شرفة لا يطالُها الضوء
2008-08-08
من المجموعة القصصية "فيروس سردي"
يتكوّرُ المساءُُ عند شرفتِها معلنًا اقتراب تلك اللحظات المرتقبة، التي استوطنتْ أحلامَها وكيانها لليالٍ طويلةٍ. ها هي تمارسُ طقوسها الحميمةَ. كلُّ يومٍ تراه فيه بمثابةِ عرسٍ لها. ترتدي أبهى ما احتوته خزانتها. تغسلُ بالعطر الذي يعشقُ، ودون هذا كله يكفيه أن يرى ذلك الوهج الملتمع في عينيها، لكي يَعِي البهجة التي تستوطنُ روحها كلّما طرق بخطواته جدران انتظارها.
الوهج يُغطّي كلَّ شيءٍ، بيتُها الصغير، حديقتُها العابقة بزهور الكاردينيا، البيوت المجاورة، الشوارع، الفنادق الأنيقة، يغطي بغداد كلَّها. ها هو معجزتُها الأخيرة في زمن اللامعجزات. انتهت من لذّة انتظارها له. يبتلعها الثقب في جدار فضائه المفعم بالغبطة والدفء.
قبل أن يبتلعها الثقب، كانت هناك الكثير من الكلمات تعوم في بحيرة ذاكرتها. أقسمت؛ وكما في كل مرةٍ؛ أن تقولَها له، لكنْ الآن! عبثًا تشحن ذاكرتها المتلاشية مع دخان لفافته الهارب من نافذة السيارة. ينظر إليها بتلك العينين الصغيرتين وصوته المتعب يسألها:
- كيف حالك؟
لا تدري ما الذي يجب أنْ تقولَه.. كيف حالها؟! لما يسألها؟ ألم ير ذلك الوهج يشعُّ من كل مسامات جسدها الفضي؟!
ألم يشعر بحرارة كفها الصغير، وهي تقبضُ على كفه الكبيرة، كأنَّها تقبضُ على حلمِ حياتها؟
ترتبكُ، لفرط السعادة أو الحب. تحاول القبض على الحروف الهاربة ( لا شيء. إني مشتاقةٌ إليكَ ).
تصمت فجأةً، ثُمَّ تعود تردد بصوت خافت ( مشتاقةٌ جدًا ).
يُخيّل إليها أنَّ العالم يغتسلُ بمطرٍ أزرق، يغسلُ كلَّ شيءٍ، عيوب العالم، القلوب الحاقدة، الآثام. ويداعب سيارته الحمراء ذاتها التي كانت تسير بهما على ذلك الجسر الملتوي، وكأنّه يشدُّها إلى صدره بقوةٍ غير آبهٍ للمقود الذي يتحرك كيفما يشاء، وكما في الأحلام. ظلت السيارة تدور، وتدور، وظل هو يشدُّها إلى الحنايا السمر، من دون الاكتراث بصراخها وخوفها من الاصطدام.
لا تدري إن كان وجهُها يتصبب عرقًا، أم أنَّها قطرات المطر التموزي المعجزة، قد تسللت إليها عبر النافذة. يفاجئها صوتُه الجافُ المنهكُ وهو يقولُ لها:
( لقد أتعبتني عطلات السيارة الكثيرة. أكاد أشرف على الإفلاس ).
- اغفر لها، فهي سيارتي الأثيرة على أية حال. إنَّ لنا فيها ذكرياتٍ موسومةً بالقلب والذاكرة.
تنبعث ضحكتُه من أرجاء السيارة، حتى تكاد تتخيل أنَّ له أكثرَ من حنجرةٍ. لا تفهمُ سر ضحكه المفاجئ. تصمت. تنطوي على نفسها، بينما يستمرُ هو في الضحك تارة، وفي النظر إليها تارةً أخرى. تهمس مع نفسها بما يُشبه الإقناع ( لا بأس إن أضحكته، فإضحاكه في يومٍ من الأيام كان غايتي ). تقبضُ على يده بشدة وتهمس:
-افتقدتك في الأيام الماضية. خلتك للحظاتٍ لن تعود، وإنني فقدتك للأبد، وقد تفاقم هذا الإحساس بعد الكابوس الذي بدأ يراودني أثناء غيابك.
