حكايات محرمة من التوراة 2
2006-04-09
الفصل الثاني
الحياة ضد الموت
حاول المدافعون في الأديان الثلاثة أن يجدوا تفسيراً للنهج الفضائحي للوط وابنتيه منذ اللحظة التي سجلت فيها قصتهم للمرة الأولى في سفر التكوين. ومع ذلك فإن المستغرب حقاً، أن يبد لوط رغبة في إلقاء ابنتيه العذراوتين إلى غوغاء فاسقة، وأن يتصل جنسياً بالأقارب الأدنين «إن لم يكن واعياً» مع ابنتيه بعد فرارهم إلى الجبال، ولم يعتبر رجال الدين والمعلقون أن ذلك أسوأ معصية باعتبار لوط أباً وزوجاً ورجلاً.
ولوط هو ابن أخ سيء الحظ لابراهيم، الأب «البطريرك» و«المثال على انحراف العقيدة» (1) الذي منحه الرب بركته الثمينة والدائمة، وقال الرب إلى ابراهيم: «وأنا أجعلك أمة كبيرة وأباركك» (سفر التكوين 12: 2) ولوط على العكس، فيه شيء ما منحوس، يسير على خطا ابراهيم ويستند إلى عمه العطوف في إخراجه من ورطته، ووفق إحدى الفقرات الأكثر مدعاة لاستغراب في التوراة، فإن ابراهيم، وهو رجل عجوز ولطيف «كان غنياً جداً بالماشية والفضة والذهب» (سفر التكوين 13: 2) قدم كشخص قاس ومتعد لشن الحملات، امتطى وسار على رأس جيش لتخليص لوط من ملك عتيد أخذ لوطاً رهينة (سفر التكوين 14: 14 ـ 16) وكانت آخر وأعظم خدمات ابراهيم للوط ـ فعل متهور لم يقم به إبراهيم حتى عندما أمره الله بالتضحية بابنه ـ والفعل هو حجة البطريرك أمام ربه بالعفو عن الصالحين في سدوم وعمورة (سفر التكوين 18: 23) ومن المفترض أن يكون لوط وأسرته من ضمنهم.
ويتوقف المحلفون التوراتيون ـ حسب ما يقال ـ عندما يطرح السؤال فيما إذا كان لوط صالحاً بوجه عام، وتصر إحدى الفرق على أن لوطاً كان مثل عمه ابراهيم «كاملاً وورعاً» حسب ما وصف أحد الحكماء (2) وينظر التقليد المسيحي إلى لوط «إنسان صالح» حسب ما قال بطرس، الذي شبهه بنوح، وناقش قائلاً، إن لوط وأسرته من سدوم كان علامة على إرادة الله «بإبعاد التقي عن الإغراءات» (رسالة بطرس الثانية 2: 7 ـ 9) ويصور القرآن لوط كمحمد صلى الله عليه وسلم، أي كنبي أرسله الله لإدانة الأشرار (3)، وتعتقد في موضوع آخر في الأدب التوراتي بـ«فاسق» (4) ويفترض أنه اختار الإقامة في سدوم بالتحديد لأنه انجذب إلى البذاءة السائدة.
والتوراة بالذات لم تقرر بشأن الجدارة الأخلاقية للوط، ولكن يظهر أن النوم مع ابنتيه في حالة غيبوبة ناتجة عن شرب الخمر ـ ليس مرة واحدة، بل مرتين ـ هو أقل جرائمه. الخير والشر في قصة لوط:
إن تقى لوط ـ أو الحاجة إلى التقى ـ هو بين السطور ولم يجر الحديث عنه في الجدل المميز ما بين الأب «البطريرك» ابراهيم والعلي القدير بشأن مصير سدوم، حين طرح السؤال بشأن حياة أو موت لوط وأسرته، وإبراهيم الذي سوف يضع السكين على رقبة ابنه بأمر من الله دون أن يبدي أي اعتراض، نراه يستجمع شجاعته لكي يدخل في جدال مع الرب بشأن الخير والشر، كإشارة على التحدي لأي قارئ للتوراة يتكون لديه انطباع أن الله يفضل المؤمنين به الذي يخرسون ويفعلون ما قيل لهم.
بعد ظهر يوم قائظ، كما تقول القصة في سفر التكوين تجلى الرب، وزوج من الأصدقاء الحميمين عند خيمة ابراهيم «عند بلوط ممراً» في زي مسافرين عبر الصحراء، فأسرع إبراهيم ليرحب بهم فيغسلون أقدامهم ويقدم لهم وجبة طعام. وباعتبار أن قوانين الحمية التي تقف ضد مزج اللحم بالحليب لم يسر مفعولها حتى يأتي موسى بعد بضعة قرون، فإن الضيوف الإلهيين تناولا وجبة كوشرية تتضمن لحم عجل وزبداً وحليباً (سفر التكوين 18: 1 ـ 8).
وكان مرافقاً للرب المسافرين في طريقهما لتدمير سدوم وعمورة «لأن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيئتهم قد عظمت جداً» (سفر التكوين 18: 1 ـ 8).
والله الذي يسير ببطء خلفهما يشعر أنه ملزم بأنه يفاتح ابراهيم بشأن إنزال العقاب الجماعي، ظاهرياً خارج إطار الولاء للكائن بالبشري الذي عقده معه منذ فترة وجيزة «عهد دهر» (سفر التكوين 17: 7). ومن جهة أخرى، فإن إبراهيم المذعن وغير المتشكي كانت لديه الجرأة الوقحة لكي يجادل العلي القدير بشأن علاقة القربى التي تربطه مع أهل سدوم وعمورة، والمدينتان التوأم في الإثم والغلو في السوء.
«أتهلك البار مع الآثم؟» (سفر التكوين 18: 23) قال إبراهيم للرب، وقد نصب نفسه مدافعاً عن السدوميين الذين يعيش ابن أخيه لوط بينهم.
القدير مثلما يفعل التاجر في السوق، يوافق الرب في النهاية على أنه لو وجد عدداً قليلاً من الناس بحدود عشرة أشخاص صالحين في سدوم، فإن المدينة كلها سيعفى عنها (سفر التكوين 18: 25 ـ 32) «ولهذا السبب، تقترح بعض المصادر أن «المينيان» أو النصاب الشرعي لعدد المصلين المطلوب في الدين اليهودي هو عشرة» (5) إلا أننا ملزمون بأن ندرك أن السدوميين لم يستطيعوا أن يجمعوا حتى مينيان واحد، لأن الرسولين الملائكيين تقدما لتدمير ليس فقد سدوم وعمورة، بل العديد من المدن «الأخرى» في البقعة/ السل «دون إبداء الرأفة إزاء رجل أو امرأة أو طفل»(سفر التكوين 19: 29).
وكما يحدث عادة، استثني لوط من «نار الجحيم والكبريت الشهير» الذي اجتاح باقي السدوميين، ليس بسبب الإعلان من قبل الرب أو أي شخص آخر، أنهم يجب أن يكونوا صالحين «ذلك أن الصالح في هذه المدن الغارقة في الإثم، مع أنه أفضل من الباقين، كان أبعد ما يكون عن الخير» حسب ما قال فيما بعد حكيم حاخامي(6)، وهكذا فإن مصير لوط كان فضيلة أخرى تضاف إلى فضائل عمه ـ أو أنها كانت فضيلة رغب الله أن يقدمها إلى قريب التوراة عن الكلام لتقول لنا بعدئذ إن الله «أطلق لوطاً من سوط الانقلاب» (سفر التكوين 19: 29).
البهلوان المأسوي «التراجيدي»
إذا لم يكن لوط رجلاً صالحاً ومستقيماً، فيما هي، على وجه الدقة، جرائمه وجنحه؟ يعار اهتمام كبير في الأدب الديني إلى صيغ الترحيب التي استخدمها لوط عند استقباله الغربيين اللذين ظهرا في سدوم عشية يوم التدمير، ولقد طلب منا أن نصدق ذلك، وفق المصطلحات الأخلاقية، والأهم ـ أدب السلوك (الاتيكيت) ـ للمكان والزمان اللذين عاش فيهما لوط، فقام بما كان ينبغي خير قيام، وقد قال أحد المفسرين: «إن مشهد الأب وهو يقدم ابنتيه العذراوين لتحقيق رغبة ومسرة الغوغاء التي كانت تسعى جهدها لنهب منزله، لن تبدو صادمة للمشاعر القديمة لآداب المجتمع كما تبدو لنا الآن». ومما يثير الذهول أن الدارسين والحكماء في القرون الفائتة مالوا إلى التغاضي عن معظم السلوك الواضح والمقيت للوط، وبذلوا جهداً وصرفوا حبراً كثيراً وهم يناقشون مثلاً، إن كان يجب توجيه لوم إلى لوط بسبب مماطلته أثناء مغادرة سدوم، أو بسبب مساوماته مع الملائكة بصدد مكان اللجوء، وكان الموضوع المفضل عقد مقارنة ما بين ابراهيم ولوط بصفهما مضيافين جيدين: فقد وجدوا أن لوطاً كان ضعيفاً لأن ابراهيم هرع لملاقاة الزوار الملائكيين الذين ظهروا عند خيمته، بينما «تأخر لوط في تقديم عرضه بالذهاب بسرعة إلى بيته» عندما ظهر في سدوم.
واختلفت الأعذار من قبل الوعاظ والمفسرين حتى فيما يخص هذه المثالب المفترضة. وصورت ألاعيب لوط قبل مغادرتهم سدوم وكأنها سلوك محتشم يمكن توقعه من «صاحب أي بيت» وذريعة لوط المضحكة قليلاً بشأن مدينة صوعر التي استثنيت ليس بسبب رغبة لوط في الحصول على ملجأ مريح أكثر، بل بسبب «اهتمامه المفهوم بالأشياء الصغير والعاجزة» والأسوأ، أن لوطاً انتقد لكونه «سلبياً، وغندوراً وأبله».
وعندما تصل الأمور إلى سلوك لوط الأكثر غرابة (غورتسكية) والأكثر إثارة للاشمئزاز ـ أي رغبته في إلقاء ابنتيه إلى الغوغاء ـ يقدم علماء الدين عذرين واهيين: في الأول، قيل أن القوانين القديمة كانت تفرض على لوط واجباً مقدساً يتمثل في حماية ضيوفه حتى لو تعرضت حياة أسرته وحياته للخطر. والواقع أن الضيفين انقلبا إلى ملاكين. وهذا الأمر لم يكن معروفاً للوط حين قدم ابنتيه للغوغاء وكل ما عرفناه بهذا الشأن أنهما زوج من المقتحمين بلا أسماء، ليسا أكثر جدارة بترحيب لوط بفريق من المرسلين من السماء. وثانياً، طلب منا أن نصدق أن الأطفال اعتبروا وكأنهم كانوا أدنى قيمة في الزمن التوراتي مما هم عليه حالياً، أي أنهم اعتبروا كأملاك منقولة أكثر منهم أعزاء على قلوب والديهم. لذا فقد كان الأب حراً بأن يفعل بأطفاله (وببناته خصوصاً) ما يشاء.
والآن، صحيح تماماً أن قواعد إكرام الضيف الصارمة وربما المقدسة أيضاً قد سادت بين سكان الصحراء من الراحل في منطقة الشرق الأدنى القديم، وهي تسود الآن في أوساط البدو في منطقة الشرق الأدنى المعاصرة.
وحسبما يبين معلم حاخامي معاصر فإن «الغريب حالما يلمس حبل الخيمة، يصبح من حقه أن يطالب بحق الضيف» وقد يعتمد بقاؤه على قيد الحياة في البراري على كرم وإرادة البدو الرحل الطيبة الذين يلتقون مع بعضهم بعضاً بالصدفة. وكان يعتقد أن من الواجب الجليل تقديم المأوى للغريب الذي يظهر عند خيمة أحدهم. وتتطلب القواعد البدوية في إكرام الضيف، تقليداً، تقديم الطعام والشراب والمأوى لفترة لا تقل عن ثلاثة أيام حتى لو كان المضيف فقيراً إلى حد قد يعرضه ما قدمه إلى الجوع.
ويقدر بعض العلماء الأنثروبولجيين أن واجب إكرام الضيف يتسع إلى حد تقديم رفقة جنسية إلى الضيوف. ولوحظت هذه الممارسة في القرن التاسع عشر في أوساط قبائل معينة مثل جماعة «ورثة ابراهيم في الوقت الراهن» التي كانت تمارسها في وقت متأخر من القرن المذكور أعلاه وإذا اعتبر لوط نفسه ملزماً بتقديم نوع مماثل من باب «كرم الضيافة» فإن من الطبيعي، إذن، تقديم ابنتيه لمنح متعة جنسية للغوغاء، ولا يستبعد أن يكون هذا العرض أقل قيمة في نظره، حتى لو صدمنا، لكونه غريباً غرابة (غروتسكية) أكثر من المشهد الذي قدم في التوراة نفسها.
ومن الصحيح أيضاً، أن الشريعة التوراتية تمنح الأب الإسرائيلي درجة كبيرة من السلطة على أسرته، وعلى أطفاله بصورة خاصة، وكانت للأب سلطة توزيع العقوبات على ذريته، كان يطردهم من بيته، أو حتى أن يبيعهم كرقيق أو كمحظيات لسداد الدين ويمنح سفر تثنية الاشتراع الأب حق قتل ابنه المتمرد. وعلى الأقل في ظروف معينة (سفر تثنية الاشتراع 21: 18 ـ 21).
وليس بما لا يشبه أزمنة وأمكنة أخرى (بما في ذلك زماننا ومكاننا) كان الطفل الذكر يحظى بمكانة أرفع من الطفل المؤنث في العالم التوراتي وفي التوراة نفسها. فالأطفال الذكور وحدهم هم الذين يرثون الممتلكات عن أبيهم، ومن المتوقع أن تندمج الابنة في أسرة الزوج ـ «وهكذا، فإن قوة البيت لا تقاس بعدد البنات» حسب ما كتب معلم توراتي. ولهذه الأسباب مجتمعة يعتقد بعض النقاد والمعلقين أن لوطاً لم يقم بدور فاعل إزاء ابنتيه بحيث يضع سلامتهن فوق اعتبارات واجباته إزاء الغريبين الذين أواهما تحت سقفه.
لذا فإن من المطلوب منا أن نتغاضى، لا بل أن نثني على تقديم لوط ابنتيه إلى الغوغاء من أجل حماية ضيفه. وحتى إذا كان تسليم ابنتيه «يثير اشمئزاز الأخلاق العربية»، حسب ما كتب أحد المعلقين، فإن من المفترض فينا أن لا نعتبر لوطاً جباناً خائر القلب، بل أن تعده كـ«بطل شجاع في حلبة التزامات كرم الوفادة من موقف في منتهى الإحراج، مما يشجعنا على الرؤية باعتبار العملية تمثل دعوة أرفع مقام من القول، بالسلامة الجسدية لأطفال امرئ ما. وفوق ذلك، يلحون علينا لأن لا نصدر حكماً أخلاقياً على سلوك لوط حسب ما كتب في التوراة ـ وهي مناقشة ساخرة للدفاع عن كتاب من المفترض أن يكون حجة حاسمة بالنسبة إلى الخير والشر.
يصر غيرهادر فون راد، وهو ناقد متميز لسفر التكوين، على «أن التقديم المفاجئ لابنتيه يجب أن لا يحكم عليه ببساطة انطلاقاً من أفكارنا الغربية، بأن لوطاً كان يريد، من دون ضغط الظروف عليه لكي ينتهك كرم الوفادة، أن يكون مضيفاه أبعد من أن يسهما أحد بسوء أكثر من حرصه على ابنتيه، هي الفكرة التي استحوذت على القارئ القديم».
وما يستحوذ على القارئ المعاصر في المقابل، استعداد لوط لأن يسمح «لمطالب المجاملة أن تقلب الالتزامات الأخلاقية للأبوة، حسب ما كتب تقريباً أحد علماء التوراة وليس كافياً أن نرفع أكتافنا ونقول أننا لا نستطيع أن نفهم كيف أن الرجال والنساء الذين عاشوا قبل بضعة آلاف من السنين كان يجب أن يشعروا إزاء أطفالهم، بل أن أوائل القراء لهذه القصص لم يتمكنوا من إخفاء اشمئزازهم أمام استعداد لوط لإرسال ابنتيه إلى عصبة المغتصبين، ولو كان ذلك بسبب «أن أي قارئ إسرائيلي لهذا النص سيعرف» إن جريمة الاغتصاب مدانة بصورة قاطعة حسب الشريعة التوراتية، وإن الأسطورية التوراتية تفرض عقوبات قاسية (انظر الفصلين الرابع والرابع عشر) وتؤكد كل من التوراة ذاتها. وأحكام علم التوراة أن الأطفال اعتبروا من قبل الإسرائيليين وكأنهم ليسوا أقل من هبة ثمينة من الله، وتحقيقاً لوعود الرب المتكررة لابراهيم، واسحق، ويعقوب بأنه «سيكثر ذريتهم».
إن سلوك الكاتب التوراتي إزاء لوط لم يجر الحديث عنه بصوت عال، ومن الصعب إغماض عيني قارئ التوراة. ولم يصور لوطاً لا كجبان ولا كبطل، وتم تقديمه كمهرج إلى هذا الحد أو ذاك: «بهلوان مأسواي (تراجيدي) وفق كلمات أحد المثقفين التوراتيين المعاصرين، وعنصر مضحك» أو «مهرج» أو «أحمق سلبي» حسب كاتب آخر وتذكرنا المواجهات ما بين لوط وجيرانه، وأسرته، والملاكين المنقذين بحويصلة الخنزير، ودبدبة الهزلي، وعرض مسرحي كئيب. وكما حاولت أن أقترح أثناء إعادة قص الحكاية، فإن عبثية لوط مع الملاكين المدمرين حول مصير «المدينة الصغيرة» التي تدعى صوعر هي مادة من نموذج أبوت وكوستيلو وليس مسرحية أخلاقية.
وكما لاحظ أحد كتاب الدراما وقد حول قصة لوط وابنتيه إلى مسرحية، فقد كان يجب قص قصة لوط وابنتيه البائستين بلكنة يديشية تنتهي بـ«لذا، فما الذي حدث بعد كل هذا العمل؟ فقد كان أقرباؤهم من الغويم».
وعندما تصل الأمور إلى الاتحاد الجنسي ما بين لوط وابنتيه من ناحية ثانية، يواجه القاص التوراتي الأمر باستقامة وهدوء. فلم تنتقد التوراة، كما لم ينتقد الأدب الديني لا لوط ولا ابنتيه بل أن الأدب الديني حاول أن يبرئ صلاتهم الجنسية العارضة في ذلك الكهف الجبلي الذي يطل على سدوم المتفجرة، وبالنسبة للراوي فقد اعتبر لوطاً بريئاً تماماً من كل ما حدث بعد أن أخضعتاه ابنتاه لمفعول الخمر وبعثنا به إلى حالة من حالات سبات المخمور:
«فقد كان لوط ضحية، أكثر منه محرضاً على هذا الفعل الشائن، حسب قول أحد المعلقين واعتبرت حتى ابنتيه، كما سنرى، بطلتين أكثر منهن امرأتين استغوتا أو اغتصبتا والدهما. ويبدو أن الاتصال الجنسي مع «المحارم» حسب ما يقترح كاتب التوراة، ليس أسوأ من انتهاك النظام الأخلاقي، وخصوصاً في حالة الحفاظ على النوع، وعلى مملكة إسرائيل، ويظهر أن مولد المسيح مرهون بيد التقادير.
الرهق «الاتصال الجنسي بين الأقارب الأدنين» في العالم القديم
منذ أن حل سيغموند فرويد الأب السماوي كمصدر للقانون الأخلاقي، ونحن نعلم أن نعتبر التحريم (التابو) بصدد الاتصال الجنسي بين الأقارب الأدنين (الرهق) شيئاً عميقاً وقوياً، قديماً، وكونيا، ولما كانت مشاهد الاتصال الجنسي بين لوط وابنتيه صادمة إلى هذا الحد غير اللائق، عندما نواجه القصة في الكتاب المقدس؟ غير أن الحقيقة هي أن عالم التوراة (كما سنرى عند مؤلفي التوراة) نظر إلى الرهق برعب أقل بكثير مما نفترض لدى قراءة فهرست (كاتالوج) المنوعات الجنسية في سفر الأحبار.
لم تكن العلاقات الجنسية بين الأقارب بالدم مدانة عالمياً في الأديان والثقافات في الشرق الأدنى القديم.. وعلى سبيل المثال، لم تنبت حضارة بلاد الرافدين (ميسوبوتاميا) حيث ولد ابراهيم ولوط، ببنت شفه عن الاتصال الجنسي بين الأقارب الأدنين ما بين الآلهة إن لم يكن ما بين الناس العاديين. مع أن التحريم ضد الاتصال الجنسي ما بين الأب وابنته نحت في الحجر في قانون حمورابي. فقد صورت الأساطير المقدسة في بلاد الرافدين القديمة الآلهة في اتصال جنسي مع ذريتهم ومع أشقائهم.
وكانت قوانين وعادات مصر القديمة، وهي المكان الذي سافر إليه ابراهيم ولوط بحثاً عن المؤونة أثناء المجاعة، أكثر من منصفة: فقد سمح للآلهة وللكائنات البشرية أن يندمجوا في زيجات مع الأقارب الأدنين في ظل ظروف معينة. وباعتبار أن القوانين المصرية تنقل الملكية من الأم إلى كبرى بناتها، أكثر من نقلها من الأب إلى الابن، فقد يلجأ الأب إلى الزواج من ابنته (وقد تزوج الابن أخته) من أجل منع ثروة الأسرة من الوقوع تحت حكم من خارج الأسرة. وقد يتزوج فرعون من أخته وهو يقلد أسطورة أزيس وإيزوريس، الأخ والأخت العاشقين اللذين عرف حكام مصر أنفسهم من خلالهما.
وتقع أرض كنعان إلى الغرب من بلاد الرافدين (ميسوبوتاميا) وإلى الشرق من مصر، وتقع ضمن أجواء التنافس للتأثير على الحضارتين كلتهيما.
والإسرائيليون الذين جاءوا لكي يعيشوا في اتحاد جنسي مع أخته عنات، وفي الوقت الذي غزا فيه الإسرائيليون أرض كنعان واستقروا فيها بعد الخروج من مصر، كانت القوانين التي حفظت في الأسفار الخمسة لموسى ـ وهي الأسفار (الكتب) الخمسة الأولى في التوراة العبرية ـ ولازالت، تشجب، بصورة صريحة وواضحة، كل أشكال الاتصال الجنسي مع الأقارب الأدنين التي مورست من قبل غير الإسرائيليين.
«كصنيع أهل مصر التي أقمتم بها لا تصنعوا وكصنيع أهل كنعان التي أنا مدخلكم لا تصنعوا وعلى رسومهم لا تجروا» (سفر الأحبار 18: 3).
وهكذا تمنع التوراة بصورة الاتصال الجنسي ما بين الإسرائيليين وأي قريب لهم بالدم: الأم والأب، والأخت والأخ، العمة (الخالة) أو العم (الخال).
الأطفال والأحفاد، وحتى الأقارب بالمصاهرة، وأزواج الأب أو الأم «ولن يقترب أي منكم من أي قريب من أقربائه وأن يكشف عن عريه: أنا الرب» (سفر الأحبار 18: 6 ـ 20) بهذا الشكل قدمت ترجمة الملك جيمس الألماحة إلى الاتصال الجنسي مع الأقارب الأدنين باستخدام الاستعارة التوراتية العامة للاتصال الجنسي. ومن ثم، لئلا يبدأ أي امرئ بالبحث عن منافذ، يبدأ (كاتالوخ/ فهرست) حقيقي بالسلوك الجنسي المحرم: «عري أبوك» وعري أمك، لا تكشف.. عري أختك.. عري ابنة زوجة أبيك» وهكذا (سفر الأحبار 18: 6 ـ 30).
وبالطبع طبقاً لمجرى الأحداث الموصوفة في التوراة نفسها، لم يكن لوط وابنتاه موضعاً لأي قانون عرفي ضد الاتصال الجنسي بالأقارب الأدنين (الرهق)، طالما أن القواعد الشرعية المذكورة في سفر الخروج، وسفر الأحبار، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع لم ينزل إلى الأرض حتى كشف الله عنها لموسى بعد عدد من القرون. غير أن الثقافة التوراتية المعاصرة تزعم بصورة عامة أن كثيراً من التوراة (إن لم تكن كلها) جمعت واختصرت لي تكتب في شكلها الراهن الذي كان سائد حوالي 600 قبل العهد المشاعي من قبل محررين أو «منقحين» اعتمدوا على المصدر والجذور التاريخية القديمة، وأضافوا تعليقات وتفسيرات وحتى مقاطع جديدة وكاملة من عندهم، وشبلوا، أي وضعوا كيفما اتفق، كتباً جديدة ذات سلطان أحدث. ولهذا السبب فإن المؤلفين والمحررين الذين جمعوا القصص التي نجدها سفر التكوين كانت منسجمة تماماً مع لوائح الشريعة التي نجدها في سفر الأحبار، ولذا فقد بدا وكأنهم يعتبرون الرهق كفعل محرم حين كانوا يعيدون قص قصة لوط وابنتيه (انظر الفهرست: من بالحقيقة كتب التوراة؟).
ومع إن الفعل الأول في الاتصال الجنسي بين «المحارم» المذكور في التوراة ـ هو فعل لوط وابنتيه ـ لم يستجر عقوبة من أي نوع كان، وحتى عندما انزلق رؤويين، وهو أكبر ابناه الأب يعقوب، إلى فراش سرية أبيه بلهة، لم يواجه أية تبعات من أي نوع حتى مرض أبيه الأخير، حين اكتشف، للمرة الأولى، أنه سينكر الميراث العائد له باعتباره الابن الأول «وحدث إذ كان إسرائيل ساكناً في تلك الأرض أن رؤويين ذهب فضاجع بلهة سرية أبيه» (سفر التكوين 3: 22) وقال يعقوب لبنيه: «رأويين أنت بكري.. فرت كالماء لا تفضل ولأنك علوت مضجع أبيك. حينئذ دنسته. على فراشي صعد» (سفر التكوين 49: 3 و4).
وبالفعل، فإن وصية توراتية واحدة على الأقل ـ بصدد التقليد الغريب الذي يسمى زواج الأخ من أرملة أخيه حسب الشريعة اليهودية ـ تتطلب عملياً اتصالاً جنسياً ما بين الرجل وأرملة أخيه الميت (سفر تثنية الاشتراع 25: 5 ـ 10). وسنواجه مثلاً ساخناً عن زواج الأخ من أرملة أخيه في أحداث قصة يهوذا وتامار (انظر الفصل السادس) وكقصة لوط وابنتيه ـ سنرى أن الكاتب التوراتي لم يقترح أقل استنكار ممكن لما هو، من الجهة الأخرى، خرق متجاوز الحد للشريعة ضد الاتصال الجنسي بين «المحارم» بين رجل وزوجة أخيه، وبين أب وبنته كما هو وارد في سفر الأحبار (سفر الأحبار 18: 15 و16). وهكذا كشفت التوراة عن نهج تجاه زنى المحارم (الرهق) بعيد جداً عن أن يكون عرضياً عما يتوقع أحدنا من أحكام الأحبار الصارمة. لذا، فإن الحاخاميين حين صرخوا أن قصة فعل رؤويين مع سرية أبيه غير ملائمة للقراءة بصوت عال في الكنيسة. فربما كانوا أقل اهتماماً بالتفاصيل المريعة المتعلقة المواجهة الجنسية في فراش روح يعقوب من واقع نوعي الرواية واعتدال العقوبة.
وبالفعل فإن بالإمكان أن نخمن إن كان فهرست (كاتالوج) الشركاء في الجنس المحرمين قد صيغ من قبل المؤمنين لسفر الأحبار يقول كم في مبتذلة ممارسة الاتصال الجنسي بالمحارم (الرهق) بين الإسرائيليين. وبعد كل هذا العناء، إذا لم يكن الاتصال بين المحارم ويعتبر حقيقة في الحياة في عالم التوراة، فلم يعر مانح الشريعة التوراتي بالحاجة إلى السير إلى هذا الحد من التفاصيل المضجرة؟
الأخت والزوجة
إن رغبة الوالد في تقديم ابنتيه إلى الغوغاء التي تجنح نحو استخدام العنف الجنسي هي اللحظة المفردة الأكثر إزعاجاً في قصة لوط، وهي بالفعل حدث مرعب في التوراة. إلا أنها ليست القصة الوحيدة التي يرغب فيها رجل صالح رغبة أكيدة بتعريض امرأة للخطر من أجل إنقاذ جلده. وعلى سبيل المثال، تقو قصة في سفر القضاة بتفصيل يدعو إلى التقيؤ، ما الذي سيحدث بالتأكيد لو أن لوطاً رمى ابنتيه إلى الشارع (انظر الفصل الثاني عشر). وتصورت التوراة ليس مرة واحدة، بل ثلاث مرات مشهداً يقدم فيه الأب (البطريارك) زوجته على أساس أنها أخته بغية حماية نفسه من عنف جسدي. وعلى سبيل المثال، عندما سافر ابراهيم وساراي إلى مصر لكي يهربا من المجاعة في كنعان، أصر ابراهيم على ارتداء قناع يوحي أنه أخ لساراي خوفاً من أن أي رجل ينظر إلى ساراي نظرة حب سيعمد، في أغلب الأحوال، إلى قتل زوجها أكثر من محاولته قتل أخيها لكي يأخذها إلى فراشه. وجرى بالفعل، ضم ساراي في سلك الخدمة في حريم فرعون، وأغدق الملك المصري الهدايا على ابراهيم، فقد صدق أنه شقيق ساراي. وقبل ابراهيم هبات فرعون دون تعقيب، ولم ينقذ ساره من النوم الفعلي مع فرعون غير تدخل الرب نفسه (سفر الكوني 12: 10 ـ 20).
ونجد القصة نفسها بالذات تروى في موضعين آخرين في سفر التكوين. فقد لجأ ابراهيم إلى الخدعة نفسها مع أب (بطريارك) آخر قوى البنية، هو أبيملك، ملك الفلسطينيين، وحدث النتائج ـ إذ تنتهي سارة إلى فراش أبيملك إلا أن الله يحذره من ذلك في اللحظة الأخيرة (سفر التكوين: 20: 2 ـ 100) وأبيملك، مثل سابقه فرعون صور وكأنه يرتجف فرقاً أمام فكرة أنه ربما نام سهواًَ مع زوجة رجل آخر. كلا الملكين وبخ ابراهيم لأنه وضعها في مثل هذا الموقف الخطر أخلاقياً.
وعندما أدين ابراهيم لقيامه بفعل الخداع من جانب أبيملك الغاضب، اعترف ابراهيم أن سارة زوجته ـ إلا أنه أصر على أنها أخته غير الشقيقة أيضاً، كأن هذه الواقعة، توضح وتمنح العذر عن خديعته وحل ابراهيم اللغز بالقول: «إنها.. ابنة أبي، إلا أنها ليست ابنة أمي» (سفر التكوين 20: 12) ونحن لا نستطيع التأكد تماماً إن كان زعم ابراهيم الذي فات أوانه بأن سارة أخته غير الشقيقة: هو أيضاً خدام آخر، إلا أن الحاخاميين والمثقفين صدقوا كلام ابراهيم وقرروا بالنسبة إلى هذه الواقعة الضعيفة أن الزواج بين الأخوة غير الأشقاء مسموح به في ظل شرائع إسرائيل القديمة، وناقشوا في أن زواج نصف الأقرباء الأدنين كان لا يزال مقبولاً ظاهرياً حتى أواخر عهد الملك داود عندما ارتأت تامار ابنة داود أن الزواج أمر يختلف عن الاغتصاب الذي تعرضت له على يدي أخيها غير الشقيق (انظر الفصل الخامس عشر). وتبنى إسحاق بن ابراهيم وسارة الذريعة نفسها حين جعل سفره إلى مملكة أبيملك برفقة رفقة زوجته. فلجأ إسحاق مثل أبيه، إلى الخداع فقال أن رفقة أختيه بسبب الجبن الواضح. فقد خاف أن يقول «زوجتي» حسبما قيل لنا «لئلا يقتلني أهل المكان بسبب رفقة لأنها جميلة المنظر» (سفر التكوين 26: 7).
إلا أن الحيلة فشلت عندما حدث أن أبيملك نظر من نافذة قصره ورأى اسحاق «يلاعب رفقة» (30) ـ وأيقن الملك الطيب أن رفقة لم تكن أخت اسحاق أبداً، وأدرك أبيملك أنه خضع للغش (ثانية!) ووبخ إسحاق لأنه استهتر بقيمه الأخلاقية، مثلما وبخ ذات مرة أبا إسحاق لقيامه بلعب نفس اللعبة القذرة (سفر التكوين 26: 1 ـ 10).
وانخرط المثقفون التوراتيون والوعاظ في جدل غامض لشرح السلوك المحير والجبان لابراهيم واسحاق، الذي وجده القراء دائماً «مذهلاً ومزعجاً»(431) وحتى استفزازياً(32) وظنوا أن أبا ابراهيم ربما تبنى سارة في فترة طفولة ابراهيم ولم يكشف عنها، وبذلك لم تكن سارة قريبة قرابة بالدم لابراهيم(33) إطلاقاً ويستند أجرأ توضيح، والتوضيح الذي وضع الآباء (البطاركة) تحت أفضل ضوء، إلى التقليد المنسي منذ زمن بعيد عن شعب عرف باسم الحوريين الذين أبدو اهتماماً بالغاً بعلاقة الأخ ـ الأخت بحيث أن بإمكان رجل أن يتخذ زوجته كأخت في نفس الوقت الذي يتزوجها به.
ولقد تبنى ابراهيم واسحاق تقليد الحوريين بتعريف زوجتيهما على أنهما أختيهما، حسب افتراض أحد المثقفين التوراتيين الموثوقين من أجل استحضار «كل.. المزايا والامتيازات» التي كانت في متناول اليد لأخت الرجل (ولكن ليس لزوجته)(43) وفي الزمن الذي جمع فيه الكتاب التوراتيون والناشرون أسطورة وتاريخ إسرائيل القديمة في ما نعرفه اليوم باسم التوراة، قيل، أنهم لم يعرفوا أو يدركوا التقليد الحوري عن الزوجة كأخت، ويبين أفرايم سبيسر أن «التقليد أطلق بصورة صريحة الكثير من مخزون هذه الأحداث، إلا أن مفتاحها قد ضاع في مكان ما على مسافات متداخلة في الزمان والمكان» (35) وبدلاً من نبذ الروايات المربكة الثلاث، حاولوا أن يفسروا ما كان يفعله كل من ابراهيم واسحاق بلغة يمكن أن يدركها قراؤهم.
إن التفسير الوحيد المفهوم عند محرري التوراة ـ أو، بسبب تلك المسألة، يصبح مفهوماً لنا ـ هو التفسير الذي يعرض علينا الآباء الآخرين كأرواح خجولة ترغب بصورة تامة أن تودع زوجاتهم (زوجات الآباء) في فراش رجال أقوياء مقابل سلامتهم الجسدية، وربما، مقابل مكافأة الملك.
الجنس والسياسات
إن اختيار شركاء الفراش حسب ما صورت في الكتاب المقدس هو أحياناً مسألة سياسية ودبلوماسية أكثر تقريباً من حب أو شبق. ويقال، على سبيل المثال، أن سليمان جمع سبعمائة زوجة (سفر الملوك الأول: 11: 3) ومن المحتمل أن الكثيرات من هذه الزيجات كان يقصد منها عقد التحالفات بين الملك الإسرائيلي، هو في ذروة سلطانه، وبين أمراء وحكام الأمم المحيطة والأباطرة. وحتى عندما تتكلم التوراة عن لقاء جنسي بين الأقارب الأدنين (رهقي) بصورة صريحة، تحتل مركز القلب أحياناً الطموحات السياسية أكثر من المغامرة الجنسية، مثلما حدث عندما انغمس ابشالوم بين الملك داود في الطقوس العربية العامة مع محظيات أبيه فوق سطح القصر.
وكانت محظيات داوود تصنف تحت ما يمكن تسميته حصراً بالحريم. فقد جمع ملوك إسرائيل مثل باقي الملوك في الشرق الأدنى القديم، زوجات ومحظيات بإسراف كبير، وكان الحريم رمزاً لأبهة وثراء قصر الملك. وزود المزواج سليمان (الحكيم) على سبيل المثال، بثلاث مائة محظية إضافية. وقيل لنا صراحة أن أحازيا، وهو سليل داود وسليمان، قلد الملوك الوثنيين بفرض الختان (أو جعلهم خصيان) لضمان نزاهة زوجاته (سفر الملوك الثاني 9: 32) وحتى إذا كانت الأعضاء الخاصة لرجل ما قد (هشمت أو استؤصلت) ينظر إليه برعب من جانب كاتب توراتي لما يعرف باسم سفر تثنية الاشتراع (سفر تثنية الاشتراع 32: 2).
وكان حارس الحريم أساسياً لأن نزاهة زوجة الملك أو محظيته تمثل رمزاً آخر يدل على سلطان الملك وقدراته. وهكذا، عندما شق المتمرد ابشالوم طريقه إلى الحرب ضد أبيه الملك داود، وطرد الملك من أورشاليم، اختار إشارة لافتة للنظر (جدير بالذكر أنها فرويدية) ترمز إلى توليه عرش أبيه: فقد أسر أبشالوم محظيات أبيه اللواتي خلفهن الملك الفار وراءه ونصب خيمة على سطح القصر الملكي، حيث كان بالإمكان رؤيتها من كل أنحاء أورشاليم، وواصل كل محظية من المحظيات العشرة «على مرأى كل إسرائيل» (سفر الملوك (صاموئيل) الثاني 16: 22) والرسالة السياسية لم تخطئ: «فمضاجعة محظية الملك ـ حسبما كتب مثقف توراتي ـ كانت بحكم اغتصاب العرش»(36).
وعلى عكس رؤويين الذي قد يكون أيضاً قد تحدى سلطة أبيه وذلك بنومه مع سرية يعقوب، فإن ابشالوم دفع حياته ثمن تحديه الجنسي ـ ثم بعدئذ، سيتعرض للموت لقاء تمرده على الملك الحاكم، إن كان توجه انقلابه في القصر أو لم يتوجه بطقوس عربيدية عامة. وواضح أن داود نظر إلى النساء وكأنهن أفسدن باتصالهن الجنسي مع ابنه، فنبذهن بعد استعادته العرش مع حريمه «فأقامهن في بيت حجز وكان يعولهم ولم يدخل عليهم فكن محجوزات في أيمة دائمة إلى يوم وفاتهن» (سفر الملوك الثاني 3: 20).
ومن الطبيعي ألا يتمكن داود من إبداء دهشة كبيرة أمام فعل ابشالوم الجنسي الجريء جداً. ذلك أن داوود نفسه، بعد كل ما جرى نام مع زوجات سلفه شاؤول، كرمز للملكية (سفر الملوك (صاموئيل) الثاني 12: 8) وبذلك ضرب مثلاً لأبنائه المغتلمين (الشهوانيين) والمتمردين. وعندما توج سليمان كملك لإسرائيل بعد موت داود، سأل أحد أبنائه أدوناه، بأدب جم السماح له بالنوم مع محظية أبيه المفضلة، الممتعة، ولكن غير الملموسة أبيشاج (الشونمية)، واعتبر سليمان ذلك بمثابة إشارة للمطالبة بالعرش ـ فأرسل فاتكاً لكي يغتال أخاه الوقح (سفر الملوك الأول 25: 12).
إن الارتباط بعلاقات جنسية مع محظية والد امرئ ـ وهو فعل يمكن لنا أن نشبهه بالنوم مع زوجة أب المرء ـ كان يعتبر انتهاكاً للتابو (المحرم) الجنسي ارتفع إلى درجة الأمر الإلهي في التوراة، إلا أن جريمة هؤلاء الرجال الجريئين والطامحين ـ داوود، وابشالوم، وأدوناه، وغيرهم الذين سجلت مغامراتهم في الكتاب المقدس ـ إنما كانت خيانته أكثر منها اتصالاً جنسياً بالأقرباء الأدنين (رهق).
ماذا رأت سارة؟
إن اختفاء كلمات أربع من الترجمة القديمة للنص التوراتي رفعت درجة الاستغراب والاهتمام بالمشهد المزعج بحيث أن التوراة نفسها سجلت حادثة تحرش الطفل القريب قرابة كبيرة، وهي إشارة صادمة إلى حد أنها ربما كانت مكتوبة حرفياً خارج التوراة من قبل مراقبين حاخاميين. فهل تحرش اسماعيل، وهو الابن البكر للأب ابراهيم بأخيه غير الشقيق اسحاق وكان في الخامسة من عمره؟
كان ابراهيم وسارة لا ينجبان أولاداً حسب ما قرأنا في سفر التكوين، وبسبب ذلك بعثت سارة بزوجها إلى فراش خادمتها، وهي امرأة مصرية اسمها هاجر، لكي يجد رحماً خصباً، وغيرت سارة الغيورة فجأة رأيها عندما كانت هاجر في فترة الحمل، فنفت الخادمة إلى البرية. وأنقذ ملاك الرب هاجر من الموت عطشاً وجوعاً في الصحراء وأعادها إلى مخيم ابراهيم، حيث ولدت فيه صبياً سمي اسماعيل (سفر التكوين 16: 1604).
وفيما بعد، قدم الرب، وكان اسماعيل يكبر، وعداً مميزاً لابراهيم وكان في التاسع والتسعين من عمره وكانت زوجته في التسعين من عمرها: بأن سارة ستحمل ولداً يحل محل اسماعيل كوريث لبركة ابراهيم الإلهية «فقال الله بل سارة امرأتك ستلد لك ابناً وتسميه اسحقا وأقيم عهدي معه عهداً مؤيداً لنسله من بعده» (سفر التكوين 17: 19) ومميزة أخبار ضحك سارة بصوت عال ـ ضحكت تقريباً حرفياً في وجه الرب ـ وسمي ابنها اسحاق، وهذه الكلمة تمثل لعبة بالكلمات العربية وتعني «أنا أضحك» (سفر التكوين 18: 12، 12 و21: 4).
وتعرض التوراة علينا مشهداً مبهماً بصورة عميقة حين نجد اسماعيل وهو في الخامسة عشر من عمره يلعب مع أخيه غير الشقيق وهو في الخامسة من عمره في وليمة احتفال بكون اسحاق فطم (أخيراً!) عن صدر أمه، إلا أن الاحتفال تخرب لأنه حدث أن سارة رأت اسماعيل يفعل شيئاً ما لاسحاق، شيء مزعج جداً إلى الحد الذي جعل سارة تطلب بحزم «أن يلقي» باسماعيل وبأمه في الحال إلى البرية للمرة الثانية والأخيرة.
فما الذي رأته سارة بالضبط؟ وما الذي فعله اسماعيل بالضبط؟ مما استدعى مثل هذا الغضب والاهتياج من جانب سارة؟ واقتصر ما قيل لنا في الترجمات الانجليزية المعتمدة للتوراة أن سارة رأت اسماعيل «يهزأ» أو «يخدع» اسحاق الصغير ـ وطلب منا أن نصدق أن سارة طردت الأم والابن إلى الصحراء لكي يموتا بسبب فعل هزاء واحد قام به أخ مراهق حياً أخيه. ولن تقوم سارة بما قامت به ما لم تكن قد رأت شيئاً أسوأ بكثير من مجرد السخرية.
والمفتاح لثورة سارة الغامضة يمكن إيجاده في الكلمة العبرية التي تستخدم عادة في التوراة في وصف ما فعله اسماعيل لاسحاق: وهي كلمة (تساهاك) التي ترجمت بـ«سخر» من قبل المترجمين في العهد الشكسبيري الذي أعطانا ترجمة الملك جيمس. وتستخدم ترجمة يهودية أحدث، مستندة إلى ترجمة الملك جيمس، عبارة يقوم بممازحة ـ Making sport». وهكذا فقد منحنا إمكانية الإدراك من قبل هؤلاء المترجمين بأن هاجر واسماعيل قد حكم عليهما بالموت في البرية لأن المراهق سخر من أخيه الصغير، إلا أن المعنى الحقيقي لـ(تساهاك) يفترض أن شيئاً آخر قد أخفي في هذه الترجمات. وأحد المعاني لـ«تساهاك» هو «ضحك» ـ لعبة باسم اسحاق ـ هذا هو أحد المعاني التي اعتمدها المترجمون القدماء والجدد لاقتراحهم أن اسماعيل «سخر» أو «ضحك على» اسحاق. والذي يمانع المترجمون في جعل ما نعرفه هو معنى آخر لـ«تساهاك» يتمثل بـ«يلاطف» أو «يغازل» وقد يقترح النص العبري الأصلي للتوراة أن سارة رأت عملياً نوعاً من أنواع اللعب الجنسي ما بين اسماعيل وأخيه الصغير.
والحقيقة، أن نفس الكلمة العبرية المستخدمة في وصف ما كان يفعله اسماعيل لاسحاق تظهر بعد بضعة أسطر في سفر التكوين في وصف ملاطفة أو تدليل رفقة خارج نافذة أبيملك ملك الفلسطينيين. وما رآه أبيملك من خلال نافذته كان كافياً للدلالة على أن رفقه كانت زوجة اسحاق أكثر منها أخته ـ ولم يتلكأ مترجمو ترجمة الملك جيمس في السماح لنا بإدراك المعاني الإضافية الجنسية في المشهد: انتبه «اسحاق يداعب رفقة امرأته» (سفر التكوين 26: 8).
ويتعمق غموض ما رأته سارة لدى ملاحظتنا أن عبارة كاملة سقطت من الفقرة في بعض ترجمات التوراة نفسها. وتتضمن الترجمة المعتمدة من التوراة في النص العبري الكامل ـ وهذا هو اسم النص الماسوريتي ـ وصفاً مشذباً عما كان يفعله اسماعيل عندما رأته سارة. «لاحظت سارة أن (اسماعيل) كان يلعب». إلا أن الترجمة اليونانية القديمة للتوراة وتسمى الترجمة السبعونية والترجمة اللاتينية المعتمدة، التي ربما ترجمت عن المخطوطات العبرية، لا يستبعد أن تكون أقدم من النص الماسوريتي. إن هذه الترجمات تعطي نفس المعنى: «لاحظت سارة أن (اسماعيل) كان يلعب مع ابنها اسحاق».
ماذا نفعل إزاء الكلمات الناقصة في النص الماسوريتي للتوراة؟ لقد كان بعض نقاد التوراة جريئين بشكل مناسب بحيث أنهم افترضوا أن المراد من النص التوراتي أن يكشف أن اسماعيل كان في حالة اندماج في نوع من أنواع اللعب الجنسي مع اسحاق الصغير، إلا أن محرري النص الماسوريتي الأتقياء سعوا إلى حذف الجنس المزعج من المشهد بإسقاط العبارة المفتاحية «مع ابنها اسحاق». وتقترح الترجمة السبعونية إلى اليونانية والترجمة إلى اللاتينية حفظ النص الأصلي كاملاً وغير مشذب ـ وحفظت الترجمتان المذكورتان أيضاً إشارة خفية إلى ما رأته سارة.
والحقيقة، إن رد فعل سارة القاسي جداً مذهل وأيضاً منذر إذا كان اسماعيل فقط «يلعب» مع اسحاق، أو حتى إذا كان اسماعيل عملياً «يسخر» منه. وفهم ابراهيم نفسه أن قرار سارة بطرد هاجر واسماعيل إلى الصحراء هو بمثابة حكم بإعدامهما، وقيل لنا أن «الأمر كان مؤلماً جداً في نظر ابراهيم إزاء ابنه» وواجهت ابراهيم مشكلة تزويدهما بالخبز والماء. وليس قبل أن يكرر الله تأكيده لابراهيم بأن هاجر واسماعيل سيعيشان ـ «وابن الأمة اجعله أيضاً أمة فإنه نسلك» ـ أرسلهما الأب الطيب إلى البرية (سفر التكوين 21: 11 ـ 31).
ولازال الافتراض بأن التوراة تخبئ حادث تحرش جنسي بين الأقرباء الأدنين (رهقي) ساخناً جداً عند معظم المثقفين التوراتيين. ويفسر الحاخاميون كل القصة بافتراض أن اسماعيل أحب أن يلعب بالقوس والنشاب، وكان معتاداً على تسديد سهامه باتجاه اسحاق، ويقول في الوقت نفسه، بأنه كان «يمازح» (37) وعندما يرغب حتى بعض المعلقين أن يسلموا بأن «السخرية» ليست ترجمة ملائمة للكلمة العبرية، فإنهم لا يزالون يصرون على أن المواجهة بين اسماعيل واسحاق كانت بريئة تماماً.
إن «لعبه» مع اسحاق يحتاج ليس أقل من أن الولد الأكبر كان يحاول أن يسلي أخاه الأصغر، حسبما كتب أفرايم سبيز، وهو واحد من أكبر المثقفين التوراتيين المعاصرين. وأضاف أنه لا يوجد «شيء في النص يشير إلى إلحاق أي أذى به، وهو أمر أقلق قراء كثيرون ارتبكوا، وهم يبذلون جهوداً في تفسير أسباب غضب سارة»(38).
إلا أن بالإمكان أن نصل إلى استنتاج مخالف، إذا ابتعدنا عن التقديرات العادية لمسألة اللباقة الإنسانية عند الأم سارة. وفوق كل ذلك، هلكت هاجر وهلك اسماعيل إلى حد ما في البرية التي حكمت سارة عليهما بها. ولم ينقذ حياتهما إلا الظهور الجديد للملاك الحارس (سفر التكوين 21: 16) وما لم نفترض أن سارة غيورة جداً على بكورة ابنها إلى الحد الذي يجعلها، حرفياً، تقتل من أجله ـ أو أنها مصابة بجنون الارتياب، حسب ما اقترح أحد المثقفين التوراتيين (39) ـ عندئذ يمكن أن نبحث عن تفسير معقول أكثر للعقاب الغاضب بعيداً عن سخرية أخ أكبر من أخيه الأصغر (40) وتقدم أربع كلمات مفقودة اختفت بشكل ما من النص الماسوريتي للتوراة تفسيراً مقنعاً لما رأته سارة: كان اسماعيل آخذاً حريته المطلقة مع أخيه الصغير إلى الحد الذي جعل خالته زوجة أبيه تجد ذلك فظيعاً جداً بشكل لا يحتمل.
«من هو الشخص الثالث الذي يقف إلى جانبك دائماً؟».
شكل علم الملائكة Angeleolo دائماً عملاً كبيراً في صفوف رجال الدين الذين أدينوا، بصورة عامة، لقضائهم وقتاً وهو يحصون عدد الملائكة التي تستطيع أن ترقص فوق رأس الدبوس، ولكن الحضور المبكر للملائكة في التوراة العبرية يمكن أن يرى كشكل قديم للمراقبة التوراتية من قبل النساخ من الكهنة الذين لم يريدوا أن يشجعوا قراءهم على أن يصدقوا أن الله معتاد على أن يدعو إلى الأخ
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |