العلاقة المتبادلة بين العلمانية و الدولة و الدين و المجتمع.....ج1
خاص ألف
2006-10-28
مقدمة :
فهل تقوم علاقة فعلية بين العلمانية، والدولة على المستوى العام، وعلى المستوى الخاص؟
و هل تقوم علاقة بين العلمانية والدين؟
وما طبيعة هذه العلاقة ؟
وهل تقوم علاقة بين العلمانية، والمجتمع؟
وما طبيعة هذه العلاقة ؟
وهل تقوم علاقة بين الدولة، والدين؟
وما طبيعة هذه العلاقة؟
وهل تقوم علاقة بين الدين، والمجتمع؟
وما طبيعة هذه العلاقة؟
إننا، في الواقع، لا يمكن إلا أن نسلم بقيام كل هذه الأشكال من العلاقة بين العلمانية، والدولة، والدين، والمجتمع. ولكن هذه الأشكال من العلاقة لا تقوم، هكذا، في الهواء الطلق، بل تقوم من خلال الإنسان الذي يقر بها، فيقيم الدولة العلمانية أو لا يقيمها، ويجعل الدولة دينية، أو لا يجعلها، ويشكل مجتمعا علمانيا، أو دينيا، أو أي شيء آخر. فمن خلال الإنسان تحصل كل الروابط بين مكونات العنوان / الموضوع. وبدونه لا تكون تلك المكونات، حتى لا نتيه في المثالية المغرقة، وننزاح في اتجاه المزالق التي لا نهاية لها.
ونظرا لكون الإنسان هو مصدر كل شيء، فهو كذلك مساهم في كل أشكال التطور، التي عرفتها، وتعرفها البشرية، حسب ما تقتضيه مصلحته الفردية، ومصلحته الطبقية، وكلتا المصلحتين، تفرضان ضرورة القول بالعلمانية، أو العكس، والقول بضرورة الدولة العلمانية، أو الدولة المؤدلجة للدين، كما سنوضح ذلك ... الخ.
وإذا كان الفرد هو مصدر كل ذلك، فإنه من خلال المجتمع، الذي يتكون من عدد من الأفراد، يفرز الأفكار المختلفة، التي تقتضيها حالة التطور، التي وصل إليها المجتمع. وبالتالي، فإن فكرة العلمانية، وفكرة الدولة، وفكرة الدين، هي أفكار اجتماعية، ولا نستطيع أن نقول غير ذلك. وهذه الأفكار لا وجود لها خارج المجتمع. كما أنها لا توجد بدونه، وغلبة فكرة، أو سيادتها على أفكار أخرى، لها علاقة بواقع التطور، أو التخلف في المجتمع. فالمجتمع المتطور اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وإيديولوجيا، وسياسيا، لابد أن تسود فيه العلمانية، التي لا تلغي الدين. والمجتمع المتخلف في المجالات المذكورة، لابد أن يسود فيه الدين، الذي لا يلغي العلمانية. وتبعا لذلك، فالمجتمع الذي تسود فيه العلمانية، لابد أن يسعى إلى بناء الدولة العلمانية، أما المجتمع الذي يسود فيه الدين، فإن تلك السيادة تترتب عنها سيادة أدلجة الدين. والمجتمع الذي تسود فيه أدلجة الدين، لابد أن يسعى إلى بناء الدولة المؤدلجة للدين. وتبعا لذلك، فالأحزاب المنفرزة، إما أن تكون أحزابا علمانية تناضل من أجل الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، باعتبارها علامات كبرى للدولة العلمانية، المحتمل تحقيقها. وإما أن تكون أحزابا مؤدلجة للدين، "تجاهد" من أجل تطبيق "الشريعة الإسلامية"، كعلامة كبرى للدولة المؤدلجة للدين، القائمة على تكريس الاستبداد السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، أو للدولة المؤدلجة للدين، المحتمل قيامها على تكريس الاستبداد البديل.
ولذلك، فواقع المجتمع، هو المحدد للأفكار، وهو الذي يعطي لتلك الأفكار مضمونا معينا، وهو الذي يسمح أو لا يسمح بأجرأتها على أرض الواقع، سواء تعلقت بالعلمانية، أو بالدولة، أو بالدين، أو بالعلاقة التي تقوم بينها جميعا.
توضيح المفاهيم أولا :
فماذا نقصد بتوضيح المفاهيم؟
وما هي المفاهيم التي تحتاج إلى توضيح؟
وانطلاقا من عنوان هذه الأرضية، ومن تلوينات مكوناته، نستطيع أن نقول: إن توضيح أي مفهوم يقتضي إعطاءه مضمونا معينا، ينسجم مع المنهج المعتمد في التناول، حتى لا يتيه القارئ والمتتبع، وحتى تؤدي هذه الأرضية دورها المنشود. لأنه بدون توضح المفهوم، لا يمكن أن يتحدد المفهوم، نفسه، من وجهة نظر معينة، ولا يمكن أن يؤدي الهدف المتوخى من المعالجة.
و بناء على ما سبق نستطيع أن نتبين أن:
1) العلمانية توجه فكري، علمي، سياسي، يهدف إلى اعتماد القيم الاجتماعية، والسياسية، والفكرية، والمسلكية على أنها من إنتاج الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والعلمي، والمعرفي، والحقوقي، والإنساني، والسياسي، وأن الغيب غير منتج لها، وغير متحكم فيها، أو موجه للقيام بها، إلا من وجهة نظر إيديولوجية تسعى إلى تضليل جميع أفراد المجتمع، حتى لا يقووا على مواجهة ما يمارس عليهم.
وهذا التوجه، يعمل على أن يعي الناس، جميعا، بدورهم في تقرير مصيرهم الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، انطلاقا من مستوى التطور الذي وصلوا إليه، سواء تعلق الأمر بالتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية، أو بالتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الاشتراكية، حتى لا نقول التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الإقطاعية. لأن هذه التشكيلة، ونظرا لعمق تخلفها، لا يمكن أن تسود فيها العلمانية، لتناقضها مع مصالح الإقطاعيين.
والعلمانية تصير مطروحة كفكر، وكعلم، وكممارسة حياتية، وسياسية، عندما يعرف المجتمع، الذي يصير فيه تحكم قيم الغيب، أو القيم الدينية/السياسية(المؤدلجة للدين)، عاملا من عوامل عرقلة ذلك التطور. مما يؤدي إلى اعتماد الاستبداد، كوسيلة لفرض تحكم ذلك الغيب، بل واعتماد ممارسة إرهاب الدولة، أو إرهاب مؤدلجي الدين الإسلامي: المادي، والمعنوي لفرض تحكم الغيب، الذي لا يوجد إلا في أذهان المستبدين، أو في أذهان من يسعون إلى فرض استبداد بديل.
ولأن المجتمع المتطور لابد أن يعرف صراعا معينا، وأن ذلك الصراع لا يكون منتجا إلا باعتماد الممارسة الديمقراطية الدقيقة، وأن تلك الممارسة لا تؤتي أكلها إلا إذا اعتمدت القيم العلمانية لتحرير الإنسان من أسر الغيب، حتى يستطيع التعبير عن رأيه في كل ما يجري على أرضه، وعلى جميع المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، أي أن العلمانية تعتبر عاملا من عوامل التحرر من القيم المتخلفة، المنبثقة عن سيادة الفكر الخرافي، وتحكم الفكر الإيديولوجي الديني.
والعلمانية تقوم على انتشار العلم، والمعرفة الفلسفية، والفكرية، و ،على انعتاق الدين من أسر الأدلجة، حتى يصير ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، كما قالوا منذ القديم، وحتى يكون أمر الناس شورى فيما بينهم، دون تدخل أي جهة، مهما كانت هذه الجهة، حتى وإن كانت هي الدين نفسه، كما جاء في القرءان: "و أمرهم شورى بينهم".
والعلمانية تتيح الفرصة أمام المعتقدات الدينية، في تفاعلها مع الواقع، وفي فعلها فيه، ومن أجل أن تتحول إلى قوة مادية مؤثرة في الاتجاه المساعد على تطور المجتمع في الاتجاه الصحيح، وفي اتجاه جعل قضية العلمانية قضية مسلم بصلاحيتها للواقع، في تجلياته المختلفة.
2) أما الدولة، فمهما قلنا في توضيحها، فإننا لا نتجاوز أن نقول: إنها مجموع الأجهزة القمعية، والإيديولوجية، والسياسية، التي توظفها الطبقة، التي تصير حاكمة بفعل عوامل معينة، من أجل فرض كافة أشكال السيطرة الطبقية القمعية، المدعومة إيديولوجيا، وسياسيا.
وهذا المفهوم ذو البعد المادي / التاريخي، والماركسي، هو الذي يبقى حاضرا في الممارسة اليومية للطبقة الحاكمة، ولأجهزة سيطرتها الطبقية، كيفما كانت المفاهيم المثالية، التي يحاول الدارسون إعطاءها لمفهوم الدولة، من خلال ذلك الركام الهائل من الكتب، والدراسات، التي تزخر بها المكتبات الخاصة، والعامة، تشغل وقتا كبيرا من أجل أن يستوعب طلبة الدراسات الجامعية، تلك المضامين المثالية للدولة، في الوقت نستطيع فيه أن نسجل :
أ- أن الدولة هي أداة السيطرة الطبقية القمعية، والإيديولوجية، والسياسية، وما يترتب عن ذلك من آليات تعتمد لتكريس تلك السيطرة.
ب- أن الدولة، باعتبارها أداة للسيطرة الطبقية، تختلف بحسب التشكيلة الاقتصادية، والاجتماعية العبودية، أو الإقطاعية، أو الرأسمالية، أو الاشتراكية.
ج- أن الدولة باعتبارها ذات طبيعة طبقية، تكون إما إقطاعية، أو بورجوازية تابعة، أو بورجوازية وطنية، أو بورجوازية صغرى، أو عمالية.
د- أن الدولة باعتبار الطبقة التي تتحكم فيها، تكون إما استبدادية، وإما ديمقراطية.
ه- أن الدولة الاستبدادية إما أن تكون محكومة بالاستبداد الفردي، وإما بالاستبداد المؤدلج للدين.
و- أن الدولة هي إطار لقيادة الصراع ضد الطبقات المناهضة للطبقة الحاكمة، والمعانية من استغلالها الطبقي.
ز- أن صراع الدولة إما أن يكون تناحريا، و إما أن يكون ديمقراطيا.
ح- أن الدولة الاستبدادية، هي التي تقود الصراع التناحري ضد الطبقات المناهضة للطبقة الحاكمة، أو للتحالف الطبقي الحاكم.
ط- أن الدولة الديمقراطية، هي التي تشرف على إجراء حوار بين الطبقات الاجتماعية، بواسطة الهيئات الممثلة لتلك الطبقات، سواء كانت حقوقية، أو نقابية، أو ثقافية، أو حزبية، من أجل الوصول إلى تحقيق المطالب الديمقراطية، التي يستفيد منها.
ي- أن الجماهير الشعبية الكادحة تنشد، ومن خلال التنظيمات التي تمثلها، قيام الدولة الديمقراطية، التي لا يهمها أن تكون بورجوازية، أو عمالية، ما دام المضمون الذي يعطى للديمقراطية يتخذ طابعا اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، ومدنيا وسياسيا، ومادام يقف وراء تمتيع جميع الناس بجميع الحقوق.
وانطلاقا مما سجلناه، نستطيع أن نقول إن طبيعة الدولة تنسجم مع مستوى الوعي السائد في صفوف الجماهير الشعبية.
هل هو وعي ديمقراطي؟
هل هو وعي إيديولوجي؟
هل هو وعي سياسي؟
إن شكل الوعي السائد يتحكم بشكل كبير في تحديد طبيعة الدولة.
3) وبالنسبة لمفهوم الدين، فإنه، في نظرنا، لا يتجاوز أن يكون مجموع المعتقدات الشعبية، التي يرتكز كل معتقد منها على مسلمات معينة، لتحقيق إيمان معين، والمتضمنة في كتاب معين، كما هو الشأن بالنسبة لليهودية، أو المسيحية، أو الإسلام.
وحسب هذا المفهوم، فإن الإيمان بمعنى التسليم بما تقتضيه المعتقدات المختلفة، يصير من مكونات الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي في نفس الوقت. فكل ما يقع للإنسان، وما يفعله في جميع المجالات، يعتبر قدرا، ومقدرا، ولا أحد يستطيع أن يقول غير ذلك، ودون استخدام للعقل، أو للفكر، انطلاقا من معطيات الواقع المادي، والمعنوي، فإنه يصير ملحدا، وكافرا، أو زنديقا، أو صهيونيا، أو علمانيا، أو شيوعيا. وكل هؤلاء يجب قتلهم، والتخلص منهم، حتى تكون السيادة للدين، الذي يقتضي التسليم المطلق بما يقتضيه هذا الدين، أو ذاك.
والواقع أن الإيغال في سلب الإنسان عن واقعه، وفي جعله مسلوب الإرادة، كما تفعل اليهودية على مر العصور، وإلى يومنا هذا، وكما فعلت المسيحية في القرون الوسطى، وكما تفعل بعض التوجهات المحسوبة على الدين الإسلامي، ومنذ مقتل عثمان بن عفان، وإلى يومنا هذا، ما هو إلا نتيجة لفرض الوصاية على الدين، الذي يصير مأسورا بدوره من قبل أشخاص، أو من قبل أحزاب دينية مؤدلجة للدين الإسلامي، الذي يتحول إلى مجرد تعبير عن مصالح أشخاص معينين، أو مصالح المنتمين إلى أحزاب دينية معينة، ومن خلالهم عن مصالح الطبقة الحاكمة، أو عن مصالح التحالف الطبقي الحاكم، ومصالح الطبقة، أو التحالف الطبقي الساعي إلى امتلاك الحكم.
والدين عندما يصير مجرد تعبير عن مصالح طبقية معينة، يفقد كونه معتقدا قائما في الواقع، انطلاقا من اختيار الناس الإيمان به، واعتناقه، ليتحول إلى وسيلة لتجييش الناس، الذين يرغمون على اعتناقه، حتى لا يتم وصفهم بما يقتضي قطع رؤوسهم باسم "الجهاد"، ورغبة في جعلهم يقبلون ما يسمى عند مؤدلجي الدين، بتطبيق شريعة دين معين. ذلك التطبيق الذي يصير وحده سلاحا ضد المتدينين، لأنه يقود إلى قطع الأيدي، والأرجل، وإلى تعذيب الناس عن طريق الجلد، وإلى قطع الرؤوس، أو إزهاق الأرواح بواسطة الرجم، وغير ذلك، مما يزرع الرعب في صفوف المتدينين.
وقد ظهر، منذ القدم، علم، اسمه علم الكلام، الذي يطرح أسئلة عميقة، حول مصير الإنسان، و حول واقع أفعاله، هل هو من اختياره، أم أنه مجبر على فعلها. وبقطع النظر على الإجابات المحتملة من قبل هذا التوجه الديني، أو ذاك، فإننا نبني على ذلك سؤالا آخر يفرض نفسه. وهو أن الإنسان إذا كان مجبرا على القيام بأفعال معينة، فلماذا يحاسب على تلك الأفعال؟ ولماذا ورود أحكام من هذا الكتاب المنزل، أو ذاك. وإذا كان غير مجبر، فإن معنى ذلك أنه يختار الأفعال التي يقوم بها. وفي هذه الحالة، نجد أن أفعاله تتغير باستمرار. وأن ذلك التغير يقتضي منا القول بأن "تطبيق شريعة" أي دين، يجب أن تستبعد، لأن الشروط التي اقتضت تلك الأحكام لم تعد قائمة في الواقع المتحول باستمرار، بسبب تغير شروطه الاقتصادية، والاجتماعية باستمرار، بما يقتضي اتفاق الناس على قوانين معينة، تنظم شؤونهم المختلفة، وهذه القوانين يجب أن تتغير حسب تغير الشروط الزمانية، والمكانية.
و حتى يصير الدين، أي دين، قوة إيمانية، ومادية قائمة في الواقع، ومن اختيار الناس، ودون إرغامهم على ذلك من أية جهة كانت، كما جاء في القرءان: " لا إكراه في الدين"، يجب أن يتحرر الدين، نفسه، من أسر الوصاية، قبل تحرير الناس من اعتناقه تحت حد السيف. وهذا التحرير يقتضي الحرص على إعادة الاعتبار لحرية العقيدة، التي هي الأصل: " فمن شاء فليومن، و من شاء فليكفر"، والعمل على تسييد خطاب يؤدي إلى امتلاك الوعي بالحرية على جميع المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، حتى تتكرس حرية الاعتقاد كواقع مسلم به، من أجل قطع الطريق أمام أدلجة المعتقدات نفسها، حتى صافية من كل ما يسيء إلى كرامة الإنسان، وحرصا على ربط الناس بواقعهم المادي، الذي هو المبتدأ والمنتهى.
4) أما مفهوم المجتمع، فيقتضي منا القول، بأنه: هو مجموع القيم التي تعارف الناس على تمثلها، في إطار شبكة من العلاقات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، وفي إطار سيادة أنماط معينة من العادات، والتقاليد، والأعراف، المعبرة عن مستوى معين من التطور، أو التخلف، والمنسجمة مع طبيعة العلاقات السائدة في المجتمع المتلائم، والمنسجم مع طبيعة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية القائمة.
فالتشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية العبودية، ينبثق عنها مجتمع عبودي، ينقسم إلى طبقتين رئيسيتين: طبقة الأسياد، وطبقة العبيد، وما بينهما. وهو مجتمع يخضع فيه العبيد، وغيرهم، لاستغلال الأسياد، الذين يتمتعون بكامل الصلاحيات، من أجل أن يفعلوا ما يشاءون بالعبيد، وبغيرهم من الطبقات الوسطى، التي تكون مهددة بالاستعباد، إذا لم تكن في خدمة الأسياد.
وبناء على انقسام المجتمع إلى أسياد، وعبيد، فإن الاقتصاد أيضا ينقسم إلى اقتصاد الأسياد، واقتصاد العبيد، والعلاقات الاجتماعية إلى علاقات الأسياد، وعلاقات العبيد، ولا يجوز أبدا أن تكون هناك علاقات اجتماعية بين الأسياد، والعبيد، نظرا للتناقض الصارخ بين الأسياد، والعبيد. وتبعا لذلك، فثقافة الأسياد ليست هي ثقافة العبيد، نظرا لاختلاف قيم السيادة عن قيم العبودية. وبهذه القيم الثقافية المتناقضة، فإن الأسياد وحدهم يمارسون السياسة، على خلاف العبيد، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا، لعبوديتهم. لذلك فهم يجدون أنفسهم ممسكين عن القيام بأي فعل يخص الأسياد، حتى وإن كان الأمر يتعلق بالحرب، كما حصل مع عنترة بن شداد، الذي أمره سيده بالذهاب إلى الحرب، من أجل الدفاع عن قبيلة بني عبس، التي يستعبد أسيادها عنترة بن شداد، فامتنع عن ذلك، مبررا امتناعه بقوله: "العبد لا يحسن الكر، و إنما يحسن الحلاب والصر" فأجابه سيد قبيلة بني عبس: كر، وأنت حر، فكان ما كان. وإذا حدث، وقام عبد بما يقوم به سيده، أو السادة، فلأجل الامتثال لأوامر السيد، الذي بيده مصير عبيده، ليس إلا. وليس لأن العبيد كانوا يمتلكون مكانة خاصة في المجتمع العبودي.
أما التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية الإقطاعية، فيتكرس من خلالها، وفي إطارها، انقسام المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين: طبقة الإقطاعيين، وطبقة الأقنان، أوعبيد الأرض. فإذا كان السيد يستغل العبد بسبب ملك الرقبة، الذي يعتبر بمثابة وسيلة من وسائل الإنتاج العبودي، فإن الإقطاعي يستعبد القن، بسبب ملك الأرض، وبسبب حاجة القن إلى تلك الأرض، من أجل أن يعيش. ولذلك فطبقة الإقطاعيين تشكل مجتمعا خاصا بها، بقيمه المختلفة، وبجعل تلك القيم مقدسة عند العبيد، واعتبار العلاقات الاجتماعية الإقطاعية راقية، في الوقت الذي لا يستطيع الأقنان أن يتمثلوا قيم الإقطاع، لتدني قيمهم ولحقارة علاقاتهم الاجتماعية، التي تنسجم مع طبيعة ارتباطهم بالأرض، التي لا يستطيعون التحرر منها.
وتبعا للعلاقات الاجتماعية الخاصة بطبقة الإقطاعيين، والعلاقات الاجتماعية الخاصة بالأقنان، فإن الاقتصاد الخاص بالإقطاعيين يعتبر اقتصادا للترف، وللمتعة، وللاستهلاك، من أجل النيل، ما أمكن، من متاع الحياة الدنيا، في الوقت الذي يعاني فيه الأقنان من كل أشكال البؤس المادي، والمعنوي، فلا يجدون ما يشبع بطونهم، في الوقت الذي يقضون فيه وقتهم، هم وأبناؤهم في خدمة الأرض، من أجل أن تنتج الأرض المزيد من الخيرات لصالح الإقطاعيين، الذين يمارسون عليهم كافة أشكال القهر المادي، والمعنوي.
وإذا كان من حق الإقطاعيين وحدهم أن يمارسوا السياسية، وفي أرقى صورها، باعتبارهم مالكين للأرض، فإن الأقنان لا يملكون هذا الحق لعبوديتهم. ولذلك نجد أن المجتمع الإقطاعي يتميز بكونه محكوما باستبداد الإقطاعيين، الممارس من قبل النظام الإقطاعي، الذي يستند إلى إيديولوجية، هي عبارة عن خليط من الأفكار الخرافية، والدينية، الهادفة إلى تضليل الأقنان، وترهيبهم، حتى يستمروا في خدمة الأرض لصالح الإقطاعيين.
والمجتمع الإقطاعي لا يعرف شيئا اسمه الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وفيه يتم الاستناد إلى الشرائع الدينية، التي لا تنجو من الاستناد إلى الفكر الخرافي، في ضبط المجتمع، وفي حكمه، وفي اعتبار ما يقوم به الإقطاعيون من ممارسات من تلك الشراع، و بأمر من الله، و بإرادته. وكل من يسعى إلى العمل على تحقيق الديمقراطية، والتمتع بحقوق الإنسان، فإن دمه يصير مهدورا. وقد يؤدي ذلك إلى قيام الحرمان من الحق في الحياة لتصفية جميع المخالفين للنظام الإقطاعي، وتحت ذرائع متعددة، وفي مقدمتها ذريعة "تطبيق الشرائع الدينية". و هو أمر، إذا كان يكرس شيئا، فإنه يكرس جمود المجتمع الإقطاعي، وتخلفه، وعرقلته لكل أشكال التطور، التي يعرفها المجتمع، حتى لا يترتب عنها انتقال المجتمع الإقطاعي، إلى التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الأرقى.
وكون المجتمع الإقطاعي، مع محافظته، وجموده، أرقى من المجتمع العبودي، فإن المجتمع الرأسمالي يعتبر أيضا أرقى من المجتمع الإقطاعي، نظرا لانتقاله من التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعة الإقطاعية، إلى التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية الرأسمالية الأكثر تطورا، والتي لازالت تجدد نفسها إلى أن تستنفذ كل أشكال التطور الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي.
غير أن المجتمع الرأسمالي، كباقي المجتمعات الاستغلالية، يعرف بدوره الانقسام الطبقي الحاد، الذي يتمثل في انفراز طبقتين رئيسيتين: طبقة مستغلة (بكسر الغين)، وطبقة مستغلة (بفتح الغين) وما بين الطبقيتين.
فالطبقة الممارسة للاستغلال في المجتمع الرأسمالي هي فئات البورجوازية، المتكونة من البورجوازية التابعة، و من البورجوازية الليبرالية التي يمكن تسميتها بالبورجوازية الوطنية، و البورجوازية الصغرى، و المتوسطة. وهذه الفئات من البورجوازية، تستبد كل منها بجزء معين يتناسب مع طبيعتها، من فائض قيمة الإنتاج المادي، والمعنوي.
أما الطبقة التي يمارس عليها الاستغلال، فهي الطبقة الحاكمة، وسائر الكادحين، الذين لا يمارسون أي شكل من أشكال الاستغلال المادي، والمعنوي، كالفلاحين الصغار، والمعدمين، والحرفيين، والتجار الصغار، وغيرهم، ممن يمارسون عملا معينا، أو يقدمون خدمات معينة، من أجل أن يعيشوا، ليس إلا.
وفي المجتمع الرأسمالي نجد تنوع العلاقات الاجتماعية، ونجد كذلك تنوع القيم الثقافية، مما يؤدي إلى القبول بالانتقال من طبقة إلى طبقة أخرى. ولكن الثابت فيه هو الاستغلال البورجوازي لسائر الكادحين، وطليعتهم الطبقة العاملة.
و في المجتمع الرأسمالي نجد التعبيرات الإيديولوجية، والسياسية عن مختلف الطبقات الاجتماعية، بما فيها الطبقة العاملة المنتجة للخيرات الاجتماعية. وفي هذا الإطار نجد إيديولوجية البورجوازية التابعة، وإيديولوجية البورجوازية الليبرالية، وإيديولوجية البورجوازية الصغرى، والمتوسطة، إلى جانب إيديولوجية الطبقة العاملة، وسائر الكادحين، بالإضافة إلى إيديولوجية بقايا الإقطاع، وإيديولوجية اليمين المتطرف.
ومبرر هذا التنوع الإيديولوجي، يكمن في الانفراز الحاد، والمتنوع للطبقات الاجتماعية، وسعي كل طبقة إلى تحقيق المصالح التي تناسبها، انطلاقا من الإيديولوجية التي تقتنع بها، كما يكمن في سعي كل طبقة، وبوسائلها الخاصة إلى الوصول إلى السلطة، في مستوى معين، من مستوياتها المختلفة.
ومن أهم ما يميز المجتمع الرأسمالي، هو اعتماد الممارسة الديمقراطية بمضمونها السياسي. وهذا الاعتماد يقتضي وجود دستور، أو قانون عام، يكون منطلقا لكافة التشريعات، التي تنظم المنافسة الديمقراطية، من أجل الوصول إلى السلطة السياسية، التي تمكن من تقرير نمط معين من العلاقات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، التي قد تكون رأسمالية تابعة، أو رأسمالية، أو متعددة التوجهات، أو وسطية بورجوازية صغرى، أو ذات توجه إقطاعي، أو يميني متطرف، أو اشتراكي معين.
وفي ظل المجتمع الرأسمالي، يمكن الحديث عن الديمقراطية، وعن حقوق الإنسان، وعن الحرية، وعن العدالة الاجتماعية، كما يمكن إتاحة الفرصة أمام جميع أفراد المجتمع، من أجل تنظيم أنفسهم، في الإطارات الجماهيرية، أو النقابية، أو الحزبية التي تناسبهم، والتي تمكنهم من تحقيق أهداف محددة: اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية. غير أن شعارات الديمقراطية، وحقوق الإنسان، لا تعتمد إلا من وجهة نظر البورجوازية التي تتحكم في ملكية وسائل الإنتاج، حتى تحافظ على مصالحها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية. أي على استغلالها للطبقة العاملة، ولسائر الكادحين. لأن المجتمع الرأسمالي، هو مجتمع استغلالي بالدرجة الأولى، وتشيع فيه كافة أشكال الاستغلال المادي، والمعنوي، ويصير فيه كل شيء قابلا للبيع، بما في ذلك الضمائر البشرية، التي تباع في مختلف الاستشارات الانتخابية، التي تجريها الأنظمة الرأسمالية، من أجل تأبيد سيطرتها على المجتمعات البشرية، حتى تستمر البورجوازية في مضاعفة استغلالها للكادحين في كل مكان من العالم.
ولذلك، فالمجتمع الرأسمالي لا يختلف عن المجتمع العبودي، والإقطاعي، إلا في نوعية الاستغلال الممارس، ونوعية الوسائل المعتمدة في ذلك الاستغلال، والهدف منه، وفي مستوى فائض القيمة، الذي يذهب إلى جيوب البورجوازيين، وفي نوع الحرية، التي صار الناس يتمتعون بها. وإلا فإن استغلال الإنسان يبقى هو هو، سواء كان عبوديا، أو إقطاعيا، أو رأسماليا. والمستغلون (بفتح الغين) يزدادون بؤسا، في ظل المجتمع الرأسمالي، أكثر من أي وقت مضى.
وبالنسبة للمجتمع الاشتراكي، فإننا نجد أنه يمكن الوقوف على قيام هذا المجتمع، بتحويل الملكية الفردية، إلى ملكية جماعية، مما يساعد على التقليص من الفوارق الطبقية، ويؤثر على طبيعة المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، وعلى العادات، والتقاليد، والأعراف، التي تصير متجددة، بفعل تأثير القيم الاشتراكية، التي تفتح آفاقا كبيرة أمام المجتمع الذي يعيش في ظل النظام الاشتراكي.
والمجتمع الاشتراكي لا يقضي على الاستغلال، بقدر ما يعمل على التقليص من حدته، حتى يذهب أكبر فائض للقيمة لصالح المجتمع، فيتمتع الناس بمجانية الخدمات التعليمية، والصحية، ويحصلون على حاجياتهم الضرورية، والكمالية، ويسعون إلى أن تسود بينهم علاقات إنسانية أكثر قيمة من أي علاقات أخرى.
وفي المجتمع الاشتراكي يعطى للديمقراطية مضمون اقتصادي، واجتماعي، وثقافي، ومدني، وسياسي. وهذا المضمون يحيلنا مباشرة إلى منظومة حقوق الإنسان الواردة في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، التي يعمل المجتمع الاشتراكي على أجرأتها، وبطريقة تلقائية، ودون الرجوع حتى إلى تلك المواثيق نفسها. لأنها تدخل في إطار النظام الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، كما تراه الاشتراكية. ولذلك فنحن، في المجتمع الاشتراكي، لا نحتاج إلى النضال من اجل التمتع بالحقوق الإنسانية، لأنها تكون مكفولة، ومضمونة بالقوانين الاشتراكية، التي تسعى إلى جعل القطاعات الكبرى: المحلية، والإقليمية، والجهوية، والوطنية، في ملك المجتمع، الذي يستفيد بشكل جماعي من فائض قيمة الإنتاج.
والمجتمع الاشتراكي، لا يترك مسألة التنمية الاقتصادية، والاجتماعية إلى المبادرات الفردية، بل يجعلها من مهام المؤسسات الاشتراكية.
والذي يمكن أن يؤاخذ به المجتمع الاشتراكي، هو أنه لم يتمسك بحقه في الممارسة الديمقراطية الحقيقية، التي تمكنه من اختيار من يمثله تمثيلا حقيقيا في المؤسسات الاشتراكية، سواء تعلق الأمر بالمؤسسات التشريعية، أو بالمؤسسات التنفيذية، حتى يطمئن على مستقبل الاشتراكية من جهة، وعلى عملية التفعيل في اتجاه إنضاج شروط الانتقال إلى المرحلة الأعلى، وعلى المستوى العالمي، ومن اجل الوصول إلى مرحلة انتفاء الحاجة إلى السلطة، عن طريق إيجاد إنسان اشتراكي نوعي من جهة أخرى.
وبذلك نصل إلى أن المجتمع الإنساني لا يتخذ طبيعة واحدة، فهو يتغير حسب تطور التاريخ، وحسب الأمكنة، وحسب التشكيلة الاقتصادية/الاجتماعية القائمة في كل زمان، وفي كل مكان، وحسب النظام القائم، وهل هو عبودي؟ أو إقطاعي؟ أو رأسمالي؟ أو اشتراكي؟ وجميع هذه المجتمعات عرفتها البشرية، التي ستعرف أنواعا أخرى من المجتمعات.
إن موضوع العلاقة بين العلمانية، والدولة، وبين العلمانية، والدين، وبين العلمانية، والمجتمع، أو العكس، هي علاقة تكاد تكون متداخلة، ومتناقضة في نفس الوقت. وحتى نزداد استيضاحا للأمر، يجب أن نتناول مفاهيم العلمانية، والدولة، والدين، والمجتمع، حسب ما يؤدي إليه منهجنا في التحليل، قبل أن نتناول أية علاقة تقوم في المفاهيم، وفيما بينها. وقبل أن نتناول أسئلة الحوار المتمدن بالإجابات المفترضة، حسب فهمنا، وانطلاقا من إدراكنا الخاص بموضوع " العلاقة المتبادلة بين العلمانية والدولة، والدين، والمجتمع" .
08-أيار-2021
06-كانون الثاني-2007 | |
16-كانون الأول-2006 | |
العلاقة المتبادلة بين العلمانية و الدولة و الدين و المجتمع ج3 |
09-كانون الأول-2006 |
العلاقة المتبادلة بين العلمانية و الدولة و الدين و المجتمع ج2 |
25-تشرين الثاني-2006 |
14-تشرين الثاني-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |