تسعى هذه الدراسة إلى ملامسة مواطن الجدة في المجموعة الشعرية الأولى للشاعر المغربي المقيم في بروكسل طه عدنان، وهي المجموعة التي جاءت تحت عنوان "بهواء كالزجاج" وحصلت على جائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها السادسة عام 2002 قبل أن تصدر عن دائرة الثقافة والإعلام التابعة لحكومة الشارقة سنة 2003.
كما ترغب أيضا الكشف عن شعرية قصيدة النثر من خلال التقنيات المستعملة للإمساك بالموضوع الشعري، وطبيعة الاختيارات الجمالية التي انحاز إليها الشاعر، لا سيما وأن هذه التجربة وُلدت ناضجة وتقبلها النقد داخل المغرب وخارجه قبولا حسنا. ويحق لنا أن نتساءل عن السر وراء هذا الإقبال وهذا التجاوب. هل لأن صاحب المجموعة اختار المهجر موئلا وهي ظاهرة مغربية نادرة في صفوف الكتاب والشعراء؟ أم لأن موضوعها، وهو التفكر في التقنية، لازال عصيا على الاختراق من لدن الشعراء؟ أم هي السخرية الظاهرة والباطنة من العولمة والأمركة ما حرك أقلام النقاد ،ثم من هو المتلقي المفترض لهذه المجموعة؟ هل هو ذاك الذي يهتم بشعر المعميات والخيالات الفاسدة والنظم الذي يكتفي فقط بتطوير مهارات الإنشاء والإفراط في الذاتية من الغموض والرومانسية المبهمة أم من يهتم بالشعر الذي ينخرط في الأسئلة الراهنة بعيدا عن الخطابة والغنائية والتقريرية؟
قراءة في العنواناختار الشاعر لمجموعته عنوانا ينبني على خرقين، خرق تركيبي وخرق دلالي، فالأول ناتج عن تغييب المتعلق بشبه الجملة ليخلق لدى القارئ حقلا تأويليا واسعا، أما الخرق الثاني فمرده إلى توتير العلاقة بين طرفي التشبيه، فوجه الشبه بين الهواء والزجاج يكاد ينعدم. فهل نحن أمام بلاغة جديدة والشاعر هنا يسعى لخلق أزمة في الأطر البلاغية التقليدية؟ فالعنوان جاء في صيغة تشبيه ذكرت فيه الأداة لتفصل بين طرفي التشبيه، وطرفا التشبيه جاءا حسيين لكن وجه الشبه المحذوف لا يمكن الوصول إليه إلا برد هذه الجملة إلى السياق الواردة فيه، وبتغييب هذا السياق لن يكون لهذا العنوان أية دلالة. وردت هذه "الشبه الجملة" في القصيدة المعنونة "وئيداً أحفرُ في جليد حيّ"، وهي قصيدة تتشابك خيوطها في موضوعات التيه والضياع والخسران. قال الشاعر:
تبا،
هذا الضياع البارد يكبل أنفاسي
بهواء كالزجاج.
والشعر الذي سيستل روحي
إلى حيث الدفء والشقاوات القديمة
لم يعد دلوه يدرك الأعماق.
هذا المقطع يتأسس من خلال ثنائية ضدية هي التي خلقت التوتر والفجوة بين عناصر هذه الجملة الشعرية. إن الضياع في بلد بارد، برودة لم يألفها الشاعر الذي هاجر من بلد الشمس، يحدّ من حركته في التنفس وكأن هذا الهواء الذي من طبيعته أن يكون منسابا وأثيرا استكبل هو الآخر وصار له سمك كالزجاج والذي يبدو للعين كأنه ماء تجمد، مثل الجليد الذي يشبه الزجاج.
إن البعد النفسي لهذه الصورة التشبيهية هو الذي يعطي بعدا جماليا لها، فالشاعر يسعى إلى أن يوصل لقارئه إحساسه النفسي بضياعه واختناقه في المهجر بعيدا عن حومته وأصدقائه وعلاقاته مع الرفاق في حرم الجامعة، من خلال صورة تعكس الاختناق وعدم القدرة على التنفس وسط جو بارد جدا يجمد الدم في الشرايين وهي صورة من يتنفس هواء سميكا. إنه هواء كالجليد، هواء مع وقف التنفس.
من برد المكان إلى دفء الذاكرة
إن الاختناق والضياع والتيه والبرد والندم موضوعات تشكل بؤرة المجموعة وتنشر بظلالها على عالم الشاعر الذي استطاع أن يضفي الشاعرية على كل شيء بدءا من ذاتية في يومياتها مرورا بمساءلة التقنية (العنكبوت الجديد) ووصولا إلى نقد التمييز العنصري في العالم الجديد (أمريكا).
يقول:
لم يعد فيّ
ما قد يدل عليّ
ولم أعد أملك غير هذه
الأعضاء الباردة
الأعضاء التي تحس بالبرد وتنام
تتغطى بملاءات القطن
ولا تدفأ
إن الشاعر طه عدنان أمام هذا البرد وهذا الضياع في عالم جليدي يغالب وحدته شعريا على حافة الضوء. إذ إن كلمة "وئيدا" كما وردت في عنوان قصيدته يمكن استبدالها ب "وحيدا" فأمام هذه العزلة والوحدة كان الانترنيت أحد الأصدقاء المخلصين للشاعر إذ من خلال هذه الشبكة العنكبوتية سيطل على العالم وسيكتب قصيدته باعتبارها نسيجا عنكبوتيا. هذا النسيج الذي يرخي بأليافه على المجموعة التي يمكن اعتبار موضوع التقنية الجديدة من موضوعاتها المركزية. يقول في مطلع قصيدة I LOVE YOU :
أن تقع في أسر عنكبوت إلكتروني
لتؤدي الجزية 18 دولارا في الشهر
أن تصبح لك صداقات وطيدة في كل أنحاء العالم
دون أن تجد نفسك مجبرا على تحية جيرانك
في نفس العمارة .
ورد في القرآن الكريم قوله تعالى "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" سورة العنكبوت. فبالرغم من أن العنكبوت أنقذ حياة النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه في الآية ضرب به المثل في الوهن. والشاعر حين يتحدث عن العنكبوت الإلكترونية فإنه يدور في فلك تداعيات الوهن. يقول في المقطع 11 من القصيدة نفسها:
أن تخشى على حاسوبك الشخصي
من فيروس I LOVE YOU وأترابه
أكثر مما يخشى إفريقي على نفسه
من وباء الإيبولا.
أما في قصيدة "وئيدا أحفر في جليد حي" فإن تداعيات بيت العنكبوت السريع العطب وغير الواقي من البرد والحر تتواتر بشكل بارز في القصيدة يقول:
يُخيّبني
الفأرة اللعينة قرضت قصائدي
فيما ألامس رأسها المتقافز عبثاً
كهرٍّ هرِم أعيته الحيلة
وبرد المفاصل
تبا للكومبيوتر
ولقرصه الصلب المزدحم
كحمام النساء في حيي القديم
تبا لي
وأنا أزجّ بالشعر
في مضارب التشفير
من خلال هذا المقطع يمكننا أن نلاحظ كيف تنشط العملية الشعرية عند طه عدنان. فالصورة تتجلى من خلال تداعيات محسوبة، ومن خلال أنسنة الأشياء. فالفأرة كجزء من الكومبيوتر يسند لها فعل القرض لتستدعي الهرّ الذي أعيته الحيلة وبرد المفاصل. إن البعد الجمالي للصورة تحدده العلاقة فأرة / هرّ، أما البعد النفسي المضمر فهو الذي أضفى خصوصية هذا التصوير حيث استحال الشاعر في غرفته أمام الكومبيوتر يصطك من البرد. وبالمناسبة فالبرد ومصاحباته يأخذون مساحة كبيرة في قصائد المجموعة. إن اختيار معجم بعينه تحدده الضغوط النفسية. فالبرد ينصرف إلى الجو البارد كما أنه يحيل على البرودة في العلاقات، وهذا يستدعي طلب الدفء. وكما سنرى في المجموعة فمطلب الدفء يُعتبر موضوعة أساسية تلاحق الشاعر في أكثر من قصيد. فمرة يبحث عن الدفء عبر استدعاء الذاكرة، ومرة ينشده بين أحضان صديقته. إن هذا المطلب هو الذي وجه الشاعر أثناء انتقاء كلمة "حمَّام" في مقابل برد المفاصل. وتشبيه القرص الصلب المزدحم للكومبيوتر بحمام النساء في الحي القديم، تبرز لنا الطريقة التي يبنى بها الشاعر عالمه التخييلي. فهذه الصورة محكومة بسياق ثقافي خاص ومن تمَّ فالتداعيات التي ستحدثها لدى قارئ دخل حمام النساء في طفولته ستكون مغايرة لقارئ لم يخض هذه التجربة. فازدحام النساء في حمام الحي القديم يستدعي الجلبة واللغط وكل التخيلات العالقة منذ الطفولة حول مشهد الاستحمام والأبخرة الصاعدة. إن طه عدنان يبني صوره الشعرية من المألوف اليومي ليخلق بذلك نوعاً من التوتر بين طرفي الصورة.
القصيدة العنكبوت
سلف الذكر أن بيت العنكبوت بخيوطه المتشابكة يشير إلى الانترنيت، كما أنه قد يشير إلى القصيدة ذاتها باعتبارها نسيجا متشابها. يذكر الشاعر في نص "القصيدة الكونية: مسوّدة أولى" كيف تأتيه الكتابة. فالبراكين تكاد تنفجر في رأسه، وتراوده الكتابة كأنه يُوسُفُها وتمنعه من خدر الارتخاء فوق سرير العاشرة في صباح أحديّ مُتعَب. فيصف لنا بشكل ساخر كيف يهيئ نفسه لهذه العملية:
وكممثل لم يختر دوره
أهيئ نفسي لفصل الكتابة:
أعفو عن لحيتي وأفكاري
أترك شعري منكوشا كقصيدة نثر.
يتبنى الشاعر إستراتيجية بلاغة التشبيه لإحداث صورة شعرية جديدة من حيث المضمون والإيحاء، فلكي يبوح بأن الكتابة فرضت عليه وقضّت مضجعه يستدعي الممثل الذي يتقمص شخصية ليست شخصيته، إضافة إلى أنه لم يختر دوره. وكل هذا يعطينا الإحساس بأن الشاعر مُنقاد للكتابة وهي في العمق عملية قهرية وقسرية. وتشي هذه الصورة بإحساس صادق تجاه الكتابة لأنها عملية عسيرة، وكاذب مدّع من يقول إنه يذهب إلى الكتابة فرحا. ألم يقل الفرزدق أن قلع ضرس أهون عليه من قول بيت شعري. أعتقد أن قوة المجموعة تكمن في أن الشاعر يقول ما يعتقد. يقول في "القصيدة الكونية":
لا قدرة لي على البقاء مصلوبا
فوق هذا الكرسي البارد الشمتان
أعذب الشعر أكذبه
وأنا ضحية صدقي.
إن القصيدة العنكبوت تمثلت من خلال هذه الصورة:
أترك شعري منكوشا كقصيدة نثر.
البلاغة المعيارية تقول بأن وجه الشبه يكون أقوى في المشبه به. فقصيدة النثر في هذا السطر الشعري أكثر تشابكا من الشعر المنكوش. إن التشبيه المبني عبر طرفين حسيين يفتح القراءة على أفق ذهني. فقصيدة الشاعر رغم شفافيتها ورغم إيهامها بالتقشف الجمالي فهي كبيت العنكبوت سرعان ما تتحول إلى فخٍ يصعب الإفلات منه.
الشعر بين الذاتية والكونية
في "القصيدة الكونية" هيمنت السخرية كمكون أساس، ووضعت بداهات محل تساؤل، وكان فيها الانتصار للمعيش وللذكرى. فالشاعر لم يعد يحتمل الجلوس إلى مكتبه الأخرس ليكتب "ما قد يسميه البعض شعرا". لكنه كالآخرين تجذبه اللعبة إلى غنجها. وفي مشهد ساخر يلمز الشاعر الكوني:
أقطب جبيني مبالغة في التركيز
وأقوس حاجبي افتعالا للجدية:
ها إني أبدو مهموما
وغامضا كشاعر كوني.
إن الشاعر الكوني في هذه القصيدة لم يعد هو الشاعر الموسوعة الذي هضم التجارب السابقة ونسيها أو سرقها، أو الشاعر الذي تأثر بالشعراء الكبار الذين بصموا تجارب الشعراء من مختلف الألسن والأجيال. إنه فقط شخص ممسوس بنار الشعر يكاد يكتفي بقصائد أصدقائه الذين ينتمون لسلالة يتيمة زادها يعتمد على شحذ أدوات الخيال. يقول:
أنا الشاعر الكوني
أقرأ قصائد أصدقائي
ولا يهمني مصير إليوت في أرضه اليباب
بروتون بدوره لا يعنيني
رغم حبسته الحمقاء
في مصحة العقلاء
تكفيني قصائد الأصدقاء
تكفيني رسائلهم
بكمد أراجع أخبارهم الحزينة..
إن هذا المقطع يختزل تجربة جيل جديد يسعى إلى خلق بلاغة جديدة وحساسية شعرية مغايرة. فالشاعر لا يهمه إليوت الذي ألهم شعراء قصيدة التفعيلة، ولا تهمه السريالية (بروتون) التي تفتقر إلى شرط التواصل. فقد أصبحت قصائد العائلة الشعرية تكفي لاجتراح قصائد جديدة وأصيلة مغايرة. وحتى رسائل الأصدقاء تتحول إلى مرجعية شعرية تستثير المخبوء في الذاكرة ليستحيل بدوره مصدراً للكتابة.
إن هذا الاجتثاث المرجعي انعكس بجلاء في الحديث عن الخزانة الفقيرة وفي النقد الصريح للسرقة الشعرية التي كانت تغري الشاعر وتهمّ نفسه بها لولا أن رأى فقر خزانته، يقول:
حينما تُغلَّق في وجهي أبواب الأخيلة
تحضني الأمّارة على أن أحذو
حذو صديقي ذي السرقات المرموقة
كساقي صابرينا
فلا أجد لدي من القصائد
ما يكفي لتكرير الشعر
تبا لخزانتي الفقيرة
تبا للسراب.
دفن الماء الأخير
في الريح
وذاب.
ما يلفت القارئ في هذه المجموعة الشعرية بشكل خاص أيضاً هو الاستلهام القرآني في خلق الصورة المشهدية. فهذا المقطع يستلهم مشهد المراودة بين امرأة العزيز ويوسف عليه السلام. فغلق الأبواب، والنفس الأمَّارة والسرقة كلها مداخل معجمية تحيلنا مباشرة إلى قصة النبي يوسف. لكن يوسف الكتابة تغلق عليه أبواب الأخيلة، ويهم بالسرقة. لقد اتهم يوسف بن يعقوب بالسرقة ولم يسرق، راودته امرأة العزيز فاستعصم. ولأنه لم يستجب لنزوتها عُذب بالسجن، فكوفئ بالنبوءة وتأويل الرؤى. أما يوسف القصيدة فقد راودته الكتابة ولم يسرق فكوفئ باكتشاف صوته الخاص. وإن استلهامه للقرآن يؤكد الفرضية التي انطلقنا منها وهي أن الشاعر لا يريد أن ينتسب إلى آباء الشعر، فهو مكتف بصوته الخاص وعالمه الشعري الحميم. وإن كان من استثناء في هذه المجموعة فهي إشارة خاطفة بارقة لشاعر العربية الكبير المتنبي وربما للمعري وعنترة أيضا في هذا المقطع:
كنا صغاراً حينما أحببتُها
كأنبياء … نمشي على ماء زلال
وكأشقياء نرشق الريح الشفيفة
بالنّبال
لكنني…لكنها…
لم ندر إلاّ والنّصال
على النّصال
إن الكتابة تتأسس في عمقها على عدوى التداعي، فاستدعاء كلمة "أنبياء" لتشبيه حالة العاشقين اليافعين، استدعت لا شعوريا المتنبي والاشتغال عليه. يقول المتنبي في مرثية أم سيف الدولة:
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرتُ إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
وهـان فما أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي
إن الشاعر طه عدنان ينتصر للحياة حين يرى بأن الشعر ليس مجديا دوما. فهو قد لا يجرّ سوى المتاعب حيناً، وقد يفوّت على صاحبه لحظات حميمة دافئة أحياناً. يقول:
أيّة ضرورة للشعر
أيّ جدوى من تشريح الأوجاع؟
فالتركية التي قضت ليلتها في سريري
منذ شهر
لا تعرف ناظم حكمت
ولا تحفظ من الشعر سوى النشيد الوطني.
نقد التقنية والأمركة
لقد تعامل الشعراء مع التقنية كموضوع فوصفوا القطار والطائرة والباخرة وغيرها من المبتكرات التقنية. غير أن اختيار التقنية كموضوع لا يكفي وحده للدخول إلى الحداثة الشعرية، خصوصا وأن التعامل مع التقنية لدى هؤلاء الشعراء من أمثال معروف الرصافي وأحمد شوقي وغيرهم تم من منظور انبهاري إحيائي تعامل مع الغرب بطريقة انتقائية فأخذ التقنية مسلوخة عن فلسفتها وعن سياقها ونتائجها ولذلك كانت القصائد التي تناولت المنجز التقني تعتبر قصائد حدث سرعان ما انطفأت جذوتها. وعلى العكس من ذلك فإن تعامل طه عدنان مع الكومبيوتر والانترنيت اتخذ مسارا آخر، تجلى في تشريح هذا المنجز ورصد انعكاساته على مجموعة من العلاقات المألوفة. إن الانترنيت قد صير العالم قرية صغيرة، وخلق علاقات غريبة مثل الاتصال بالعالم من خلال العزلة والوحدة. فأن تعرف العناوين الإلكترونية التي تتعامل معها كل تفاصيل حياتك فيما تجهل عنك أمك كل شيء كما جاء في الديوان، وأيضا أن تنسى أقرب مكتب بريد في حيك، أن تتزوج من خلال علاقة حب إلكترونية، يعني أنك دون أن تدري قد ولجت عالما آخر تحكمه قيم مختلفة تماماً. وفي قصيدة "الشاشة عليكم" يتأكد هذا الإحساس لتصبح الآلة في حد ذاتها واهبة الصور الضوئية والصور الشعرية، وواهبة المعنى أيضاً. يقول الشاعر:
صباح الموج أيها الأزرق الهادر العظيم
يا شرفة الضوء المشرعة على خيوط المستقبل
أيتها اللحظة الباهرة التي تؤلب الروح
ضد عزلة الجسد
والحواس ضد ما يشدها إلى رتابة الأعضاء
أيتها اللحظة التي لا عمر لها
سأقيم فيك لأرحل
بعيدا عن جهامة رجال الجمارك الانكشاريين
وتحذلق الخصيان من موظفي المطارات.
حتى الجلسة مع الأصدقاء صارت افتراضية وأصبح ممكنا أن تقوم بكل عاداتك وحميمياتك بمعية أصدقائك:
صباح الخير يا قراصنة الضوء
أهلا ومهلا
سأجيئكم بقهوة الصباح
ببيجامتي الزرقاء وبرائحة الفراش
سأقشر المندرين
سأطلي الخبز بالزبدة والكتشب
وأجيئكم
سأفطر بينكم
كما يجدر بأسرة افتراضية سعيدة
إن مفهوم العالم الخارجي أصبح لدى الشاعر مجرد إشاعة، يقول:
لم أعد قادراً على العيش خارجك
يا مدينة الكهرباء
العالم خارجك محض إشاعة
وحدهم البسطاء يصدقونها
أما أنا فلا خارج لي.
إن الكومبيوتر أو مدينة الضوء أو هذا الداخل الحميم هو ترياق ضد الضجر. إن تأملات الشاعر في الأشياء التي غيرها الانترنيت أفضت به إلى الاعتقاد بأن هذا الإنجاز سيغير مسند الكتابة وسيكون أرأف بالغابات:
فوداعاً
وداعاً أيتها الأوراق… وداعاً
وداعاً يا بنات الأشجار… وداعاً
ومرحى بعالَمٍ
أكثر رأفةً بالغابات
وبالرغم من هذا المديح الظاهر لعالم الانترنيت الرؤوم، فإن الشاعر لا يتحرج من ممارسة النقد للجانب السلبي له فيما يشبه الهجاء حيث يقول:
ضيّعتني الانترنيت
بددت دفئي الباقي
ولم أجن منها سوى الوحدة
والقلق
فأصدقائي تائهون
في سوق المضاربات الغرامية
منهمكون في كتابة الرسائل العابرة للقلوب
والقارات.
يعرضون حرارتهم الفصيحة
ولواعجهم المترجمة
على مانكانات النوافذ الإلكترونية القارسة
لا يكتفي الشاعر في المجموعة بنقد التقنية، وجلد الذات التائهة والضائعة التي تورطت في الهجرة التي لا رجعة منها بسبب إغواء شعري، يقول:
أغوتني قصائد سركون بولص
أغواني أدب المهجر
منذ الرابطة القلمية
حتى آخر قصيدة مجمدة لشاعر عراقي
ينتظر الاعتراف به كلاجئ
في الدانمارك
بل يتجاوز ذلك إلى نقد أمريكا كرمز لعالم القطب الواحد وعنوان للعولمة. فقد خصص قصيدتين لهذا الموضوع كتبت أولاهما في نيويورك عام 2000 في شهر سبتمبر، وهي قصيدة I LOVE YOU والثانية ببوسطن في شهر أكتوبر من السنة نفسها تحت عنوان "مرثية إلى أمادو ديالو".
وقد بنيت القصيدة الأولى، والتي يمكن أن نسميها القصيدة الاعتراضية، على تعداد مجموعة من الوصفات والمواصفات الساخرة للعنصر الصالح للاندماج السريع في قبيلة العولمة. هذا وقد سبق أن أشار الشاعر في "القصيدة الكونية" التي كتبها ببروكسل أواخر عام 1997 إلى هجرة أخيه إلى الولايات المتحدة الأمريكية:
أخي الأصغر سافر دون وداعي
ولم يكتب منذ رحل
لربما " أورلاندو " كانت أكثر وطناً.
لكنه في قصيدة I LOVE YOU التي عنونها باسم فيروس إلكتروني شهير يوجه نقدا لاذعا لمواصفات المواطنة الصالحة في أمريكا، فيما سيعري في مرثيته إلى أمادو ديالو كل ادعاءات أمريكا التي بلا تاريخ يقول:
هنا مُستقر الرُّحل
وموقف المشائين
لا تخلع نعليك أيها الزائر
فالوادي غير مقدس
ولا تخفف الوطء
فلا رفات هنا
لا أجداد
ولا أجداث
بل أخط بقرقعة واثقة
فلا أحد يضيع
في هذه المتاهة العصماء
لقد بنيت القصيدة عبر مجموعة من التكرارات لجملة ترحيبية يُستقبل بها الزوار في العادة:
أهلا بك في نيويورك
وقد كان تكرارا تهكميا يعدد ما أنجزته أمريكا، فالحرية في نيويورك تنام واقفة على شكل تمثال، وفي نيويورك ناطحت الأرض السحاب، قبل أن ترسي دعائم الأحادية في عالم لا يأبه للمشاعر:
أهلا بك في نيويورك
حيث نبني مدرسة واقعية
لخيال المستقبل
هنا نبدع للعالم لغته الجديدة
لغته الوحيدة
ونفكر للجميع
في حياة مطمئنة
خلوٍّ من المشاعر
والأحقاد.
وأيضا من خلال بناء تركيبي بين صوت الشاعر وصوت الشاب الغيني الذي قُتل برصاص أربعة من رجال الأمن أمام منزله بحي البرونكس بنيويورك والذي حرّك في الشاعر انتماءه الإفريقي. يقول الشاعر على لسان أمادو ديالو مخاطبا المواطن الأمريكي الأسود:
أخي في السمرة
يا سليل إفريقيا الشهيدة
ها مواطِنوك البيض الرائقون
يعلمونني بدل البرمجة
السباحة في الدم الخاثر
أخي إني أموت لأن لي حلماً
بلونٍ فاتحٍ
وجريرتي أني
أحمل جرحي وترابي
وأبحث عن وطنٍ
من ظل
وماء.
خاتمة
إن الشاعر لم يكتب في النهاية قصيدته الكونية. فهذه القصيدة بمواصفاتها المستحيلة محض سراب. لذا اكتفى بمسوّدتها الأولى. لقد كان مشغولا باليومي ممعنا في تفاصيله. هاجر إلى بلاد البرد والضباب فتفتحت ذاكرته على ماضيه في بلد الشمس والدفء. سافر إلى أمريكا فوقف على الحرية جامدة كتمثال وتأثر بمرارة الميز العنصري الذي يمارسه كوبوي زمن العولمة. وهو اليوم يعيش في مهجره البلجيكي فيما يشبه العزلة. ولكي ينفتح على العالم الفسيح ويستعيد علاقاته مع الأصدقاء والخلان في بلده الأم وعالمه العربي ينخرط في حياة افتراضية موازية عبر الانترنيت. وعلى الشعر أن يدوّن هذا كله. فهل نعتبر مجموعته الشعرية الأصيلة والمختلفة "بهواءٍ كالزّجاج" دليلاً إلى ممالك الضوء أم كتاب ضياع وحيرة وخسران؟
- "بهواء كالزجاج" شعر، طه عدنان، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، الطبعة الأولى 2003.
- محمد آيت لعميم: ناقد ومترجم مغربي، باحث في الأدب المقارن