(ممنوع الاقتراب والتصوير) – مقدمة وائل عبد الفتاح
أول كتاب ممنوع قرأته كان: ألف ليلة وليلة
وجدته في الشارع.
كان بلا غلاف فلم أعرف أنه ألف ليلة إلا بعد سنوات طويلة ظل هو كتاب سحري.. أحد أسراري الخاصة، وكنز الخيال الذي فتحته وحدي.
لم أنس أبداً نشوة ليلة الاكتشاف.. لم أكن أعلاف أنه كتاب ممنوع لكن التعليمات التي تربيت عليها في البيت والمدرسة جعلتني أدرك بكل غريزي أنه كتاب خطر.
أول شيء نتعلمه في المدارس.
قائمة ممنوعات طويلة جداً تبدأ كلها بأفعال أمر أشهرها: لا تقرأ هذا الكلام.
هذا هو أول درس.
لا أحد يعلم الحرية ولا دخول مغامرة المعرفة... بداية من البيت.
يتكرر الأمر في الحزب الذي تدخله باختيارك فتجد الزعيم جاهزاً بقائمة ممنوعات.
هذا طبعاً غير ممنوعات شيخ الجامع.
وراهب الكنيسة.
كل سلطة تشعر أنها سلطة إذا منعت عن أتباعها الاقتراب من كتب وصور وأفلام. ستهدم العقيدة إذا اقتربت منها.
ولأن العقل واقع تحت سيطرة سحرية فإنه لا يفكر: كيف يمكن لعقيدة قوية أن تهدم من كتاب أو صورة؟!
تكبر الرقابة كغريزة طبيعية وفي مقابلها تنمو رغبة المعرفة في الممنوع.
وليس غريباً أن تجارة البورنو تروج أكثر من المجتمعات المحافظة.
بل إن التطرف في تجارة الرسوم والصور العارية يصل إلى حدوده القصوى في بلاد تزدهر فيها الرقابة.
لكن الرقابة والتحريم تضرب الحواس تماماً.
الروح تصبح قاسية جافة... مريضة.
الروح اليائسة لا تحب الحياة.
تختار الموت والذهاب في رحلة الآخرة.
تعيش وفق كتالوج حديدي.
وتنظر من ثقب إبرة إلى كل شيء.
تسير على خطى محفوظة لا مجال فيها للخطأ.
وهذا ما جعل الكهنة يحذفون القصص من كتاب مقدس.
حكايات عن جنس الأنبياء كما تناقلته التوراة (يمكن أن نصدق الحكايات.. أو لا نصدقها.. نراها مقدسة أو أقرب إلى شخصيات درامية في مسرحيات شكسبير أو أساطير الإغريق.. ليس المهم هنا صدق الواقع ولكن الخيال).
الحكايا المحرمة في التوراة حذفها رجل دين كان يريد أن يصنع صورة لأبطال مقدسين.. صورة خالية من الرغبات والشهوات... خالية من الحياة.
وبعيداً عن الصراع الديني الذي يدفع الكهنة للحذف من كتاب مقدس.. مثل التوراة.
تبدو سلطة الرقابة والتحريم سابقة على أي نص.
سلطة تتحرك مثل القوى العلوية وتكتسب قوتها من تأثيرها النفسي، وليس من وجود ملموس يمكن أن تحاربه أو حتى تتكيف معه.
عليك أن تطيعها في العلن كالمسحور، بينما تبحث عن طرق سرية في تعاطي ممنوعاتها.
الرقابة في الحالتين هي التي ترسم أفق تمردك، كما تضبط حدود معرفتك.
هل من المهم أن نقرأ المحذوف من التوراة.
القراءة السرية ممتعة (الممنوع مرغوب)، هي أبسط أسلحة مقاومة السلطة الجبارة.
مثلها بالضبط مثل النكت هي في الأساس اعتداء على محرمات وكلما كان المجتمع غارق في حالة دروشة سياسية (خرجت النكت لتكسر حالة الاندماج.. التوحد.. للدراويش).
وكلما كانت السلطة جبارة كانت أكثر عرضة للسخرية.
وكلما كان التمسك بالتدين شكلياً.. ومتزمتاً.. كان رجال الدين أبطالاً في أحدث نكتة.
لكن التنكيت شفوي (قبل اختراع الرسائل القصيرة في الموبايل).
والكتابة فعل آخر ضد الزمن.
سلطة خيال مدونة على ورق مثل الرسم هو تجسيد للخيال.
هكذا يحرم المسلمون السنة فقط رسم الأنبياء.
بينما هو جزء من عقيدة المسيحيين.
والمسلمين الشيعة أيضاً.
الصور والرسوم جزء من الإيمان برموز مقدسة عند المسيحيين والشيعة الذين رسموا النبي محمد والأئمة المقدسين من الإمام علي وحتى الإمام الخميني مع اهتمام خاص بشخصية الحسين شهيد كربلاء.
والرسم بالنسبة لهذه العقائد ليس محرماً بل هو لعبة مفتوحة مع الخيال الذي يصنع صورة الشخصية المقدسة حسب ثقافة كل مجتمع ونموذجه في الجمال الروحي والجسدي. السنة يحرمون رسم الأنبياء لأنهم يبنون العقيدة على التجريد.
وعلى صورة مجردة للمقدس.
هكذا ليس غريباً في ظل احترام حرية الأديان بعيداً عن الهستيريا.. أن يباع في القاهرة كتاب (وتنشر منه طبعة مصرية) يتضمن قصص الكتب المقدس مرسومة بخيال رسامين محترفين... بينما عقيدة الأغلبية تحرم التصوير.. ورسم الأنبياء (ليس بناء على نص صريح في القرآن.. ولكن التفسيرات والأعراف تحولت إلى أوامر مقدسة).
لكن في ظل ذهنية التحريم ومحاكم التفتيش أو الهستيريا الجماعية يمكن أن يتحول الاختلاف في العقيدة إلى فتيل حرب دينية من النوع الثقيل.
ربما ستكون الحكايات المحرمة في التوراة صدمة لكثيرين لم تعرفوا من قبل على «سفر التكوين».. المليء بحكايات وعلاقات جريئة تصلح لتكون مختبراً للخطايا الإنسانية.
قراءة الحكايات معرفة جديدة.
وخروج عن اتفاق الرقابة المقدس.
لن يفقد مؤمن إيمانه لمجرد القراءة.
ولن يهتز دين لأن شبكة حكاياته المحرمة اخترقت.
هذه إذن مغامرة الاقتراب من موضوع خطر في كتاب مقدس مثل التوراة.
وهي مغامرة نتمنى أن يراها الناس من باب الحكمة الشهيرة: «اختلافهم رحمة».
والمقصود كان اختلاف الفقهاء.. الذي يفسر دائماً في مصلحة الناس.. ولصالح الحياة.
لكن الفقهاء اليوم أصبحوا نجوم تليفزيون وزعماء فضائيات.. يتصارعون على الفتاوى الغريبة التي تشهرهم.
وهي غالباً فتاوى تحريم.
هذه أيام المحرمات.
يلمع رهبان وأوامر التحريم.
وينفجر هوس الحصول على فتوى في كل كبيرة وصغيرة من انتخاب الرئيس إلى شكل الملابس التي ينام بها الرجل مع زوجته.
لماذا يريد الناس أن تتسع دائر