تصمتُ قليلاً، ثُمَّ تعود تسترسل في الحديث كعرافةٍ تكشفُ عن مصيرٍ مفزعٍ:
- كنتَ بعيدًا عني. لحقتُ بكَ. ناديتُكَ. صرخت باسمكَ. استدار وجهُك إليّ وبدا لي أنَّكَ لا تسمعُ ندائي، ولا تعي حتى لغتي. كدت أُجنُّ بسبب هذا الكابوس، حتى أنني أوشكت على تصديق نبوءته. عندما طال غيابُك. تصوّرْ! إنني حلمتُ به البارحة أيضا!
يجيبُها بابتسامةٍ خاطفةٍ مغلفةٍ بالرضى وهو يقول لها:
- لقد ذكرتني بمأساة البارحة!
- ماذا حدث ؟
- لقد ساءت صحة أمي كثيرًا بسبب مشاكل أخي الذي يبعثرُ أمواله على الخمر، وأخي الآخر الذي عجز الأطباء عن إيجاد علاج لابنه المريض، أما أختي!... ينظر إليها. يجد عينيها شاردتين، كأنها تستمعُ لحديثٍ آخرَ.
- لماذا تصمتين؟!
- لا شيءَ، وماذا عن أخيك الآخر؟
- لقد تشاجرتُ البارحة معه. المشكلة إنّي أحبُّه ولا أقوى على رؤيته وهو يبعثرُ أمواله هكذا.
- يا إلهي!
- ماذا؟!
- انظرْ إلى بغداد!
- إنَّه انقطاع التيار الكهربائي. لا تشْغَلي بالك.
( كنتِ في أعماقي شعلة أضواءٍ ملونةٍ كأضواء العيد والفرح والطفولة. كان الوهجُ لا التيارُ يضيئُك. سأذكّره بذلك اللقاء الحار على متن هذا الجسر، قليل من الذكريات ينعش ذاكرة الحب )
- هل تذكر هذا الجسر؟
- هذا الجسر؟ وكيف أنساه؟!. الحمد لله هذه هي الصيدلية لا أريد أنْ أنسى الدواء لأمي.
الشارع يَغْرَق في العتمة. المصابيح الذابلة تصطف على الأرصفة كالأشباح البليدة. الحرُّ رهيبٌ. تختنق، وتشعر أنَّ هناك غمائم دخان تسبحُ في الجوِّ. تحاول خنقها. تفتح ياقة ثوبها الزهري مطيحة بأناقته.
يخيل إليها أنَّها هدأتْ قليلاً. تَعْبَث يدُها بأزرار المذياع القريب منها. يشدو صوتٌ عذبٌ يتغنى بـ( من غير ليه ) تبتسمُ مع نفسها وهي تردد كمَنْ وجد حبلاً للنجاةِ ( أشعر أنِّ الحظ يقف بجانبي للمرة الأولى ).
- إنَّها الأغنية التي تمنيت أنْ أُسمعَك إياها.
يُشعل لفافةَ تبغ بلا مبالاة. ينفث الدخان، بينما تبحث عيناه عن محطة الوقود. تظلُّ هي تعبثُ بأزرار المذياع، وهي تدندن الأغنية الأثيرة. يعلو صوتُ الأغنية. ترفع رأسها، لترى وقع كلماتها عليه، وهي هائمة في رسالة الحب المغناة. لا شيءَ سوى عينين شاردتين في بحثٍ مستميتٍ عن محطةِ الوقودِ، وفَمٌ يدندن الأغنية بحيادٍ. لا تدري لماذا تذكرت فجأة ذلك الرجل الإنكليزي، الذي كان يقبّل حبيبته وهو يقرأ الجريدة.
- إنَّها الأغنية التي حدثتك عنها.
يُدير رأسه نحوها. ينظر إليها. يصرخ.
- ( إنَّه بلدٌ نفْطِي، وينبغي أنْ تملأ محطات الوقود كلَّ مكانٍ )
تشعر أنَّ رائحة الوقود تنبعث من فمه. يصرخ مرة أخرى :
- ( اطفئي المذياع. لا أستطيعُ التركيز في البحث عن المحطة اللعينة )
كان الليل طويلاً جدًا، غارقًا في العتمة. لم تجد أمامها مفرًا من الانطواء على كيانِها الصغير. إنّه كيانُها الزاخرُ بمشاعر الخيبة والفقدان. كان صوت عبد الوهاب للمرة الأولى يبدو حزينًا جدًا، ووحيدًا جدًا، وهو يردد بألمٍ حقيقي:
( خايف طيور الحب تهجر عشها، وترحل بعيد.
خايف على بحر الدفا، في ليلة شتا يصبح جليد. )
جليدٌ وصوت منقوع في السخرية واللامبالاة، هما كل ما تملك في ليلتها الموحشة هذه.
- ( انظري يا حبيبتي، لقد عاد التيار الكهربائي، هاهي الأضواء الملونة تشتعل من جديد ).
لكنَّها في الأعماق ازدادتْ غرقًا في الظلمة. كمْ تشتهي لو أنَّها تتذكّر البكاء. تمتنع عن كَبْحِ دموعها للحظات، ففي غمرة هذا الظلام لن يتمكن أحدٌ من رؤية دمعها.
أُطفأتْ الأنوار، وانحبس صوت عبد الوهاب أمام محطة الوقود الشاخصة نحوهما، الساخرة منهما بضحكة.
المجموعة القصصية الفائزة بجائزة ناجي نعمان 2007م )
عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة؛ صدر للأديبة العراقية "رشا فاضل" مجموعتها القصصية "فيروس سردي". تقع المجموعة في 118 صفحة من القطع المتوسط، وتضم 12 نصًا قصصيًا. تصميم ولوحة الغلاف للفنان المصري أمين الصيرفي.
على الغلاف الخلفي للمجموعة، جاءت كلمة الناقد د. محمد صابر عبيد:
( تمتاز قصصُ "فيروس سردي" للقاصة رشـا فاضـل برشاقةِ السرد وأناقتِه، إذ يحْفُلُ بانطلاقاتٍ تمتدُّ أحيانًا أكثر مما يستوعب الخطابُ القصصي بوصفِه الأجناسي الضيق، الذي يُحيلُ على فنِّ القصةِ القصيرةِ بمواصفاتِه النوعيةِ المعروفةِ، ليقتربَ من حدودِ الخطابِ الروائي.
إنَّ بهاءَ الجملةِ السرديةِ فيها، يليق كثيرًا بالسردِ الروائي، وإذا ما قُدّر لأحدِ هذه الأحلام أنْ يتحولَ في المستقبلِ إلى رواية؛ كما أتمنى؛ فأحسب أننا سنكسبُ روائيةً ننتظرُ منها الكثير.
وعلى الرغمِ مما تبدو عليه فضاءاتُ ( فيروس سردي ) من محدوديةٍ وتماثلٍ وتجاورٍ، إلا أنَّها تكشفُ عن قدراتٍ كامنةٍ إذا ما أُدرِكتْ ووظفتْ بنحوٍ جيدٍ وجديدٍ، فإنَّها ستكسرُ هذه المحدوديةَ وتفضي إلى أمكنةِ سردٍ وأزمنة سردٍ، وشخوصٍ محركةٍ فاعلةٍ بوسعِها أنْ تفعلَ الكثيرَ على صعيدِ تطويرِ هذه التجربةِ النسائيةِ الواعدةِ ).
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |