ملف الجسد / الجسد في احتداماته المتلاحقة أو عشبة الخلود
2006-04-08
الجسد، الحضور الأول، حامل الحياة والحواس واللذة، ربما هو ذاته -بل بالتأكيد هو ذاته- من أوحى إلى أرسطو أن سقراط فان. وفي الحقيقة لم يكن ذلك اكتشافاً، أمّا المفارقة المؤلمة فتكشِّر عن عبثيتها: لا يمكن الولوج إلى المنطق إلا عبر بوابة الموت!.
في علاقة الروح بالجسد، يبدو الجسد واضحاً لا لبس فيه، أما الروح فهو غامض؛ ولكل لعبته. الموت -بكل قساوته- لم يكن حاسماً يوماً، فالجدل بينهما (بين الروح والجسد) سيظل قائماً. ولبرتراند راسل أن يفكر: "حقاً لا وجود للحياة بعد الموت، وإن كنا نعتقد ذلك، فذلك فقط لأننا نشتاق لرؤية أعزاء فقدناهم". للأساطير والمعتقدات والأديان أن تعلن رايتها في الجهة المعاكسة. تلك محنة الجسد، ومحنة "راسل" على سبيل المثال، فالبعض لا يثق كثيراً بالروح!.
في الميثولوجيا: وعي البشرية الأول، يظهر الجسد بأشكال خرافية، وصعبة التصور في أحيان كثيرة. إنه اللاوعي الرابض في العمق، أو الرغبة العارمة أن يقول الجسد ما لديه (أو أكثر مما لديه). ولجلجامش أن يبحث عن الخلود (خلود جسده) أسوة بالآلهة الخالدة بأجسادها.. كما تشي الأسطورة، لا بل كما تعلن ذلك صراحة. وللآلهة الفانية أن تخفف من هجس البشر بحتمية المصير القائم: الموت. لا، لا.. إنها مجرد دعابة، فعشتار ستبكي أدونيس (الإله القتيل) كثيراً.
من الأساطير سوف تنبثق عقائد كثيرة لتهدئ من روع الجسد، وسوف تحضر الفنون -على التوازي- باتجاه هدهدة الهاجس الأبدي عند الإنسان بإعطاء الروح مساحة أكثر للحضور، لكن دون أن يكون ذلك كافياً حتى النهاية. لا، بل إن القربان -ذاته- لن يستطيع نزع الفتيل!!.
في الحضارة الفرعونية مثلاً، حضرت -بقوة- فكرة وجود حياة بعد الموت، وفكرة خلود الفرعون – الإله، لكن تمثال أبي الهول -بشكله غير الخارج عن السياق الهاجسي- يدل بشكل واضح أن سؤال الجسد سيظل شامخاً، فخلود الروح في الأبدية لا معنى له بدون الجسد.. لذلك سيكون التحنيط، وسوف تكون الأهرامات -الضخمة، الضخمة- مجرد محاولات لإخفاء الجثث!.
في مرحلة لاحقة، سوف تتناول الفلسفة -بكل هيبتها- هذه المشكلة. فكروا بنظرية المُثُل عند أفلاطون.. مثلاً، لكن... دون جدوى. وفي مرحلة متقدمة أكثر، ستطيح الديانة المسيحية بالجسد بضربة واحدة، لصالح الروح. وليس صدفة أن يكون المسيح في ريعان شبابه وجماله.
في الثقافة الإسلامية، ستدخل تأثيرات فلسفية، وأخرى عقيدية شرقية تغذي ذلك النزوع القديم الذي يعمل ضد الموت (يمكن أن نتلمس بعض هذه الحالات في الشعر الجاهلي) ولن يظل -النزوع- مترسباً في القاع إلى الأبد. فسوف تعمل "وحدة الوجود" بدأب، من أجل شرعنة وجودها، مكافحة بلا رحمة لإيجاد فسحة لها داخل النص الإسلامي المقدس. ورغم الصفة المتميزة التي يتفرد بها الدين الإسلامي، ونعني: فكرة الإله المفارق، المنزه.. إلا أن الصوفية، ممثلة ببعض أعلامها، لن تتردد في دفع الثمن الكامل والنهائي في (الحياة) مقابل مقولاتها. وسوف تعمل الصوفية (ابن عربي وغيره) على إسقاط اللغة (جسدها) ببعديها: التداولي والفني، وسوف تخلق لغة خاصة في محاولة منها لحل اللغز. هكذا إذن، ما من أحد بمنأى عن هذا السؤال الكبير: غياب الجسد!
الفن، وعبر تاريخ الإنسان، سيعمل لصالح الروح حيناً، ولصالح الجسد أحياناً أخرى. الفن بكل أنواعه: الشعر، الموسيقى، الرقص، الرسم. أحياناً، بل غالباً ما يتخفف الرقص من مقولاته.. فيزدهر الجسد!. وإن عبارات شعرية من قبيل: none can die لجون دوان، و"لم يمت أحد تماماً" لمحمود درويش، و"أنسى أن أموت" لعبد الله البردوني، و"لا أستطيع الموت" لأراغون.. إن هي أمثل تعبر عن الرغبة الحارقة بالانتصار على الموت، أو أقله تدجينه!!.
مع الآلة سيبدأ العصر الحديث، وسوف تتراجع مكانة الروح. وفي العصر الحالي سيشكل "الترانزستور" نقلة فريدة في تاريخ الإنسان. النقلة ذاتها التي أنتجها العقل تبدو أحياناً أقرب إلى الهرطقة!. وفي العصر الحالي: الروح في أفضل حالاته مجرد روح في المصيدة. الساحة الآن للجسد.
ومع انتشار "التلفزة" بهذا الشكل الخرافي، ستنتصر ثنائي "العين – التجسيد" على ثنائية "الأذن – الخيال"، وسوف يقدم الجسد نفسه دون الشعور بالخجل، أو بالحاجة إلى عمق آخر (خيال -فكر -روح). لقد انتصرت الشاشة المسطحة (بالنقاط طبعاً) حتى ليبدو أن التفكير باختراع الشاشة ثلاثية الأبعاد (تعطي صورة ثلاثية الأبعاد) إنْ هو إلا هجس بالانتصار -حتى النهاية- على الصوت (الصوت ينتشر في ثلاثة أبعاد).
الآن، الجسد من يدلي بدلوه طوال الوقت، حتى تلك المساحات الخافتة التي تتغنى بالروح ليست أكثر من حنين رومانسي. لقد انتصر البصر (وداعاً للبصيرة)، ويبدو أن التراث لن يفيد كثيراً، فتلك المحاورات الفلسفية التي كانت تدور يوماً (في تاريخنا العريق) بين منتصرين للعين (الجسد) ومنتصرين للأذن (الخيال).. ليست أكثر من خديعة شبه كونية لتزجية الوقت، أو ربما لحين وصول الغزاة!.
في حضارة الترانزستور، يمكن أن نفكر أن "مايكل جاكسون" ليس أكثر من مثال مبكر عن اندلاع الهاجس الجسدي بشكل هستيري، في تلك الحضارة. فسؤال الجسد يشرئب عالياً، عالياً.. هناك.. وراء المحيط. لقد وجدوا الصيغة التي تطيل عمر الإنسان.. إن لم يكن بالقدر الكافي، إلا أنهم يقولون أنها الخطوة الأولى، وسوف يواصلون المسيرة. مع العقار الجديد –كما يقول العلماء- سيصبح متوسط عمر الإنسان مئة وخمسين عاماً، وهم لن يتوقفوا عن تطوير العقار. لقد كان "إكسير الحياة" حلماً فيما مضى، والحلم الآن يخضع لاقتراحات المخابر.
في تلك المرة القديمة.. ضيّع جلجامش عشبة الخلود، لكن "مايكل جاكسون" وهو ليس من أحفاد جلجامش (العظيم) هجس بتلك العشبة، ويبدو أنها ستصبح في متناول يده، فهل سيدخل أحفاد مايكل جاكسون القادمون من بوابة "المنطق الجديد" من غير تلك البوابة القديمة: الموت، وهل سيحيا الحفدة الجدد بعيداً عن جدل الروح والجسد؟!..
لقد هجس أسلافنا –أيضاً- بحجر الفلاسفة: الحجر الذي يغيّر موصفات الأشياء والعناصر، وانتهوا إلى الإخفاق. لم ينجحوا بتحويل النحاس إلى ذهب.. ولذلك فنحن نعيش -الآن- في العصر النحاسي، فهل سينجح (الآخرون، وراء المحيط) باكتشاف حجر الفلاسفة؟. ربما يفعلون ذلك.. ولكنهم سيدعونه: حجر التكنولوجيين، وربما هم ليسوا بحاجة له لأنهم يعيشون العصر الذهبي على أية حال!!.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |