ملف الجسد / الجسد والهوية: تمثلات الجسد في الثقافة العربية
2006-04-08
كان موقع "ألف" قد فتح ملف الجسد منذ انطلاقته بوصفه تعبيراً عن هاجس ثقافي راهن، أخذ يستقطب اهتمامات الكتابة العربية الجديدة، إذ لطالما كان الجسد مفردة مغيّبة ومسكوت عنها لاعتبارات عدة، وبالتزامن مع ملف الجسد الذي أعلنا عنه، جاءت من ضفة أخرى ندوة تناولت الموضوع ذاته، أقامها المعهد الفرنسي للدراسات في دمشق، وكأن في هذا التزامن مرآة تعكس اهتمامات الآخرين هنا متابعة بانورامية لمجريات هذه الندوة النوعية .
"ألف"
استضاف المعهد الفرنسي للدراسات الشرقية في دمشق أخيراً، ندوة عالمية تحت عنوان "الجسد والهوية: تمثلات الجسد في الثقافة العربية"، بمشاركة باحثين ونقاد عرب وأوروبيين، ودارت وقائع هذه الندوة الاستثنائية حول محاور عدة على مدار يومين، وجدت في الجسد مفردة أساسية للتوغل في فضاءات فلسفية واجتماعية وأدبية، لطالما نظرت إلى الجسد نظرة مواربة وملتبسة، بسبب ثقل المحظورات التاريخية، وسطوة ثقافة المحرّم على آليات الإبداع العربي عموماً، الأمر الذي أفرز نصاً هجيناً وناقصاً، وأحياناً ممنوعاً أو منتهكاً، سواء لجهة التأويل، أم لجهة الإقصاء، وبدت المسافة بعيدة بين الخطاب والممارسة. هكذا استعادت منى فياض "لبنان" في بحثها "الجسد كمركز للازدواجية" مفارقة عربية بامتياز "فبينما تتم مصادرة كتاب النفزاوي (الروض العاطر في نزهة الخاطر) في بلادنا، نجده يعد من أهم الأعمال الإنسانية التي احتضنتها المكتبة الغربية"، ويحدث الأمر ذاته بالنسبة لمؤلف فريد مثل ابن حزم الأندلسي الذي كتب واحداً من أجمل الكتب العربية عن الحب "طوق الحمامة" إلى "أندلسي من أعلام السياسة والقانون يكتب عن الحب" بحسب مقدمة فاروق سعد للكتاب، في الوقت الذي يشير الباحث الفرنسي "سيرلينك" إلى أن تاريخ الحب كان من اختراع العرب في القرن الحادي عشر الميلادي. وتشير صاحبة "فخ الجسد" إلى أن إشكالية السيطرة على الجسد في العالم العربي الإسلامي تتجلى في تضارب المرجعيات وتناقضها تجاه حرية الجسد، خصوصاً فيما يتعلق بالقوانين الشرعية.
وأوضحت أوراق أخرى في الندوة معنى الجسد المغطى، والجسد المغتصب، وصورة الجسد والروح لدى الفلاسفة العرب مثل الفارابي وابن رشد.
أما "تصور الجسد اجتماعياً" وهو محور الجلسة الثانية في الندوة، فقد أخذ أبعاداً أخرى، تتعلق بتقنيات الجسد، آلياته في التماهي في المكان كحالة عسف بالدرجة الأولى، فتناول فواز باقر "معماري سوري" في شهادته "الجسد والفضاء السكني" مفهومي الطهارة والنجاسة في عمارة البيت العربي التقليدي، والعلاقة الوظيفية بين ما هو ذكوري وما هو أنثوي، وما بين الليلي والنهاري في فضاء السكن، قبل أن تخلخل الحداثة خصوصية هذا البيت، من دون أن تتوصل إلى حلول معمارية خلاّقة، معتبراً أن البيت العربي التقليدي في طرازه، كان متصالحاً مع الحداثة، بينما أهملت المساكن الحديثة، خصوصاً في السكن العشوائي، هذه المنظومة القديمة، بسبب اختلاف ترتيب الفضاء الداخلي للمكان، ما أدى إلى ممارسة جسدية مختلفة كانعكاس لعولمة السلوك الجسدي. وعلى رغم أهمية هذه الشهادة إلى أن صاحبها أهمل نقاطاً جوهرية في علاقة الجسد بالمكان المعاصر، إذ أن نظرة عجلى إلى نمط العمارة السورية منذ حقبة الستينات وما تلاها، تكشف على الفور نمط ثقافة اشتراكية وافدة، تجلت على نحو خاص في العهد الناصري "فترة الوحدة السورية المصرية"، هذه الفترة التي أفرزت نمطاً عمرانياً موحداً، يشبه الأقفاص، مما فرض على الجسد فضاء كتيماً كنص مواز لثقافة القمع، وتالياً صار هذا النمط المعماري سلوكاً متواصلاً إلى اليوم، ليس في السكن فحسب، إنما في فضاء كتيم آخر يتمثل في "الميكرو باص"، أو "سيارات السرفيس" التي تتطلب تماهياً جسدياً مع السقف الواطئ، يتطلب من الراكب أن يحشر جسده بقطيعية في فضاء متحرك يشبه عربة المساجين!
ومن ضفة أخرى، رصدت سيلفيا شيفوللو "فرنسا" في دراستها" أجساد حجيج مكة:صور وأخبار من نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين"، سطوة النظام الاستعماري في التعامل الاإنساني مع أجساد الحجيج عبر250 صورة فوتوغرافية ملتقطة من مركز للحجر الصحي، اثر انتشار مرض الكوليرا، وتوضح هذه الصور الإجراءات القسرية التي كانت تمارس على أجساد الحجيج، على عكس المنطق الديني الذي لم ير في هذه الأجساد إلا رحلة مقدسة.
أما حسان عباس"سورية" فقد وجد في بحثه"أسطرة الجسد" أن هذا الهوس في أسطرة الجسد، يمتد عميقاً في الخيال الإنساني إلى "ملحمة جلجامش"، هذه الملحمة التي تؤسس لتصور ثقافات شرق المتوسط القديمة لمكانة الإنسان في الكون، مروراً بالأبطال التاريخيين الذين أضفت عليهم كتابات الرواة ملامح إلهية، ووصولاً إلى تمثلات الجسد المؤسطر في المجتمعات العربية المعاصرة، وقد تمت في ظروف تاريخية وسياسية وعقائدية محددة، جعلت من جسد الزعيم أو القائد لحظة أسطورية غير مرئية، بعد أن تم حجبها وراء أكوام من السواتر والحجب، ليكتسب شيئاً من قدسية التجلي ككائن أسطوري مقدس.
الجسد في الفن التشكيلي
يلحظ أحمد معلا في دراسته"الجسد في الفن التشكيلي السوري" أن الجسد طارئ مثله مثل التشكيل السوري الذي يحتضنه، عدا بعض المفردات التي جاءت كخيار ثقافي وافد، وهذا ما تمثله أعمال فتحي محمد ومحمود جلال العائدين للتو من بعثة دراسية في أوروبا، في خمسينيات القرن العشرين، ما أدى إلى انقلاب صريح على الأشكال التقليدية التي وسمت ملامح التشكيل السوري آنذاك، وبدت أعمال تشكيلين أمثال لؤي كيالي، وفاتح المدرس، ونصير شورى، والياس زيات، بمثابة مختبر تعبيري، كان الجسد هو البرزخ للعبور إلى لغة جديدة، خصوصاً بوجود "موديل عاري" في كلية الفنون، بينما تفتقد الكلية نفسها اليوم إلى مثل هذا الموديل. على أن معظم هذه التجارب، تخلت عن الاشتغال على الجسد العاري بذريعة البحث عن لوحة عربية، تتمثل في استعادة التراث الأسطوري للمنطقة، وتأصيل تشكيل محلي ينهل من هذا الموروث، ولهذا، يعلّق أحمد معلا، "لم يعد الجسد يشكل موضوعاً حيوياً"، ما أدى إلى انحباس الجسد العاري في الإطار التعليمي داخل المحترف (تمرين أكاديمي للتعرف على الجسد خلال الظل والنور واللون)، وبعد جملة هزائم، انتقل التشكيل السوري إلى موضوعة "الجسد المقاوم" مثلما رسمه نذير نبعة، ولاحقاً يوسف عبد لكي "الجسد المعتقل" كترجيع لفترة من العسف السياسي، قبل أن يستعيد مفرداته المغيّبة قسراً، وهاهو في أعماله الأخيرة يختزل بهجة الجسد بفردة حذاء امرأة.
ويوضح أن استقصاء خطوط الجسد الأنثوي في التشكيل السوري بقي أسير "تردد الريشة المرتعشة"، وهذا مايبدو جلياً في أعمال أسعد عرابي التي تماهي بين الأجساد بخطوط وإشارات، فيما يخفي نذير نبعة تعبيراته الأيروسية بين الجسد الأنثوي وقطرة الماء أو النبات، وحين يغامر فنان شاب في منتصف السبعينات من القرن العشرين هو جليدان الجاسم في رسم امرأة عارية تزيّن صدرها اقتباسات من نصوص مقدسة، يزج في السجن.
ويختتم هذا التشكيلي السوري دراسته بقراءة الآن، فيجد أن حقبة التسعينيات وما تلاها من انكسارات عربية، "أفرزت نصاً تشكيلياً مغايراً، إذ نشطت التجريدية، وازدهرت الحروفية، بعيداً عن الجسد وهمومه وصياغاته، فرسم نذير نبعة نساء حالمات ومزينات بالحلي، وانشغل فاتح المدرس بالجسد الطيني الأول لإنسان المنطقة، وكانت المفاجأة بروز تجارب أنثوية شابة برزت مع مطلع الألفية الثالثة، في مواجهة تصورات ذكورية للجسد، وهذا ما تعلن عنه أعمال سارة شمة، وريما سلمون، ودنيا بيطار، إلى هالة الفيصل التي أطاحت بكل التقاليد، عندما وقفت عارية تماماً منذ أشهر في إحدى ساحات نيويورك، ولطخت جسدها بشعارات مضادة لحرب أمريكا على العراق.
وهذا التناوب في تجليات الجسد هو ما أشارت إليه أيضا الباحثة الفرنسية سيليفيا نايف في بحثها "الجسد المستور والجسد المسفور في التصوير العربي الحديث".
الجسد في الأدب العربي
اختتمت الندوة فاعلياتها بمحور حيوي آخر هو "الجسد في الأدب العربي"، فرصد جمال شحيد "سورية" في ورقته "الجسد في روايات جبرا ابراهيم جبرا"، تجاذبات الجسد لدى هذا الروائي، خصوصاً في روايته "البحث عن وليد مسعود"، ورأى أن الجسد الصلد، يبدو وكأنه قدر محتوم لا يمكن مصادرته أو إخفاءه وراء أقنعة الخيال والوهم، وهاهي "وصال رؤوف" تناجي "وليد مسعود" بقولها "خطاياك معي كثيرة، وليس أقلها أنك علمتني هذه الكلمة (الجسد)، وأنت أشد من عرفت في حياتي تعلقاً بأمور الروح. أوقعتني هكذا في خطيئتك: أنت تكتب الجسد، ثم تبحث عن الجمر في الروح". ويشير الباحث السوري إلى أن" الجسد عند معظم شخصيات جبرا طاقة عاتية جائرة، إعصار مدمر، جارف، يقود إلى العته والجنون والموت"، فيما يأخذ الجسد المحموم أبعاداً شفيفة رحبة، تفتح فضاءات الزمن ومتاهاته، لينتقل من "الصوفية إلى زوبعة الحسية، الأمر الذي ينعكس على لغته، كما لو أنها مرآة لكل الحواس".
من جهتها اختارت رانية سمارة "فرنسا" في بحثها "الجسد السجين" ثلاث تجارب روائية عربية، اعتبرتها نماذج أصيلة لأدب السجون العربي، وانطلقت من رواتي "تلك الرائحة"، و"شرف" لصنع الله ابراهيم، و"شرق المتوسط"، و"الآن هنا" لعبد الرحمن منيف، و"مجمع الأسرار"، و"يالو" لالياس خوري، وقالت "نحن لسنا إزاء رواية شبيهة بالحياة الواقعية، بل إزاء الواقع الذي يتخذ شكل الرواية"، وتمحور البحث حول ثلاثة مواقف أساسية هي:الجسد السجين وحياة السجن، وانتهاك الجسد والتعذيب، ومآل الجسد إن قدر له استعادة حريته. وتلاحظ الباحثة أن التعبير عن الجسد السجين هو واحد تقريباً لدى مختلف الروائيين الذين تعرضوا لتجربة السجن أو الذين كتبوا عنها، سواء في طرق السرد أو الأداء اللغوي.
نسرين جعفر "جامعة اكسفورد" خصصت بحثها للجسد في رواية "سيدي وحبيبي" لهدى بركات، ورأت أن هذه الرواية تمثل الجسد المهمش بوصفه هوية لصاحبه أو محاولة لتحقيق هوية مغيّبة، وأحياناً مشتهاة، فتأتي الحياكة الروائية وكأنها علاج لاكتشاف العلاقة الملتبسة بين الجسد والهوية في الالتقاء والتلاشي، ضمن حركة دائرية لا تكتمل إلا باكتمال الحكاية، وهكذا حين يتوقف "وديع" بطل الرواية عن سرد حكايته، تقوم "سامية" زوجته بإكمال حكايته وترميمها، كما لو أنهما شخصية واحدة، في مسعى لاكتشاف الذات بعيداً من الهوية المفروضة، وتبدو الرواية فضاء لأسئلة أشبه بالألغاز، حول معنى الجسد وتحولاته وعبوديته للآخر في سلسلة من التجاذبات والقمع المتواصل إلى أن يتحول الشخص المهمش في لحظة مضادة إلى وحش متوهم، يقوم بقلب الأدوار.
في البحث الذي قدمته ديمة شكر "سورية" عن "أطوار الجسد في الشعر العربي"، مروحة واسعة من الأمثلة القديمة والحديثة في اقتفاء أثر الجسد في قصائد تمتد من أمرئ القيس والنابغة والمتنبي إلى السياب ونزار قباني وأدونيس ومحمود درويش، وأشارت إلى ندرة ظهور الجسد الذكوري في هذه التجارب، فالحصة الكبرى يحتلها الجسد الأنثوي، وأوضحت أن الجسد الجاهلي كما بدا في شعر امرئ القيس، يأخذ بعداً حسياً صريحاً، لا يتوقف عند حدود النظر، إنما يتجاوزه إلى وصف شهواني. وتتجلى هذه الشهوانية أكثر لدى شاعر آخر هو النابغة الذبياني، خصوصاً في قصيدته المشهورة "الدرة اليتيمة"، وفيها وصف دقيق لجسد المرأة بكل تفاصيله، أما أبو نواس فقد اخترق مناطق أكثر إباحية، على عكس المتنبي الذي وصف الجسد الأنثوي بعفة ظاهرة.
وفي تجارب الشعر الحديث تشير ديمة شكر إلى أن نزار قباني اشتغل على قصيدة الجسد من موقع ذكوري ونرجسي، فيما تذهب قصيدة السياب إلى التقاط الجوهر الإنساني للجسد الأنثوي، ووصف الجسد الذكوري العليل انطلاقاً من مأساته الشخصية مع المرض. وفي إشارتها إلى قصيدة الجسد لدى أدونيس، تكتشف صورتين لغرض الحب، الأولى حسية، والثانية إباحية، حيث يوائم بين الحركة الموحية واللفظ الصريح. وأخيراً تذهب الباحثة إلى مقاربة الجسد في شعر محمود درويش، فتجد أن قصائده تنأى عن الأغراض الشعرية التقليدية، وتطرح تنويعات جديدة على الجسد، خصوصاً فيما يتعلق بالجسد الذكوري، وهذا ما نجده في "الجدارية" التي كتبها اثر مرضه.
ولعل ما يؤخذ على هذا البحث تجاهله تجارب الأجيال الشعرية اللاحقة التي توغلت أكثر في مقارعة الجسد بمكاشفة صريحة.
إيمان توهامي
2013-08-12
مقال مثير حيث يطرح أعقد تيمة تحمل معها ابعاد أيديولوجية كبيرة الا وهي تيمة الجسد مما تطرحه من مواضيع شائكة تلتبس بالسياسة و الدين و المحتمع ولا كن وجب اخراج الجسد من حيز الكبت و القمع واعادة بلورة الوعي به في ثقافتنا العربية لكي يخرج من حدود المفروظة علية من الجسد /الانثى و الجسد /الجنس و يشمل الجسد وعلاقته بكونه وامتداده في الفضاء و علاقته بالذات
08-أيار-2021
12-حزيران-2009 | |
18-نيسان-2009 | |
27-أيلول-2008 | |
08-آب-2008 | |
15-أيلول-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |