هواجس صاخبة
2008-05-11
- متى يحين دوري ؟
اعتدتُ أن أسأل نفسي، كلما غادرت داري صباحاً في طريقي إلى العمل، وبعدما انظر إلى المرآة، وأتأمل مظهري.
ارتدي ثوبي الأخضر.. أضع حجاب الرأس الأخضر الفاتح.. أضع حاجاتي الصغيرة في حقيبتي الجلدية السوداء.. انتعل حذائي الأسود..
أغادر الغرفة نحو النباتات التي تتوسد السنادين برّقة ونعومة، وتمنح واجهة البيت دفئاً ومظهراً خلاباً؛ لا سيما تلك التي تتحدى حرارة الشمس اللاهبة، وتتسلق على الجدران، كأنها تريد الإمساك بإحدى الماسات المعلَقة على وجه السماء، والتي لا نراها إلاّ مساءً.
عند الساعة السابعة صباحاً أودع أمي.
في طريقي نحو الشارع الرئيس تمطر الأجواء وابلاً من الرصاص. أختبئ في أحد الشوارع الفرعية مثلما يفعل آخرون. يسكت الرصاص فجأة. أستكمل طريقي إلى الشارع الرئيس، كالعادة من غير أن أعرف ما الذي حدث.!
تجيء سيارة (من طراز الكيا ).. أصعد من غير قاسم الذي يسكن نهاية الزقاق الذي أقطن فيه. تصعد امرأة تحمل كيساً. تتسمر عيناي بها دقائق.. تتحولان بعدها إلى ما تحت المقعد الذي تجلس عليه المرأة.
أكسبني الخوف عادة جديدة.. مراقبة الناس وتفحص المقاعد التي تقع على امتداد بصري.. في الباب الشرقي أنزل من السيارة، وأتوجه إلى دائرة عملي..
في السماء غبار.. وإلى أذني تتناهى أصداء انفجارات في مكان ما.
إنها ورقة أخرى تتهيأ للسقوط من شجرة الزمن.. أرتدي قميصاً بنفسجياً فاتحاً وتنورة سوداء. أضع على رأسي حجاباً يجمع بين بعض تدرجات اللون البنفسجي. انتعل حذاءً بنفسجياً غامقاً، وأحمل حقيبة باللون نفسه. أسمع أمي تدعو لي بالسلامة حينما أفتح باب الدار. ألقي نظرات سريعة على النباتات المُبهجة. أسمع موسيقى احتفائها بما منحتُها من بلل منعش.
في الشارع أجد قاسم سبقني إلى انتظار سيارة تقله إلى العمل. أقف قربه بعد أن يستقبلني بابتسامة وإطراء لمظهري. يقول إنه يمنح الناظر إحساساً بجمال الحياة وصفائها.
تصل سيارة ( الكيا ).. أجلس.. يجلس قاسم إلى جانبي.. تنظر امرأة إليّ وإلى حقيبتي.. أشعر بها مكتسبة العادة نفسها. أصل إلى الباب الشرقي. أذهب في طريق، ويذهب قاسم في طريق آخر.
أنظر إلى المرآة، وأنا استكمل ربط أزرار قميصي الوردي. أسال نفسي إن كان القميص سيعجب قاسم. أعجبَ أمي التي تقول لي وأنا أهمّ بالمغادرة: انتبهي لنفسك..
أما أنا، فأنتبه إلى الفروع المتشابكة التي حولّت واجهة الدار إلى حديقة عمودية.. سأفتقدها حينما يأتي الشتاء، ويبلل السيقان العارية بالمطر.
في الشارع أصعد مع قاسم إلى السيارة ( من طراز الكيا أيضاً ).. يحدثني عن حبه لي وأحلامه.. ومخاوفه من المجهول الذي ينتظرنا جميعاً. ينبهني حديثه إلى معاودة المراقبة. أصوب بصري على الرجل الجالس أمامي، وعلى كيس ورقي صغير في يده بارتياب. أطيل النظر إلى الكيس قبل أن أرفع رأسي. أجد الرجل ينظر إليّ مرتاباً.!
أنزل مع قاسم من السيارة في الباب الشرقي.. أتنفس الصعداء.
يعجبني هذا الصباح ارتداء سترتي الصيفية الحمراء.. تحتها قميص بلا كُم، تتمازج فيه خطوط حمر وأخرى بيض وسود. أما التنورة، فهي سوداء، وحجاب الرأس والحقيبة سوداوان.
أطبع قبلة على خد أمي، وأنا أهمّ بالمغادرة. انتبه في أثناء الخروج إلى إنّ إحدى النبتات اصفرَ معظم أوراقها.. أقطع الأوراق الصفر.. إحدى الأوراق ممزقة وقد سقطت من السندان.. وتحتها شظية صغيرة مُعفرة بدم ٍيابس.. أرفع الورقة والشظية من السندان، وألقيها مع الأوراق الخضر التي بقيت ، وهي قليلة. تقول أمي: ستنمو فروع وأوراق خضر جديدة، قريباً.
أسقي كل السنادين.
أصعد إلى السيارة ( الكيا ) من غير قاسم. أنظر بريبة إلى الوجوه الكالحة والمتعَبة.. والمتوحشة.. أفتقد قاسم كثيراً.. هدوء أسطوري يخيم على كياني..
- متى يحين دوري ؟
أسأل نفسي مجدداً حينما أنظر إلى المرآة العريضة المعلَقة بشموخ على جدار غرفتي بالرغم من كل اهتزاز يحس به الجدار كلما وقع انفجار أو هوت قذيفة على مقربة من حينا. أجد صورتي في المرآة جميلة.. ثوبي فضفاض أبيض، يبدو مشعاً بالضياء لاسيما حجاب الرأس الأبيض كما لم أرَ نفسي من قبل. ربما هو الحب الذي يكبر في روحي يجعلني أرى صورتي أجمل. أجد أمي تسقي النبتات بالماء والدمع أيضاً.!
أغادر الدار.. أرى قاسم واقفاً بالانتظار.. تصل السيارة ( الكيا ).. يصعد قاسم. أصعد وراءه. أجلس إلى جانبه. أنظر إليه، والابتسامة الهادئة لا تفارق شفتي.. لا يلتفت إليّ.. أستغرب جفاءه.!
أراه مطرق الرأس، أسأله ما الذي يحزنه. لا يجيب. أشعر بالحزن مثله.
لمَ لا يعيرني اهتماماً ككل يوم! حرقة حزني تدفعني إلى هوايتي حديثة العهد. أراقب هذه المرة الركاب وما يحملون.. أمامي وخلفي. لا يسألني أحد ماذا أفعل. ينزل قاسم من السيارة في الباب الشرقي. أنزل أيضاً، قاصدة مقر عملي.. يغيب قاسم عن ناظري.
هذا صباح آخر. أنظر في المرآة إلى ثوبي الأبيض. فضفاض، مريح، جميل كما اعتدته بالأمس. أشعر به يلتصق بي كجلدي. لم تعد ثيابي الأخرى تجذبني لأرتديها. أغادر غرفتي. ألقي التحية على أمي التي لم أعتدها حزينة كما أراها هذا الصباح. أحمل دلو الماء نحو السنادين. أجدها بليلة. سبقتني أمي إليها بالطبع. أخرج. أصعد مع قاسم إلى السيارة. أجلس إلى جانبه. أحاول فتح حديث ما معه. يدفعني كبريائي للتراجع. أشيح وجهي عنه. لا أطيق إغفاله لي بالأمس. ذلك الإغفال جعلني أتأرق ليلة البارحة حتى أتعبتني الهواجس والوساوس والأفكار السود. كان قاسم متأججاً بالمشاعر. ما شأنه اليوم، وقد صار كائناً ثلجياً، بينما أتحرق أنا حباً ؟
أحاول تجاهل الحالة بمراقبة الركاب الجالسين أمامي. أحدق في وجوههم وأياديهم وتحت مقاعدهم. لا ينظر أحد منهم إليّ. نصل إلى الباب الشرقي. ينزل قاسم. أنزل أيضاً بحرقة حبي وإطراقة رأسي. أنتبه إلى أنني حافية القدمين !! يملؤني الاستحياء. تنفجر سيارة مفخخة قريبة جداً منا. دوي عاصف يهز الأرض والمباني القريبة وأجساد الناس وبضائع الباعة. غول دخاني مرعب ينمو في لحظات ويكبر. لهيب أحمر يفتح فماً مرعباً يلتهم الأجساد والسيارات و... أشياء أخرى. الناس يتراكضون يميناً ويساراً. اللحم يتناثر. أشلاء تتطاير. تتوزع بعشوائية بين الشارع والرصيف والمدى. ذراع هنا. قدم هناك. أشعر بهول الفاجعة. أحاول التقيؤ. أفشل. أرى قاسم يحترق.!
يصير قطعة لحم صغيرة متفحمة. يزداد شعوري بالهلع حتى يكاد يخنق أنفاسي. أنا أفقد حبيبي. الجميع يركض. يهرب. يحاول تجنب الشظايا. البعض يتلوى بعد أن يبصق فم اللهيب عليه. الكل يصرخ، إلا أنا ، أتسمر وسط الدخان والنيران. ثوبي مازال محتفظاً ببياضه. لم يتسخ بالدخان والرماد المتطاير. لم تمزقه أنياب الفم الملتهب الكريه. لم تشعر قدماي الحافيتان بسعير الانفجار المروع الذي لا يشبهه رعبٌ آخر ، مثلما لم تحسا بوخز الشظايا الزجاجية المتناثرة على الأرض الملتهبة. سيارات الإسعاف تصل. يحمل المسعفون على النقالات القطع المتفحمة والأجساد المصابة بالشظايا. ألقي نظرة وداع أخيرة على لحم قاسم، وهو يوضع على النقالة إلى جوار قطع لحم أخرى، ومنها إلى سيارة الإسعاف. أطلق دمعة للدخان. أشعر بيد تلتف حول خاصرتي. ألتفت. أرى قاسم يرتدي ثوباً أبيض َ فضفاضاً جميلاً. يقف إلى جانبي حافي القدمين. يجمعنا عناق طويل، ونحن نسمع صوتاً يشبه صوتي، أو ربما صوت قاسم :
- متى يحين دوري ؟
08-أيار-2021
12-أيار-2018 | |
03-شباط-2018 | |
27-آب-2016 | |
30-تموز-2015 | |
01-تموز-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |