مواجهة مع الروائي العراقي برهان الخطيب
على الانترنت مواقع حوار متنوعة، بعضها سياسي، آخر أدبي، اقتصادي، تنزيل أغنيات، كتب ألكترونية، بيع وشراء، غير ذلك، بمختلف لغات العالم. العربية لها حضورها البيّن. يجرون نقاشات عديدة ويتبادلون زيارات على الشبكة العنكبوتية، صاخبة أو هادئة حسب نوعية المجتمعين حول طاولة الفضاء غير المرئية لمواضيع عديدة، قد تكون ذات شأن، أو بلا أهمية سوى للمتحاورين، بعض المنتديات الثقافية نجح في استضافة أسماء أدبية معروفة، وثق معها على صفحاته الفسيحة معلومات واختبارات، موقع مدد) حاور سعدي يوسف، قاسم حداد، برهان الخطيب، وغيرهم. هنا استعراض لبعض ما جاء في آخر لقاء لجمهور مدد، وهم كتاب وشعراء شباب، مع الروائي العراقي المعروف برهان الخطيب..
ثورة الرزوق: أستاذ برهان، ما العلاقة بين (صيادون في شارع ضيق( لجبرا التي تتحدث عن مأساة قومية من خلال فندق قديم في بغداد، و( شقة في شارع أبو نواس) روايتك السائرة على هذه الخطى؟ هل هي علاقة شرعية أم أنها تقاطعات من باب الصدفة مع كاتب رائد. وأيضا ماذا عن كتابك القادم ( الروائي وعالمه ) متى يصدر وأين؟ فكرة عنه لوسمحت.
* (صيادون في شارع ضيق) صدرت بالعربية في الثمانينات الماضية، (شقة في شارع أبي نواس) صدرت عام 72. عند هذا الحد كان يمكن التوقف إيضاحا لشبه في رأيكِ بين الروايتين، لكن ذلك التوقف سيكون برأيي غير منصف للراحل الكبير جبرا، قد يستدل منه أن الفنان جبرا تأثر ربما بروايتي هذه، باعتبارها صادرة قبل روايته، هذا غير صحيح، جبرا لم يتأثر بها سنرى، تحديدا في هذه الرواية، كتب روايته ( صيادون (الحقيقة قبل روايتي أعرف. لو قلت روايته المذكورة نشرت بالإنكليزية أولا عام 1960 واكتفيت أمكن هذا الحال الاستدلال بأني أنا الذي تأثرت بروايته، هذا أيضا غير صحيح، لأني لم أقرأها بالانكليزية، عدت في اليومين الماضيين إلى (صيادون..) وقرأتها ثانية، قراءتي الأولى لها كانت نهاية الثمانينات بعد صدورها العربي، في كلا القراءتين استمتعت وخرجت بانطباع حسن عنها، أكثر إيجابية من رأي المعلم جبرا نفسه عن روايته هذه، معلوم الكمال طموح معلم، في حديث لي مع جبرا أواخر الستينات ما يستوجب ذكره هنا. وقتها عام 1968 عملت مهندسا في بغداد بمكافحة الفيضان وفي نفس الوقت كنت أنشر قصصي في مجلة جبرا الشهيرة (العاملون في النفط). بعد صدور روايتي)ضباب في الظهيرة) ذلك العام قالت لي سكرتيرته عند مروري لاستلام مكافأة نشر وتسليم قصة جديدة لهم (الأستاذ جبرا يريد يشوفك) دخلت في مكتبه المجاور وأنا في ملابس العمل، هنأني على صدور (ضباب..) استمر حديثنا طويلا في أثنائه قال أنه يجد شبها بين (ضباب..) وروايته المنشورة بالإنكليزية (صيادون..) بتركيب الأشخاص، بالجو، بالنقاشات الفكرية فيها، ولو كان ترجمها قبل حين لفاز هو كأول مَن وضع رواية في العراق، تردده في ترجمتها إلى العربية أرجعه هو لعدم قناعته بها، كتبها برأيه وهو في مرحلة (السنوبزم). كانت تلك أول مرة أسمع الكلمة، سألته عنها، قال مرحلة يمر بها كل كاتب، مراوحة بين العقل والجنون، لم أرض أن يقال هذا عن روايتي، أوضَحَ (ضباب..) دليل على تفتح كاتب آخر. جيلنا الستيني رفض التتلمذ، لكني رأيت جبرا أستاذا. في لقاء آخر لنا قال اكتب قصة للمجلة عن (الفيضان) كرمز لعدو خارجي، قلت ويمكن أن يكون لعدو داخلي، رغم كراهيتي لمفهوم العدو سابقا ولاحقا. جئني بالقصة وسوف نرى قال. قدمتها إليه بعد شهر متأكدا من عدم صلاحيتها للنشر في (العاملون) لنهجها الواقعي جدا، ولم ينشرها، الآداب اللبنانية نشرتها بعد ثلاثة أعوام بعنوان) الطوفان) وترجمت إلى لغة أجنبية.
وبعد ذلك حين علمت بأن روايته صيادون قد ترجمت ونشرت سعيت لقراءتها، لم يمر في بالي شبه لها بـ (شقة..) وشبهها بروايتي (ضباب..) برأي جبرا خالفه غياب المرأة في روايتي هذه عن عمد، رغبة مني في كتابة رواية غير تقليدية، وحضورها القوي في رواية أستاذنا جبرا، في سعي لكتابة رواية تقليدية. التقاطع والتلاقي ممكن، القارئ ذو البصيرة يكتشفه أحيانا قبل الناقد. لو قلتِ لي (شقة الحرية) للقصيبي تشبه جدا (شقة في أبي نؤاس..) الصادرة قبلها أيضا ما دهشت، البعض نبهني لتشابههما حد تطابق، ما تحققت منه حتى اليوم.
(الروائي وعالمه) جاهزة للنشر، متى تصدر لا أعلم تماما، لو وجدت ناشرا منصفا تصله، يمكن التنبؤ بما يحدث في الأوقيانوس لكن لا محيط النشر العربي. الكتاب يشير عنوانه مقابلات ودراسات لنخبة من الأدباء في فن الروائي الخطيب وغيره.
مدد: برهان الخطيب مع الشاعر محمد مهدي الجواهري، هل يحدثنا عنه:
* الجواهري التقيت معه في بغداد مصادفة في بيت أحد الأصدقاء ليلا عام 68، كنت تعبا وقتها وصعدت للنوم دون استماع أو كلام معه سوى كلمات قليلة، ثم وقعنا نهاية الستينات جنبا لجنب عريضة تطالب بالديمقراطية للعراق، منتصف السبعينات كان لنا لقاء طويل مشترك ضم الروائي غائب طعمة فرمان والشاعر المثقف علي الحلي وآخر، في الثمانينات استمرت رفقتنا أياما في طشقند، سهرنا سوية وتكشفت لي أبعاد جديدة لشخصية الجواهري الوعرة الوجوه، هناك عراقيون يعرفون الجواهري أفضل مني طبعا، الرجل كشاعر لا يبارى، كشخصية تشعر عظمتها حال تكون في تماس معها، هذا الشعور متأت من طريقة ومحتوى كلامه وحركاته وفهمه ما حوله جيدا، امسكني يا برهان لئلا اسقط، قال لي على السلم فقلت له مبتسما متلقفا ذراعه: الجواهري وأمثاله لا يسقطون، خاصة إذا كان جوارهم برهان أو أمثاله، توقف ونظر إلي طويلا فاهما مغزى كلامي وأضاف: الصعود سهل لكن قد يحدث السقوط بزلة ويضيّع المقتدر ما كسبه بالصعود.
أحيانا يكون نزقا؟ لا بأس من هذا، على العكس، رأيت في نزقه زينة له، أحببته أنا على العموم جدا، ذمه البعض كالخليلي، لكن لا حق للخليلي في هذا، لأسباب لها علاقة بطبيعة الشخصين. رغم فارق السن الكبير وصيته العريض لم يشعرني الجواهري مطلقا بكبره عليّ، لا ولا على المحيطين به، نقل لي أحد الأدباء الشباب أن الجواهري كان يستحثهم للإسراع بالذهاب إلى موعد لنا خشية أن ينتظره برهان الخطيب دقائق أكثر من اللازم. في حديث عن هذا الشأن وذاك في أدبنا رأيت تطابقا مذهلا بين آرائه وآرائي، كان بسيطا، دمثا، محبا للجمال، يكاد يذوب في حضرة امرأة جميلة، لكن دون تصاغر.
ثورة وصالح الرزوق: أدعو الناشرين للعودة إلى)الروائي وعالمه). أحاديث الكتاب ملح الأدب. استمتعنا بحوار السيف والقلم لإدوارد سعيد. و بحديث مع نجيب محفوظ للغيطاني. و برأي حسنين هيكل عن الثورة والثقافة ليوسف القعيد، و هلم جرا. سؤالي الآن 1: ما تعتقد عن مجتمع المرأة فيه كائن ليلي: فكرة جنسية. تضاد مع الذكورة. وهل العهر غريزة في البنية التحتية للمدن أم تعبير مجازي وظاهرة اجتماعية. في الريف لا رذيلة، حب حرام نعم. حبذا لو تعلق على ذلك.. س 2: في رواياتك دائم الترحال. هل في جذرك الإنساني عقدة السندباد البحري، أو عقدة كولومبس الذي اكتشف قارة ونسبت إليه. س 3: الحوار لديك سُنة نصية منذ (شقة في شارع) إلى (على تخوم الألفين ..) يبدو لي حوارا مع ذاتك، مونولوغا، لا مع الآخر ما رأيك؟
*ثلاث أسئلة تضم عشرات الأسئلة، كيف الرد على الأول، حسابيا؟ أي: ناشر عربي + مؤلف = مشكلة. أو شعريا: أيا ليت الناشر يعود يوما.. لأخبره ما فعل بي الكتاب.. أو نثريا: الشرير هو الناشر رغم تلبسه مسوح الخير، والمؤلف هو الشاب الطيب رغم جهامته المكفهرة؟ والصراع بينهما أبدي. الحديث عن الناشرين متشعب طويل يسبب الملل، أحد كتبي وصلني خبر نشره عن طريق أحد الشعراء المعروفين بعد خمسة أعوام من نشره ولما اتصلت بالناشر معاتبا على عدم إرساله بعض النسخ إلي اعتذر بأنه لا يعرف عنواني ولنفاد النسخ أرسل ملزمات الكتاب متفرقة مع د. حليم الرهيمي قائلا ليجلدها المؤلف بنفسه، الناشر لم يكذب طبعا هنا، مكتبة في المغرب أخبرتني طلبوا الكتاب من ناشره مرات وهذا يرد طبعت من الكتاب ستة ألاف نسخة ولعله يطبعه ثانية. ناشر آخر كان أكثر طرافة: أنا الذي جعلت برهان روائيا وعليه أن لا ينسى لي هذا الفضل. إذن علينا نسيان دور المجتمع والأهل والاستعداد البيولوجي لشخص ليكون روائيا أو كناسا، مع احترامي الكامل للكناس، ونذكر فقط دور الناشر. أعود إلى سؤالكما عن مجتمع المرأة فيه كائن ليلي في تضاد مع الذكورة، يبدو لي هكذا مجتمع يوجد في مخيلة مثقف يهمه تنميط وأرشفة كل شئ أمامه، البغي قابلها جلجامش على أقصى معمورته، الواقع يختلف عن تصوراتنا عنه، هو أكثر غنى دائما من تصورتنا المرتكزة غالبا على معلومات غير كاملة. غالبا أيضا نعمم تجارب شخصية ونراها حقيقة مطلقة، نصدق الحال هكذا ونعكسه على أفكارنا اللاحقة فنبقى مخدوعين غير قادرين على تجديد أنفسنا، نعم توجد مراكز حضرية تشيّئ المرأة، كما توجد في الطبيعة مناطق دافئة، أخرى زمهرير، مراكز في حاجة لإصلاح، أمنا الطبيعة خيرة تعلمنا الصح والخطأ، كذلك كتب الأولين، في السويد مثلا يجرمون الدعارة والمستفيد منها، الحضارة تجري عملية ترشيد لنفسها، وإلاّ دمرتها عيوبها، هذا لا يتم سريعا للأسف. الوضع بين الريف والمدن كالوضع بين الطفولة والرشد، بين الحلم واليقظة، للريف سماته وللمدينة سماتها ولا يحسن مقارنة أحدهما بالآخر، المقارنة بين شيء و شيء متقاربين كالمقارنة بين تفاحة وبرتقالة مثلا، لكل مذاقه ونكهته، مع تطور الهندسة بجميع أنواعها، وراثية وغيرها، قد يبتكروا يوما فاكهة تجمع سمات الاثنين، أيضا مدنا فيها فضائل الريف. لن يمنع أحد الريف من التحول إلى مدينة مستقبلا والالتحاق بها في الأقل، أو إرجاع المدينة إلى ريف، هما يحملان في ثناياهما أسباب بقائهما وتغيره، مع وجود هذا الحنين للريف بين جوانح ابن المدينة يسلمون بضرورة أن يكون للآدمي بيتا هنا وآخر هناك، كثرة لا تجد لها بيتا ولو من صفيح، هذه مسألة أخرى. يبدو لي حين يتكلم اثنان من وسط واحد لا يتحاوران في الحقيقة ولا يتفاهمان، لأنهما متفاهمان أصلا، على معاني الأشياء والقيم، إنما يتبادلان معلومات، كلاهما يتكلم إلى قيّم غير مرئي فوقهما، حدد لهما في اللاوعي حدود الكلام. الحوار يبدأ حين يلتقي إثنان من عالمين مختلفين، حين يتجلى يظهر كل شئ نسبيا حقا، القانون في الوسط يؤطره مانعا الاختلاف من التحول إلى فوضى، فضيلة المدينة هنا مجال الاختيار فيها أكبر. يجب التوقف عند حد، وإلاّ كتبنا أطروحة..
السؤال الثاني عن ديمومة الترحال في رواياتي ناجم عن نظرة شمولية متعمقة للسائل فيها. أنا أيضا أسأله لنفسي، أجيب لعل فكرة الترحال نشأت من إعجابي بتجربة جدنا الأعلى جلجامش، رحلته إلى أعالي الفرات بحثا عن سر الخلود والمعرفة، أشرت إلى هذا في واحدة أو اثنين من رواياتي، بل وحكمت الظروف أيضا علي مغادرة الوطن، هكذا واصلت خارجه مغامرة الكلمة، الارتحال موجود أيضا في الدم العربي، رحلة الشتاء ورحلة الصيف، مَن ينسى هذا النزوع، الارتحال جزء من عُدة الروائي، من غيره لا يرى نفسه وعالمه جيدا، بالمقارنة يكتشف الحقيقة، الارتحال الدائم بحث عن يقين، اضطراب نصف القرن الماضي لا يمر دون بصمات، حمدا ضرباته لم تفتتني، قستني هكذا شعرت وأشعر، كأنها ضرب مطرقة على فولاذ، الارتحال كان خارجيا، ببدني وكلماتي أكثر منه داخليا، خلاف ما شعره بطلي، بقيت متمسكا بفضائل الأجداد وحلم الشباب في مستقبل أفضل رأيته مرسوما هنا وهناك حيث مررت، انعكس كل ذلك في أعمالي، الشاعر عبد الرضا الصخني كتب عنها: رواياته تملأ رئتيك بهواء العراق وببزوغ فجر أزرق من ماض سحيق لا يلبث حتى يتكشف عن شمس ساطعة..
السؤال الثالث من شقين، الأول عن اعتمادي على الحوار في معظم أعمالي، وهذا صحيح، لرغبتي في أن تكون رواياتي قريبة من حياة الناس وديناميكيتها، الحياة العامة مكونة من حوار، المسرح، السينما، التلفزيون، والرواية، الفنون الأقرب لحياة الناس، لا يتحدثون فيها شعرا ولا رياضيات، الحوار نهر الحدث الروائي، كثرت روافده زاد نماؤه، الرواية تغيرت منذ ديكنز و بلزاك و تولستوي ضمن حملات التحديث التي شاعت مجتمعات، لكن تعود اليوم وغدا إلى أصولها الأولى أكثر رشاقة بما يسمى الكلاسيكية الجديدة. الحوار للرواية أكرر شرايين جسم حي، منذ روايتي الثانية (شقة في شارع أبي نؤاس) عندي المحرك لأحداثها، بعض الفصول كتبتها حوارا، في هذا الحال لا يمكن أن يكون مونولوغا، وإلاّ ما تحركت الرواية، ولا تطور حدثها، بينما تتسارع الأحداث في روايتي هذه وغيرها متأزمة نحو ذروة. و هناك فصل واضح بين العالم النفسي لكل شخص فيها والعالم الخارجي. فنان يعارك نفسه والعالم، اختصر ناقد تقييمه لـ (شقة في شارع)
ربما تهيأ لكما المونولوغ، عودة إلى الشق الثاني من سؤالكما الأخير، لجريان الحوار بين أشخاص خاضعين لظروف واحدة، وهم أصلا من بيئة واحدة، يواجهون مشكلة مشتركة، ما يجعل كلام كل منهم مكملا لكلام الآخر، هكذا يكون بالنتيجة مونولوغا مع ذات واحدة، هذا طبيعي، الذات هنا ذات أمة أو وطن لا ذات المؤلف، وإلاّ اعتمدت على السرد المعتاد واستعمال الضمير الأول، هذا أسهل لمناجاة الذات. أذكر أن أحدهم تكلم بين مجموعة من المعارف والأصدقاء، منهم الروائي غائب فرمان، وكان انتهى في التو من قراءة (الجسور الزجاجية) و(نجوم الظهر) قائلا: بحثت عن برهان في كل الروايتين ولم أجده سوى في سطر من هذه الرواية وسطر من الرواية الثانية، ذكرهما حينه، تحريك مسبحة الصبي في (الجسور)، وبكاء الطفل أمام الحصان الجريح في (نجوم) كأنه بهذين السطرين يوقع عمله مثل هتشكوك بمروره في أحد مشاهد أفلامه. كان مصيبا جدا هنا. ثم أن الآخر ليس بالضرورة يكون نقيضا لنا، أحيانا يكون في داخلنا، لذلك قد يتبدى أي حوار مهما ضج مونولوغا أحيانا.
تركي سلطان: هل تلاحظ توجه المرأة للقصة أكثر من غيرها من الأجناس الإبداعية؟؟ وان لاحظت هذا؟؟ فما هو السبب من وجهة نظرك؟
هناك نشاط أدبي نسائي جديد لا جدال، بعضهن توجه إلى القصة، كثيرات إلى الشعر والمقالة، خاصة عراقيات، هذا متأت في اعتقادي من نهوض نسوي في الأفق يرافق تسونامي التغيير المتصاعد في منطقتنا منذ ثلاث سنوات، هذا النشاط محاولة أيضا أراه من نسائنا المثقفات لاستعادة المفقود أو المهمل من اعتبارهن وحقهن في وجود معنوي مكافئ لوجود الرجل المعنوي الكبير في منطقتنا، نشاط يصدر من محجبات وغيرهن، لو استطعن التفاهم والتواصل بينهن أمكنهن القيام بدور في مسألة رأب الصدع بين مثقفينا الذين أراهم ينشطرون، تبعا لانشطار الحالة السياسية عوض التقدم عليها والعمل على توجيهها نحو الوئام والسلام. السياسي يرى جزء من الصورة، المثقف يرى الصورة كاملة أو هكذا المفروض، أما المرأة المثقفة فهي بإنسانيتها الفطرية المفرطة ترى مستقبل الصورة أيضا، تستطيع المساهمة في نزع فتيل الكثير من المشاكل المتفاقمة أمامنا، هذا العام عام المرأة، وصل إلى سدة الحكم العديد منهن، في روايتي (ليلة بغدادية) دعوة صريحة لتأخذ المرأة المزيد من المسؤوليات ، للتقليل من عدوانية المجتمعات الذكورية، وهي شهرزاد أولا وأخيرا، مَن أفضل منها يجيد السرد و الحكي والوصول إلى كوامن النفس، الرجل يبحث في التأريخ لذلك يهتم بالرواية، والمرأة بالنفس لذلك تمتطي اجنحة القصة والشعر. كانت جدتي بلقيس محركا كبيرا لمخيلتي بقصصها العديدة عن در الخليفة والغراب المكار، كذلك جدة غوركي، جدة عبد الستار ناصر أيضا حكى لي، كثيرات يلعبن دورا حاسما في خلق الروائي، تظل القصة القصيرة والشعر أصلح للمرأة وانشغالاتها في رأيي من غيرهما، زد الانترنت في متناولهن الآن، انتشار الثقافة أسرع وأوسع، والمنطقة حافلة بالمشاكل وهذا يحفز عقولهن للرد، ولأنهن لا يحبذن العنف يلجأن إلى القلم، ولأنهن يهتممن بالبيت، يلجأن إلى القصة، ليس أفضل من القصة ينوب اليوم عن الموقد المفقود منذ الأمس، شغلها وشاغلها.
ابراهيم القهوايجي: نطرق ذاكرة رجل روافدها كمستويات اشتغالها متداخلة:1 ما مفهومك للكتابة عموما؟ 2 كيف اهتديت الى الكتابة الادبية (الرواية)؟ 3 هل صحيح ما تزال الرواية ملحمة برجوازية؟ 4 لماذا لم تنشأ الرواية في الحضارة العربية وتراثنا مليء بالاشكال السردية التقليدية؟ 5 ثمة مفارقة بين الشرق والغرب في كتابة الرواية، في الوقت الذي وصل فيه الغرب مرحلة الحداثة في كتابة الرواية، كنا كعرب ما نزال نتلمس خطى الواقعية البلزاكية، كيف تقيم عمر وتراكم الرواية العربية؟ 6 في كتاباتك الروائية التي لم أقرأها بفعل عوامل تدركها، ما هي الاسئلة التي تشكل بؤرتها؟ 7 ما هي الاساليب والاشكال التي تضمها كتابتك الروائية؟ ولماذا؟ 8 بعض الكتب تتعرض للمنع، أذكر روايتك "شقة في شارع ابي نواس" ما السبب؟ وكيف السبيل الى ايجاد حرية النشر والتوزيع؟ 9 بخصوص الترجمة، هل تؤيد الترجمة فرديا او عبر مؤسسات ولماذا؟ ماذا اضافت الترجمة للحضارة العربية؟ 10 ماذا تمثل لك الكلمات التالية: الرواية؟ العراق؟ تشويه النبي (ص) بالدانمارك؟ فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية؟ "مدن الملح"؟ محمد برادة؟
* أسئلتك لو أشبعتها ردا خرجنا بكتاب، رغم هذا، لنجرب لغة همنغواي البرقية هنا: 1 مفهوم الكتابة عندي ينحصر في ضرورة تقديم الجديد والنبيل. 2 كيف اهتديت إلى الكتابة الروائية؟ تلقائيا من مكتبة والدي برغبة لأن أبكي أختي فكتبت لها قصة عن امرأة لا تستطيع شراء الدواء لطفلها، شئ من هذا القبيل، ثم عن تمثال غزالة زاحف على الراديو توقعت سقوطه، تكللت المحاولات في مراهقتي بقصة عن قرية نشرتها مجلة (الأحداث) اللبنانية، وقصة أخرى في (شهرزاد) اللبنانية أيضا وأخرى حتى شعرت أن بلدنا كله يحتاج أحدا يكتب قصته فشرعت بكتابة الرواية. 3 الرواية ملحمة برجوازية نعم، بمعنى يكتبها ابن هذه الطبقة وقد تحمل في ثناياها قيم طبقة أخرى، البرجوازية قلقة في طبيعتها أكثر من الفقيرة والارستقراطية، القلق أساس كتابة الرواية، منه الديناميكية والمواضيع والصراع العقلي والأحلام وبقية عناصر الرواية. 4 الرواية نشأت في الحضارة العربية وتطورت في الغرب، ملحمة جلجامش، المقامات، السير البطولية، ألف ليلة وليلة، وغيرها، صدرت منا وعليها نسج الأوربيون أشكالا أرقى فهم يعرفون كيف يستفادون من تجارب غيرهم ونحن نجيد تدمير أنفسنا إضافة لسوء حظنا ووقوعنا في منطقة عواصف التأريخ. منذ تلون دجلة بإغراق كتب ومخطوطات بغداد أفلت شمسنا وما أشرقت حتى اليوم، الرواية جزء من الثقافة وهذه جزء من كل وهذا بالجغرافيا، ما حميناها، ولم ينج ما في حماها. 5 نعم نحن مهتمون بالرواية البلزاكية لأن تأريخنا لم يرسخ، نعيش الآن انعطافا حادا، هذا يحفز العقول لرصده وتصويره بطريقة قد لا تروق لمن يريد الاستفادة من الانعطاف، تجاهل أدبه وارد، الرد وارد، التدافع بالعقول سيزداد، للأسف العاقل يتصرف ليس أفضل من المجنون.
6 الأسئلة التي تشكل بؤرة رواياتي هي التي يطرحها عقل يعي لا معنى نكوص فرد إزاء مجتمع ناقص في كون بلا نهاية. 7 الأساليب والأشكال التي تضمنتها كتاباتي الروائية ولماذا؟ صعب الرد بتفصيل حاليا، بعجالة استخدمت معظم الأساليب والأشكال المعروفة، المونولوغ، الديالوج، عين الكاميرا، التداعي، التحليل والتركيب، لأخلق المشهد الكامل والتأثير العميق. 8 حرية النشر والتوزيع سوف تفرض تلقائيا في منطقتنا، الانترنت أنجزت هذا، ورقيا تتحسن الأمور تدريجيا مع انتشار الثقافة. 9 الترجمة كارتياد الفضاء وغيرهما من مشاريع التجديد، لا يمكن انجازها عشوائيا، يجب التخطيط لها، ولأنها لم تخضع لدراسة متأنية في منطقتنا أراها ساهمت في خلق فوضى ظاهرها فكري. غياب استراتيجيا السياسية تبعه غياب إستراتيجيا ثقافية، قد يبدو هذا الكلام الآن في غير أوانه مع دخول منطقتنا موسم اللاتخطيط، لكن الخيار بين الوجود وعدمه دائما موجود، فخذ ما تريد.. 10 ماذا تمثل الكلمات التالية لي؟ الرواية: سفينة نوح العصر، ليتني أكون على خطأ. العراق: كل شئ. تشويه النبي في الدنمارك: النبي لا يشوه، الصحافة هناك أساءت التصرف، الرد بحكمة أجدى. فوز حماس بالانتخابات الفلسطينية: رد فعل طبيعي على عدم حل القضية الفلسطينية والعراقية. مدن الملح: تيتانيك. محمد برادة: دبلوماسي.
ابراهيم شحبي: الجميل أن نلتقي عبر مدد هذه القامة الكبيرة من التجربة والثقافة، الروائي برهان الخطيب .لدي أسئلة كثيرة لكني أقصرها على الرواية. الرواية في الغالب كتابة طويلة تستنزف من كاتبها جهداً في التفكير ومعايشة الشخصيات وتلبسها أحياناً، تصل القاريء في صفحات يلتهمها سريعا ويصدر حكماً قد يكون جائراً ثم يذهب . ما هي الرواية التي أخذت منك مأخذاً في الجهد والوقت؟ كيف استقبلها القارئ؟
* الجنائن المغلقة أخذت مني خمسة أعوام جهدا محموما متواصلا، نقاد وقراء امتدحوها، أوربيين ومن منطقتنا.
ـ سؤال آخر: بعد هذه التجربة مع كتابة الرواية إلى أي مدى ترى آفاقاً مفتوحة لهذا الفن عربياً ؟
* الآفاق رحبة أمام الروائي العربي، أقصد التنوع والمشاكل والطموحات والأحلام التي تتغذى منها الرواية، النشر يزداد صعوبة، يدخل متطفلون إلى الساحة ممتطين الرواية لهوا وبحثا عن وجاهة، تُهمل الجادة إعلاميا بسبب قصيري نظر مسيطرين على عجلات إعلام، أغلب الصفحات الثقافية يعاملها كمنشور سياسي، للروائي الحقيقي يجب أن تكون روح قديس لمواصلة مشواره إلى الأخير.
محمد الحمراني: الاستاذ برهان الخطيب تحية لوجودك معنا. نحن ورشة من كتاب الرواية العراقية الجديدة... نتجول يوميا ونتحاور حول الأعمال الروائية.. تضم ورشتنا: محمد الحمراني، احمد سعداوي، ناظم العبيدي، ضياء الخالدي.. لم نعثر على كتبك الروائية.. عثرنا على بعض قصصك القديمة. ما سبب استخدام لغة معقدة في اغلب الكتابات الستينية. محبتي واحترامي.
* لا أستطيع أنا أيضا الحصول على كثير مما يصدر. رواياتي غابت عنكم لأسباب عديدة، معظمها طبع خارج الوطن العربي، ما وصل منها بأيدي طلاب ومسافرين إلى منطقتنا غير قليل، أنوي طبعها عربيا وهذا غير سهل على مَن يريد أن يفعل كل شئ بطريقته الخاصة، وإلاّ كانت بين أيديكم منذ زمن طويل.
اللغة المعقدة في أغلب الكتابات الستينية نتيجة عوامل عديدة، منها تأثر سطحي بقراءات غير متأنية للأدب الوجودي الذي غمرنا حينه، ورغبة في أن يخلقوا أدبا جديدا بتراكيبه ومراميه، وتعبيرا عن حالة الاغتراب التي وجد المثقف نفسه متردية فيها بسبب إجهاض تجربة تموز المليئة بالأمل في بداياتها، والتعويض عن المفقود بجموح، لاحتواء كل شيء بصيغ مطاطية، في النهاية نكص التجريبيون وواصل الواقعيون بألوانهم المختلفة العملية الأدبية التي بدأها كتاب الخمسينات وأثمروا فإذا استفاد الروائيون الشباب من تجربة سابقيهم أبلوا حسنا.
محمد العامر: أول رواية لك؟ هل كتبت الشعر؟ ماذا تريد ان تصل له كروائي؟ اجلالي.
* أول رواية مطبوعة لي نشرت عام 1968 (ضباب في الظهيرة)، قبلها كتبت (السر والرجال) ولم أنشرها. الشعر كتبته خفية حتى عن نفسي في بداياتي الأولى، بإسم (فانوس) المستعار، عرفت بعد حين الرواية لا الشعر ميداني، حيث التغلب على نفسي هدفي الأول من الصعود إليه. الكمال المفقود حولي أردت صنعه بالكلمات.
سماح نضال: ما رأيك في الرواية العربية؟ وما هو الأهم خلال العشر سنين الماضية؟
* الرواية العربية شهدت تطورا ملحوظا الأعوام العشرة الأخيرة، ظهرت أسماء جديدة لها روايات ذات شأن، دخلت المرأة عالمنا الروائي وأبلت حسنا، المتألقة بركات، بتول الخضيري، هدى حسين، الرومي، وغيرهن. المواضيع الروائية اتسعت وتنوعت، لم تعد محصورة في تصوير مجتمعات وأزمات أفراد، انتقلت إلى عوالم جديدة، هذا لم يتم دون المرور بتجارب الروائيين السابقين، استطاعت الرواية إزاحة الشعر عن عرش الأدب العربي وتبوأت مكانه، هناك إقبال على الرواية رغم عدم عناية الناشرين بها كما يجب. تأثير الرواية يلاحظ في التلفزيون أيضا، المسلسلات الآن أكثر التصاقا بالأرضية الاجتماعية والتأريخية. مصر ترعى الرواية مشكورة بشكل ملحوظ، دار الهلال تواصل بانتظام إصدار الممتع والمفيد من رواياتنا، يعقد لها مؤتمر دوري هناك، تمنح جوائز للمجودين فيها، ازدهار الرواية في منطقتنا حين يكتمل يكون علامة استقرار ونضج. الأهم تصبح الرواية أكثر من الشعر عاملا مساعدا في بناء العالم الروحي للمواطن العربي، النزعة العقلانية، سمة البناء الروائي، بدأت تغلب النزعة العاطفية التي يؤججها الشعر في نفس المواطن، أمضي أبعد وأقول هذا مؤشر نقلة نوعية للمجتمعات العربية من حالة الريف على طريق التمدن الكامل.
محمد العريمي: المعاناة بأشكالها المختلفة، الغربة، المرض، الفقر، هل تعزز القدرة الإبداعية للكاتب؟
* الكاتب الحقيقي يتجلى كاتبا مع معاناة أو بدونها، المعاناة تترك تأثيرها في تجربته، تلونها، تعمقها، لو صادف واكتشف الشخص لا يصلح لشيء آخر غير الكتابة، وكان من غير معاناة ومشاكل، يبدع أيضا أدبا خاصا به. لم تكن لمارسيل بروست تجارب كثيرة، عاش معظم وقته في غرفة وراء ستائر مسدلة، رغم هذا أبدع خالدته (البحث عن الزمن الضائع) هناك أمثلة أخرى، المهم أن يكون الكاتب صادقا في نقل عالمه إلى الورق، مفكرا من الطراز الأول، وإلاّ تاه في نصه. أيضا أن يكون عارفا بموضوع كتابته، لا يمكن الكتابة عن الغربة والمعاناة من الوجود بشقيه الاجتماعي والفيزيائي والعيش في نفس الوقت (هابي أور) طول العمر. المعاناة، المرض، الفقر، تضع الكاتب أمام عوالم متنوعة، تنقل إلى ذهنه التضاد الخفي تحت سطح الأشياء، جمال الصحة والاستقرار وتعاسة المرض والفقر مثلا، بالانتباه يكون أكثر رهافة والتقاطا لتفاصيل العمل الأدبي، التفاعل بين القيم والمفاهيم ضروري لنشوء ديناميكية في روحه تساعد في جعل عمله حيويا، مشوقا، متجها إلى أمام. الحماس ضروري لأداء العمل الأدبي، لا يتأتى من تجاهل ما يعانيه الفقراء حتى لو لم يكن الكاتب نفسه فقيرا، الكتاب مختلفون، الحقيقي له ضمير، يستوعب غربة ومرض وفقر غيره، مَن بلا ضمير بلا إبداع حقيقي، حتى لو كان يعاني من الفقر والمرض والغربة، هذا لا يعني ضرورة الهدف الاجتماعي للأدب، بل ضرورة عرض الحياة صحيحا. ما الصحيح؟ الطبيعة ملهمة.
ثورة وصالح الرزوق: بالنسبة للعمل في دار التقدم بموسكو. لا نظن طريق البيروسترويكا المسدود أغلق باب الحوار أمام الذهن العربي. لم يعد لدى الأمة خيارات. مجرد فرض للوضع البشري اليوتوبي. كانت موسكو تقدم لنا أدبها عبر مفردات لا تنتمي لنا. طبعا هذه ليست إساءة. مجرد استطراد عن تجربة نحترمها. لديك تعليق؟
* استطراد غير مصاغ واضحا لي، أحاول الرد، قولكما (لم يعد لدى الأمة خيارات) هل المقصود أمتنا العربية أم الأمة الروسية؟ وقولكما (مجرد فرض للوضع البشري اليوتوبي ) ما هذا الوضع اليوتوبي؟ هناك يوتوبيا نعم، وعديدة، وهناك وضع بشري قد يكون ساكنا للبعض متغيرا لغيره، ولماذا طريق البريسترويكا مسدود؟ قد يبدو مسدودا لمن لم ينتفع منه لكن هو مفتوح لمن استفاد ويستفيد منه، حبذا لو كنا أدق في تحديد أسئلتنا وأجوبتنا، الأسئلة الخطأ وغير الدقيقة تستولد ردودا مثلها غالبا، وإلاّ قد يصبح ما نديره نموذجا من حوارات نسمعها من فضائيات بين مثقفين تشبه حوار طرشان، أو كلّ يتكلم على ليلاه، حاشاكما من هذا، لا زلت أرى في سؤالكما ما يحفز على رد، لو قدمت موسكو أدبها عبر مفردات لا تنتمي لنا هذا شأنها، شأننا نقبله أو نرفضه، الاطلاع عليه نافع على كل حال حتى لو كان ذلك الأدب المقدم سيئا، لنعرف كيف نتجنب السيئ في الأقل، لنعرف كيف يعيش الآخر، هل هناك ما يمكن تعلمه بالنقد، أية قراءة يجب أن تكون نقدية وإلاّ ما كنا نقرأ بل نتلقى فقط، ذلك هدفي المعنوي شخصيا من الترجمة، أوربا( لنترك هنا روسيا المتوسطة بيننا) تقدمت علينا بعد الاطلاع على تجربتنا الإسلامية، وعلينا الاطلاع على تجارب أوربا إذا كنا نريد حقا الارتفاع، يمكن فهم استطرادكما بطريقة أخرى والرد بطريقة أخرى، متأكد في ذهنكما عند وضع الاستطراد فكرة كبيرة، ، إذا كانت عن البريسترويكا تحديدا وتأثيرها على منطقتنا العربية فلهذا كلام طويل، يمكن أن يبدأ بالموجود في استطرادكما، أي انعدام الحوار العربي الجاد، انعدام في الذهن قبل الواقع، لذلك لم تؤثر البريسترويكا في مصيرنا كثيرا، التالي عتب لأن موسكو حتى قبلها خاطبتنا بمصالحها لا بمصالح عامة، وهذا ليس إساءة برأيكما لأن من حق أي عاصمة التصرف حسب مصالحها، إذا كان تفسيري هذا لاستطرادكما صحيحا وأردتما تعليقي أقول نِعمَ الاستطراد، لمنطقتنا مصالحها ولبقية المناطق مصالحها وعلى أبناء المنطقة الواحدة غض النظر عن خلافاتهم والدفاع عن مصلحتها بتكاتف، الحوار والتفاهم ضروريان، المشاكل تنشأ عن سوء فهم بغياب الحوار. أتمنى كانت قراءتي صحيحة للاستطراد ولم أمارس إسقاطا ذهنيا عليه.
منى وفيق: بعد مشوارك الأدبي الحافل كيف ترى مقولة: الأدب خدعة كبرى؟
* غالبا نحمّل الكلمات المعاني التي نريدها ونهمل معناها الحقيقي، أو نأخذ ما في ظلال الكلمات من معنى ونهمل الباقي منه في نور. أو العكس، نأخذ ما في النور ونهمل ما في الظل، ما تحت النص، أو الفوقاني ( الأدب خدعة كبرى ) هنا تلاعب بالكلمات مقصودها الأدب يخلق عالمه الخاص، باعتماده على حيل فنية كالحذف والجمع وتركيز الضوء وتخفيفه والإيهام وغير ذلك، هكذا يكون خدعة، حلوة طبعا. تزيين وجه امرأة مثلا، إظهار الشفاه ممتلئة، العيون مسحوبة إلى أعلى وغيره، التزيين فن، خلق كالأدب، فهل يكون وجه المرأة كاذبا في زينته أو متجليا بمحتواه، متألقا بمظهره؟ برأيي يوجد أدب خادع، غير دقيق، وآخر صادق. في هذا الحال يكون الأدب الصادق إذا كان حقيقيا إبداعيا خداعا أكثر من الأدب الخادع حقا، إذا نجح هذا في أن يكون إبداعيا. لا أظن يجب أن يكون الشعر غير دقيق ليكون شعرا، جريا وراء أصدقه أكذبه، الموسيقى أيضا يمكن أن تكون كاذبة أو صادقة، الصخب موسيقى كاذبة، على أي حال الأدب تطور عن الأساطير والخرافة غير المعقولة باحثا عن الحقيقة، هي جميعا سعت لتصوير الحقيقة بطريقتها الخاصة، الأساطير الخيالية لم تكن خدعة بل صورت العالم من داخل عقل الإنسان..
محمد خضر: كيف يرى برهان الخطيب ما وصلت له الرواية العربية. هل حقا ما يقال الرواية ديوان العرب الآن؟
* أجبت ضمن ردي على الفاضلة سماح . أضيف لا بد من تحول اهتمام العرب من الشعر إلى الرواية مع نمو مدنهم واتساعها وتعقد حياتهم العصرية وتقدمها على الحياة الفطرية السابقة إلى حياة المدن الكبرى الحالية، الشعر ابن البادية يتراجع طبعا أمام الرواية سليلة المدينة، هذا على الصعيد النظري، هذا حسن جدا، الشعر نتاج الانفعال والرواية نتاج العقل، ما نحتاجه لتطوير تعاملنا مع ما حولنا وتذليل مصاعب التطور والنمو. عودة الغرب إلى الشعر أحيانا لطغيان نزعة مادية، نحن في مرحلة التحول ووعي أنفسنا، مرحلة جديدة راهنة، سابقا رفعوا شعارات ونسوا الواقع المعاش، الآن نعود للاهتمام بالواقع المعاش ومنه تظهر شعارات جديدة أكثر واقعية معبرة عن نزوع روحي جديد غير منفصل تماما عن ماضينا. دعوات التكامل الاقتصادي والإداري المتصاعدة من شمال أفريقيا ومشرقها والخليج تعبر عن محتوى جديدة لم يتبلور، التغيير يأتي هذه المرة من فوق لا من أسفل، هذا حسن أكثر رجاحة، هذا مبثوث في روايتي (بابل الفيحاء) واضحا، تكلم عنه الناقد خلدون شمعه في محاضرة لي بنادي الكوفة في لندن عند تقديمه لي. على الصعيد الواقعي مبيعات دواوين الشعر لا تغطي كلفات طباعتها، الرواية تباع جيدا، لكن تحارب من جهات لها رأي آخر في الموضوع، لو أنصفت تخلت عن أنانيتها وفكرت في الصالح العام أيضا، الرواية ديوان العرب الآن وإلى عشرين سنة ربما. يتحقق استقرار تزدهر المسرحية.
آثار النعيم: برهان الخطيب اسم كبير. مَن يصنع حجم الاسم؟ العمل أم القارئ؟ وما دور ظروف طرح العمل الإبداعي وتوقيته في انتشاره؟ هل في عالمنا العربي للاختلاف دور في الانتشار؟
* لا أعرف في الفوضى الثقافية حولنا إذا كان اسمي كبيرا أو صغيرا، أعرف الرواية التي كتبتها أعجبت الكبير والصغير، ابن منطقتنا وخارجها، الأكاديمي والباحث عن متعة فقط في كتاب، ربما لذلك أصبح اسمي كبيرا في نظر البعض. هناك أسباب جانبية أيضا لصعود اسم أو نزوله، قد تكون أقوى من الأساسية، ليس لها علاقة بالأدب، كامنة في السياسة ودهاليزها الخفية، قد يعتم على عمل جيد ويبقى بعيدا عن متناول القارئ لعدم توافق مؤلفه مع مَن بيدهم الحل والربط، وقد يُنفخ في واحد يُمنح جوائز وصفحات ويُرفع بالونة في سماء الأدب خدمة لهدف سياسي. سؤالك يدعوني لسباحة في مياه عميقة أحب التفرج عليها لا النزول فيها، لا قدرة لغير ذي عدة على منازلة كواسج وحيتان، وإن كانت القدرة لمنازلة العقول حتى عاتيها محفوظة في صون وأمان، لو فُقِد فُقِدت القدرة والعقل. الوضع الثقافي العربي قبل آذار 03 غيره بعدها، ضمنا صناعة الإسم وتمدده وانتشار العمل الأدبي وتوقيته وانسجامه أو اختلافه مع المحيط وغير ما تفضلتِ به،، حتى الاختلاف اليوم أنواع، تختلفين مع مَن؟ وكيف؟ ولماذا؟ يبدو لي أن اختلاف المثقف والمبدع ضمنا يتسع اليوم ويكون اختلافا مع الجميع، هكذا بدأت تمردي الإبداعي قبل أربعين عاما وهكذا سرت حتى اليوم، ليس رغبة في الاختلاف طبعا، بل لرؤيتي وجود الخطأ والصواب على جميع المواقع ومنها موقعي نفسه، هذا طبيعي رغم إنكاره من الغالبية بل الجميع، الجميع يرى الصواب من نصيبه والخطأ نصيب المقابل، هكذا تخندقوا مع أصدقاء وخلقوا أعداء، ثم تخلوا عن الأصدقاء وتحالفوا مع الأعداء، ليس إلاّ لأنهم واصلوا الإيمان بصوابهم هم وخطأ غيرهم. أنا لم أتخندق مع أحد ولم أعادي أحدا، صادقت الصواب وعاديت الخطأ أينما كان، ولم يكن هذا الموقف سهلا، لا إبداعيا ولا في الحياة، قد يكون هذا وراء كبر اسمي، لغيري الحكم. في الظرف الجديد ينبغي التمسك بالاستقلالية الشخصية والأهل لرفعهم والتعمق في الثقافة وعدم انتظار منفعة من ممارسة الأدب ليكون الأسم حقيقيا بين أسماء مزيفة تظهر وتختفي.
عن صحيفة العرب اللندنية