هاتف الوداع لطلال سلمان: سأهزم الموت بالموت!
2008-08-11
قال محمود درويش: لم اشأ ان اغادر من دون ان أودعك... لقد حسمت أمري وقررت ان أواجه الموت، مرة اخرى...
نضح القلق في صوتي وأنا احاول فتح باب النقاش مجدداً: ولكن الأطباء في بيروت قد نصحوك
ـ أعرف، وكذلك الأطباء في فرنسا... لكنها معركتي!
قلت: هذه معركة غير متكافئة.
ـ أعرف، وأعرف أيضا أنه لا بد منها. لم أعد أطيق مواصلة هذا التحدي. لقد سئمت ان أعيش في قلب موتي. أتعرف، من الممتع أن تنازل الموت، ولكنك في لحظة ما ستكتشف ان لعبتك مفضوحة. ان تعرف انه يعرف انك تعرف النتيجة، وأنك تعابثه.
ـ ولكنك يا محمود لست فرداً لتقرر وحيداً ما يشترك معك الناس فيه...
قاطعني: اعرف ما سوف تقوله، لست ملك نفسك، وليس لك ان تقرر. تصور: أنا ملكية عامة! في كل تصرفاتي عليّ الا اكون أنا.
انتبه! يجب الا تقبل وردة من تلك الحسناء. انتبه! أنت تمثل القضية فلا يجوز ان تضحك بصوت عال! ويجب ان يكون كلامك مدروساً. لقد بلغ الامر ببعض الناس ان استنكروا ذهابي الى مدينتي، بحجة انها صارت تحت الحكم الاسرائيلي! ونسوا انني حتى حينما اكون في رام الله فأنا تحت الحكم الاسرائيلي! لن اتحدث عن الدول الاخرى... ثم انني عشت نصف عمري تحت هذا الاحتلال، وأنا اكثر من يعرفه بينكم جميعا، حتى لا اقول انني احد القلائل الذين يعرفونه حقا.
ـ بل أردت أن أحدثك عنك بوصفك ملكية خاصة لمحمود درويش... لقد حذرك الأطباء من ان اي جراحة قد تحرك الوحش الكامن في شرايينك!
قاطعني ضاحكا: حتى الكولسترول عند محمود درويش مختلف
ـ انه مثلك، جبار! ألست جباراً علينا جميعا
ـ ولكنه جبار عليّ فقط! انه يفرض عليّ التحدي بين ان اعيش أسيره ما تبقى من عمري وبين ان أهزمه ولو بالموت.
ـ كأنك تتحدث عن الانتصارات العربية التي يقدم فيها هدايا مجانية الى اسرائيل.
وختم محمود درويش مكالمته الوداعية بأن قال انه لن يبتعد عن مكانه لانه منذ زمن طويل بات يعيش خارج المكان والزمان لان شعره صاره...
(ذكريات شخصية من زمن محمود درويش)
طلال سلمان
ودّع أصدقاءه ولم يعتذر
شاعر الأوذيسّة الفلسطينية
هذه المرة لن يكتب محمود درويش جدارية أخرى. لن يخدع الموت الذي طالما خرج منه ناجياً من عاشق مثله في الوقت الضائع وما بعد الحياة، يدرك ان الموت خصه كما خصته الحياة. لم يخطفه. ضرب له موعداً عرفه وسار إليه بقدميه. لم تكن تجربة درويش مع الموت سوى صورة موازية للصراع. إذا كان شعر درويش هو شعر الخيار الوحيد فإن الموت على سن هذا الخيار. لطـالما غنى درويش شهداء القضايا الخاسرة، والأرجح انه كــان يعــرف ان في سيره إلى موته ذروة في هذا الغناء، انها القصــيدة غير المكتوبة التي أتمها بجسده. ســيكون جســده عندها موازياً للمكان، سيــكون موته لحظة في هــذا الوعــي الشقي.. حيــن حانت الساعة، ســار درويش إلى موعـده أنيـقاً ومستـويا. ودع أصــدقاءه ولم يعـتذر.
لم يكن غناء درويش في ما بعد بطولياً انتصارياً جريئاً. لقد تحرر من القصيدة الوطنية داخـل القصــيدة الوطنية، وصارع الجمهور داخل الجمــهور. انــها سلطــة على الجمهور طمح معها درويش إلى إعــادة تربيــته وتأهــيله: لكنها موهبة كبيرة جعـلت درويش في آن واحـد شاعراً شعبياً وطليعياً، نجماً ونخبوياً. درويش كـان يتــحرر ويحرر في آن معـاً. لقـد تخلص في العـلن من رواسب، وكان يمكن لتجربة علنية كـهذه ان تمتد وأن تغدو مثلاً. ليســت المسألة في الشـكل فـقط، انها مسألة رؤيا. فالــشاعر الفلسطيني وجـد نفـسه مغنـي الأوذيســة الفلســطينية وشــهداء القضية الخاسرة. لقــد تحــول إلى شــاعر مرات، وغــدا شــعره مع الوقـت مرثية كبرى.
امتلك محمود درويش غير الشعر ذكاء نادراً وعقلاً تحليلياً وفكاهة. لم يهتم لكتابة الشعر فحسب، بل بصورة الشاعر أيضاً. لم يطور شعره فحسب، لكنه بنى استقلاله ووعيه النقدي. ومع الوقت كان يزداد نضجاً وإصغاء. لقد انقصف في ربيعه. دعك من العمر. انقصف في ربيعه وهو الآن أفتى منه في بعض شبابه.
عباس بيضون
إلى أين تأخذني يا أبي
كتب محمود درويش:
... آية الكرسي، والمفتاح لي. والباب والحراس والأجراس لي.
... لي ما كان لي. وقصاصة الورق التي انتزعت من الإنجيل لي، والملح من أثر الدموع على جدار البيت لي..
واسمي، إن أخطأت لفظ اسمي، بخمسة أحرف أفقية التكوين لي:
ميم / المتيم والميتم والمُتَمم ما مضى
حاء / الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان
ميم / المغامر والمعد المستعد لموته
الموعود منفيا، مريض المشتهى
واو / الوداع، الوردة الوسطى
ولاء الولادة أينما وجدت، ووعد الوالدين
دال / الدليل، الدرب، دمعة، دارة درست، ودوري يدللني ويدميني
وهذا الإسم لي... ولأصدقائي، أينما كانوا،
ولي جسدي المؤقت حاضراً أم غائباً...
متران من هذا التراب سيكفيان الآن... لي متر و٧٥ سنتيمتراً... والباقي لزهر فوضوي اللون، يشربني على مهل.
ولي ما كان لي: أمسي، وما سيكون لي، غدي البعيد، وعودة الروح الشريد كأن شيئا لم يكن...
... أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل ـ فلست لي. أنا لست لي أنا لست لي... (جدارية ١٩٩٩)
[[[
سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أُوتها إلا في المطالع
وكما أوصيتني، أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع...
ولنذهبن معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية وعدتك بها اللغة، في قارئ، قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض.
وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد...
فلأذهب إلى موعدي، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه أحد من غير أسلافي، بشاهدة من رخام لا يعنيني إن سقط عنها حرف من حروف أسمي، كما سقط حرف الياء من اسم جدي سهواً. (جدارية)
... يقول على حافة الموت: لم يبق بي موطئ للخسارة، حر أنا قرب حريتي وغدي في يدي... سوف أدخل، عما قليل، حياتي، وأولد حراً بلا أبوين، وأختار لإسمي حروفاً من اللازورد. (حالة حصار)
جريدة السفير
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |