سوبر ماركت لبيع فجل الشعر وبصل القصة وبقدونس الرواية
2006-04-08
إعلان غابرييل غارسيا ماركيز اعتزاله الكتابة، كان بمثابة الصدمة بالنسبة لملايين القراء في العالم، فصاحب "مئة عام من العزلة" حجز رفاً أثيراً في المكتبة العالمية، ونقش شخصيات لا تمحى من الذاكرة، منذ أن اخترع شخصية "ريميدويوس" الجميلة وكساها بملاءات بيضاء كي تصعد إلى السماء!
"غابو" الذي سوف نفتقده كثيراً، أشار إلى شكوكه بعودة الإلهام إليه، فهو طوال العام المنصرم، لم يكتب حرفاً واحداً، واستبعد أن يكتب في المستقبل.
تصريح خطير مثل هذا، يبدو "عربياً" كما لو أنه مجرد حلم وردي، فيما لو تجرأ كاتب عربي "كبير" التفوه به، ولو على سبيل المزاح، أو حتى مجرد تهديد القراء بأنه سوف يهجر الكتابة. ما يحدث في خريطتنا الممزقة والمهترئة، أن معظم الكتاب العرب الكبار (في السن على الأرجح) متمسكون بخشبة المسرح بأسنانهم (الأرجح أنهم بلا أسنان أيضاً) خشية الغرق في السفينة المبحرة إلى لا مكان، وخشية أن يصعد كاتب مغمور ويحتل الخشبة أو طرفاً منها، ويعلن عن وجوده.
أفرزت حقبة الستينات من القرن الماضي، عشرات الأسماء بماركات مسجلة، تشبه ماركات الملابس (وأحياناً الأحذية)، وفتح هؤلاء دكاكين بواجهات براقة، تبيع فجل الشعر، وبصل القصة القصيرة، وبقدونس الرواية. وكان على الأجيال اللاحقة أن تتذوق طعم هذه "السَلَطَة" وتبدي إعجابها على الدوام بمهارة هؤلاء الطهاة، ونكهة نصوصهم الحريّفة.
ينبغي الانتباه هنا، أن هؤلاء جاؤوا بالسفينة ذاتها التي حملت المشاريع الثورية لضباط مجهولين استولوا على الحكم تحت بند "الشرعية الثورية" على حساب "شرعية الدستور" وما حدث أن صارت هذه النصوص شبه مقدسة بحماية "قانون الطوارئ الأدبي" وبدا أن التذمر من عمل ما لهؤلاء الطهاة (أم الطغاة؟!) ضرباً من الجنون فكيف تتذمر من أعمال هؤلاء الرواد، أو حتى تفكر بمفارقتها ولو أسلوبياً؟ ومثلما صعد الضباط الصغار إلى مراتب الجنرالات، حصل هؤلاء الأدباء، على رتبهم بالطريقة ذاتها، وهكذا صار لدينا: عميد الرواية العربية، ولواء الشعر، وجنرال القصة القصيرة، ومشير النقد الأدبي، وبات من العسير أن تتقدم صفوف الجنود "البيادق" إلى الخندق الأول إلا برعاية هؤلاء الآباء ومباركتهم بمقدمة أو مؤخرة لكتابك أيها الكاتب الناشئ، رغم أنك تجاوزت الأربعين.
حتى الجوائز الأدبية، توزع عربياً، حسب التراكم العمري، وليس الإبداعي، رغم أنها تأتي "في أرذل العمر" حسب ما قال زكريا تامر مرة.
جيوش من الكتاب، تنتظر بلا أمل، أن تتقدم الصفوف، خطوة إلى الأمام، لكن الآباء بما تبقى لهم من حواس، يسهرون على حماية خنادقهم من تسلل ما، يحدث في غفلة من عيونهم الساهرة.
حسناً، الآن ماذا نجد من فتات المائدة؟
إنشاء نافل، وبعض السير الذاتية المشتهاة، تحولت مع الزمن إلى سير حقيقية من فرط التكرار والاشتباك معها، في المقالات والحوارات والزوايا، فالكاتب العربي يعيش على أوهام أمجاده القديمة وبطولاته المتوهمة، فيصير فعل "كنت" وهو فعل ماض ناقص، المضارع الوحيد في حياتهم، ثم يغوصون بعزف منفرد على الربابة تحت بند "الأصالة" ثم يخترعون إجابات على أسئلة لم توجه إليهم إلا في الخيال، كأن يقول أحدهم "هتفت لي قارئة"، وليس قارئاً بالطبع، فالأمر هنا يحمل دلالات متعددة، بينها "الفحولة" على ما أعتقد (ما الذي يفعله كاتب في السبعين من عمره لقارئة شابة سوى أن يتعكز على كتفها، كي لا يقع في المسافة القصيرة التي تفصله عن مكان لقضاء حاجته؟)
أمامي خريطة من الأسماء التاريخية في الصحافة والأدب، تكتب منذ عقود، ما يشبه طعام المرضى في المستشفيات، الأمر الذي يضعني مرغماً أمام إحساس غريب، هو مزيج من الضجر والشفقة، وأحياناً الغضب، بسبب حبر مهدور في زوايا ودوائر ومستطيلات كان بالإمكان أن تحتلها أقلام جديدة، متعطشة للأسئلة الحارة والسجال والجدل، بدلاً من الاجترار التاريخي للأسماء ذاتها، بصورها القديمة، ومواضيع تعبيرها المدرسية، وشكواها من الروماتيزم ومرض السكري المزمن، وحروف العلة، وكأن وجودها الراسخ، صار بحكم "وضع اليد" أكثر منه الحاحاً من القراء.
آمل أن أستيقظ ذات صباح، على هدية من أحد هؤلاء الجنرالات، يزف بها خبراً عاجلاً، أنه اكتشف أن الإلهام فارقه إلى الأبد، وأنه اعتزل الكتابة من موقع احترامه لذاته أولاً، واحترام القراء ثانياً.
غياب واحد مثل ماركيز خسارة أكيدة، وغياب هؤلاء يشبه الورقة الرابحة في اليانصيب، ولكن للأسف، فإن دواليب الحظ، لا تتوقف عند الأرقام الرابحة التي نرغب بفوزها!
08-أيار-2021
12-حزيران-2009 | |
18-نيسان-2009 | |
27-أيلول-2008 | |
08-آب-2008 | |
15-أيلول-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |