العالم، فلو نشرت هذه المقالة دون تجديد مصدرها، أو زمانها لظن المرء أنها كتبت الآن لولا لغتها الأدبية العالية. المقالة، نظرة إلى بداية هجوم الاقتصاد الأمريكي ليغزو العالم بصناعته .. ومن ثم بجيوشه .. مقالة هامة، تجعلنا نفكر، لماذا تجاهل زعماؤنا حينها مثل هذه المقالات وهي كثيرة، لماذا لم يفكروا بها وبنتائجها .. أم أنهم فكروا وطنشوا
ألف
يهتم الرأي العام الأوروبي جدّ الاهتمام بمعرفة أسباب ازدهار الولايات المتحدة، هذا الازدهار المطّرد الذي باتت أوروبا تخشى نتائجه على اقتصادياتها و شعور أبنائها فترى الصحافة لا تنفكّ تعالج هذه القضية الخطيرة في كثير من الجدّ، فتنتدب منشئيها للدرس و البحث و المقابلة.
و من جملة الصحفيين الذين عالجوا هذا الموضوع "جوزه جرمان" مندوب جريدة "الجورنال" الفرنسوية. فنشر في صحيفته فصولاً مطولة بحث فيها نشاط المدنية الأميركية و اتجاه ثقافتها الصناعية الحديثة التي قد لا يمضي القليل من الزمن حتى تسيطر على العالم القديم مبتدئة بفرنسا، البلاد الأوروبية المتمسكة أكثر من سواها بالثقافة اللاتينية البطيئة التقدم. هذه الثقافة التي تعوّل في اقتصادياتها و فنونها على القيمة أكثر منها على الكمية.
و الثابت اليوم أن صناعة الكمية و تجارتها رائجتان أكثر من صناعة القيمة و تجارتها. فبينما الكمية تتناول الغالبية إذ بالقيمة تقتصر على صفوة الأقلية و خاصّتها. و من المبادئ الاقتصادية الأولية الانتاج الوافر و البيع الكثير بربح قليل[1]، حتى إذا نظرنا نظرة سريعة إلى أسواق الصناعات وجدنا سوق البضاعة الفرنسوية على متانتها و صلابتها أقل رواجاً من سوق الصناعة الأميركية التي هي دونها بمراحل متانةً و صلابة.
و إذا كان الإقبال على الصناعة الأميركية أكثر منه على الصناعة الفرنسوية فلأن المرء بطبيعته متقلّب، يتطوّر ذوقه من يوم لآخر. فهو إذا اقتنى صناعة فرنسوية متينة بذوق الساعة الجارية و أزيائها فلا يلبث أن يتطوّر ذوقه و يتبدل الزي فيضطر أن يجاري هذا التيار، فلا يستطيع إلى ذلك سبيلاً إلا إذا أسرف في ماله. و الإسراف في المال ليس من الاقتصاد في شيء. فهو إذن يفضل أن يقتني صناعة أميركية سريعة الزوال، رخيصة الثمن على أن يقتني صناعة فرنسوية تقيّد صلابتها و متانتها ذوقه، و تحول دون اتباعه الزي الجاري، مما يدلنا في سهولة على أن الحياة مسألة تطبيقية عملية أكثر منها خيالية فنّية. وأعني بالحياة هذه التي نساق إليها اليوم بعوامل عديدة و متنوعة لا نقدر على مقاومتها مهما بذلنا من جهد. و إذا نجح واحد في هذه المقاومة فهو فرد بين ملايين لا قياس عليه.
و إذن فالثقافة الأميركية تكتسح العالم القديم اكتساحاً سريعاً من كافة مناحيه، فهناك صناعة السيارات و صناعة "الفيلم" حتى فن التمثيل المسرحي الأميركي يكاد يحلّ في قلب باريس محلّ التمثيل الفرنسوي الذي هو من أرقى ما في الأدب الافرنسي روعة و جمالاً.
و إذا كان هذا مبلغ سيطرة الثقافة الأميركية على العالم القديم، فكيف السبيل إلى مقاومة هذا التيار الجارف و خلق شعور جديد في سكان أوروبا اللاتينية يساعدهم على اجتياز الشوط الأول من هذا الصراع الشديد القائم بين الثقافتين الأميركية و الأوروبية ؟.
يفكر السياسيون في إنشاء الولايات الأوروبية المتحدة، و توحيد قواها و تجديد طرق صناعتها حتى يتاح لها الوقوف في وجه المدنية الأميركية قبل أن تتمكن من أوروبا و تنسف مدنيتها القديمة، فيصبح العالم القديم مستعمرة للعالم الجديد. فهل تراهم يوفقون في هذه المناورة، فيستخرجون من مزج عناصر المدنية الأميركية و المدنية الأوروبية مدنية دولية جديدة ترسل أشعتها على العالم فيقبلها الناس على اختلاف قومياتهم فلا يكون لعنصر من العناصر البشرية ميزة على الأخر ؟.
هذا أول سؤال يتبادر إلى ذهن المفكر أمام هذا التطاحن بين الدول و العناصر القائم على قدم و ساق. على أن السياسة لن تكون لها أقل تأثير في تطورات العالم من هذا القبيل. و إنما هي ستكون كما كانت بالأمس واسطة تثبيت ما توجده التقاليد و العادات. فإذا اتجه التطور الاجتماعي إلى التوحيد – و هو متجه لا محالة – فتأتي السياسة و تؤيد هذا التوحيد بسلطتها الرسمية، حتى يأزف موعد "المساء الأكبر" فتعم العالم ثقافة واحدة، و نظم واحدة، و سياسة واحدة.
غير أن الحالة الراهنة تجعلنا نتكهن بفوز الثقافة الأميركية على الثقافة الأوروبية إن لم يكن في الآداب و الفنون، فعلى الأقل في الاقتصاديات، والاقتصاد أساس عمران الممالك و الدول. و هذا الفوز يقود حتماً إلى فوز ثان في الحياة الأدبية و الاحساسية. فلا عجب إذا اضطرب الرأي العام الأوروبي لهذا التيار الجارف و أخذ منذ الساعة بإعداد المعدات له. و لكن هل تراه يوفق في مقاومته ؟.
هذا سؤال نترك للأيام عناء الجواب عليه.

أما "جوزة جرمان" الصحفي الفرنسي الذي عالج موضوع ازدهار الولايات المتحدة فيرى أن تعلق أوروبا بأمجادها و انتصاراتها الحربية التاريخية من أهم عوامل تأخرها في مجاراة الحياة الميكانيكية العصرية، و لا سبيل لنهضة فيها إلا إذا تركت هذه الأمجاد للمؤرخين يسجلونها في الكتب لتعليم الصغار؛ و انصرفت إلى الحياة العملية الجدية فتستطيع إلى حين أن تحفظ مدنيتها و ثقافتها من عبث العابثين حتى يأتي اليوم الذي فيه تتحقق وحدة الثقافات و تخرج إلى حيز الوجود تلك الثقافة الدولية التي يحلم بها الكثيرون من أكثرهم نبوغاً و أبعدهم نظراً و أغزرهم حكمة.


[1] في هذا السياق نشير إلى أن الانتاج الصناعي الصيني المعاصر يعتمد بشكل مشابه على الكمّ الزهيد الثمن نسبياً و الذي يكتسح أسواق العالم و يغرقها بالبضائع. (أ. ع).



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow