لم أكن بعد أعرف عادات أمي، ولا أهلها عندما جاءت الشاحنات من البحر. لكنني كنت أعرف رائحة التبغ حول عباءة جدي ورائحة القهوة الأبدية منذ ولدت كما يولد الحيوان الأليف هنا، دفعة واحدة. ... نحن أيضاً لنا صرخة في الهبوط إلى حافة الأرض.
لكننا لا نخزن أصواتنا في الجرار العتيقة... أحلامنا لا تطل على عنب الآخرين... نحن أيضاً لنا سرنا عندما تقع الشمس عن شجر الحور: تخطفنا رغبة في البكاء على أحد مات من أجل لا شيء مات، وتجرفنا صبوة لزيارة بابل أو جامع في دمشق، وتذرفنا دمعة من هديل اليمامات في سيرة الوجع الخالدة.
ـ ... إلى أين تأخذني يا أبي؟
ـ إلى جهة الريح يا ولدي...
ـ ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟
ـ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي!
... تحسس مفتاحه مثلما يتحسس أعضاءه، واطمأن. ... »يا ابني تذكر، هنا صلب الإنجليز أباك على شوك صبارة ليلتين، ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا إبني، وتروي لمن يرثون بنادقهم سيرة الدم فوق الحديد...«.
ـ ... لماذا تركت الحصان وحيداً؟
ـ كي يؤنس البيت، يا ولدي، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها...
[[[
... ويقول أب لإبنه: كن قوياً كجدك! واصعد معي تلة السنديانة الأخيرة يا ابني تذكر: هنا وقع الإنكشاري عن بغلة الحرب فاصمد معي لنعود.
ـ متى يا أبي؟
ـ غداً، ربما بعد يومين يا ابني !
[[[
... هل تعبت من المشي يا ولدي، هل تعبت ؟
ـ نعم يا أبي.
ـ ... نعود إلى البيت، هل تعرف الدرب يا ابني؟ نعم يا أبي...
ـ هل تعرف البيت، يا ولدي؟
مثلما أعرف الدرب أعرفه: ياسمين يطوق بوابة من حديد ودعسات ضوء على الدرج الحجري وعباد شمس يحدق في ما وراء المكان... وفي باحة البيت بئر وصفصافة وحصان وخلف السياج غد يتصفح أوراقنا.
ـ يا أبي هل تعبت؟ أرى عرقاً في عيونك؟
ـ يا ابني تعبت.. أتحملني ؟
ـ مثلما كنت تحملني يا أبي، وسأحمل هذا الحنين إلى أولي وإلى أوله وسأقطع هذه الطريق إلى آخري وإلى أخره. (لماذا تركت الحصان وحيداً ١٩٩٥)
[[[
هناك، عرفت من آثار النكبة المدمرة ما سيدفعك إلى كراهية النصف الثاني من الطفولة. فإن كنزة صوف واحدة، منتهية الصلاحية، لا تكفي لعقد صداقة مع الشتاء . ستبحث عن الدفء في الرواية، وستهرب مما أنت فيه إلى عالم متخيل مكتوب بحبر على ورق. أما الأغاني فلن تسمعها إلا من راديو الجيران. أما الأحلام فلن تجد متسعاً لها في بيت طيني، مبني على عجل كقن دجاج، يحشر فيها سبعة حالمين، لا أحد منهم ينادي الآخر باسمه منذ صار الإسم رقماً. الكلام إشارات يابسة تتبادلونها في الضرورات القصوى، كأن يغمى عليك من سوء التغذية...
تتذكر مذاق العسل الجارح الذي كان جدك يرغمك على تناوله فتأبى، وتهرب من مشهد جدتك التي تضع المنخل على وجهها لتتقي عقصات النحل وتقطف الشهد بيد جريئة. كل شيء هنا برهان على الخسارة والنقصان. كل شيء هنا مقارنة موجعة مع ما كان هناك. وما يجرحك أكثر هو أن »هناك« قريبة من »هنا«. جارة ممنوعة من الزيارة. ترى إلى حياتك التي يتابعها مهاجرون من اليمن دون أن تتدخل في ما يفعلونه بها، فهم أصحاب الحق الإلهي وأنت الطارئ اللاجئ. (لماذا تركت الحصان وحيداً).
[[[
وعشت لأن يداً إلهية حملتك من عين العاصفة إلى واد غير ذي زرع. وعشت في منزلة الصفر، أو أقل أو أكثر.
... وعشت لأن يداً إلهية أنقذتك من حادثة. عشت في كل مكان كمسافر في قاعة انتظار في مطار يرسلك، كبريد جوي، إلى مطار... عابراً عابراً بين اختلاط الهنا بالهناك، وزائراً متحرراً من واجبات التأكد من أي شيء.
وعشت لأن كثيراً من الرصاص الطائش مرّ من بين ذراعيك ورجليك ولم يصبك في قلبك، كما لم يشج حجر طائر في رأسك. (في حضرة الغياب ٢٠٠٦)
[[[
على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق لأنك سيدتي، أستحق الحياة. (ورد أقل).
[[[
أحبك خضراء. يا أرضُ خضراءَ. تفاحة تتموج في الضوء والماء. خضراء. ليلك أخضر. فجرك أخضر. فلتزرعيني برفق... برفق يد الأم، في حفنة من هواء. أنا بذرة من بذورك الخضراء. (لاعب النرد)
[[[
وحين أعود للبيت و حيداً فارغاً، إلا من الوحدة / يداي بغير أمتعة، وقلبي دونما ورده / فقد وزعت ورداتي على البؤساء منذ الصبح... وحين أعود للبيت
أحس بوحشة البيت وأخسر من حياتي كل ورداتي وسرّ النبع.. نبع الضوء في أعماق مأساتي وأختزن العذاب لأنني وحدي بدون حنان كفيك / بدون ربيع عينيك! ... (قصيدة »أغنية«)
[[[
إن لم تكن حجراً يا حبيبي فكن قمراً في منام الحبيبة.. كن قمراً. هكذا قالت امرأة لابنها في جنازته. (حالة حصار)
[[[
مات ما فات فمن يكتب قصيدة في زمان الريح والذرة يخلق أنبياء.
... قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت وإن لم يفهم البسطاء معانيها فأولى أن نذريها ونخلد نحن للصمت (عن الشعر)
[[[
تفاحةٌ للبحر، نرجسة الرخام، فراشةٌ حجريةٌ بيروت
شكل الروح في المرآة
وصف المرأة الأولى ورائحة الغمام
بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام.
فضّة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام.
وفاة سنبلة، تشرّد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت.
لم أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي... و تنام ...
من مطر على البحر اكتشفنا الإسم، من طعم الخريف وبرتقال
القادمين من الجنوب، كأنّنا أسلافنا نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى
بيروت ... (بيروت)
[[[
يسألني المتعبون، أو المارة الحائرون عن إسمي فأجهله.. إسألوا عشبة في طريق دمشق! وأمشي غريباً وتسألني الفتيات الصغيرات عن بلدي
فأقول: أفتش فوق طريق دمشق وأمشي غريباً ويسألني الحكماء المملون عن زمني فأشير / حجر أخضر في طريق دمشق / وأمشي غريباً
ويسألني الخارجون من الدير عن لغتي فأعد ضلوعي وأخطئ / إني تهجيت هذي الحروف فكيف أركبها؟
دال. ميم. شين. قاف فقالوا: عرفنا - دمشق! ابتسمت. شكوت دمشق إلى الشام كيف محوت ألوف الوجوه وما زال وجهك واحد! (طريق دمشق)
[[[
(إلى جمال عبد الناصر)
متى يا رفيقي؟ متى يا عزيزي؟ متى نشتري صيدلية بجرح الحسين.. ومجد أميّة ونبعث في سدّ أسوان خبزاً وماء ومليون كيلواط من الكهرباء؟
أتذكر؟ كانت حضارتنا بدوياً جميلا يحاول أن يدرس الكيمياء ويحلم تحت ظلال النخيل بطائرة.. وبعشر نساء ولست نبياً ولكن ظلك أخضر.. نعيش معك نسير معك نجوع معك وحين تموت نحاول ألا نموت معك ففوق ضريحك ينبت قمح جديد وينزل ماء جديد و أنت ترانا.
نسير
نسير
نسير . (الرجل ذو الظل الأخضر)
[[[
أغلقوا المشهد/ انتصروا/ عبروا أمسنا كله، غفروا/ للضحية أخطاءها عندما اعتذرت/ عن كلام سيخطر في بالها، غيروا جرس الوقت/ وانتصروا...
... التفتنا إلى دورنا في الشريط الملوّن، لكننا لم نجد نجمةً للشمال ولا خيمةً للجنوب. ولم نتعرّف على صوتنا أبداً. لم يكن دمنا يتكلّم في الميكروفونات في ذلك اليوم، يوم اتّكأنا على لغةٍ بعثرت قلبها عندما غيّرت دربها. لم يقل أحدُ لامرئ القيس: ماذا صنعت بنا وبنفسك؟، فاذهب على درب قيصر، خلف دخان يطلّ من الوقت أسود. واذهب على درب قيصر، وحدك، وحدك، وحدك، واترك لنا، ههنا، لغتك! (خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس)
[[[
خسرت حلماً جميلاً، خسرت لسع الزنابق، وكان ليلي طويلاً، على سياج الحدائق، وما خسرت السبيلا. (موال)
[[[
وسآتي إلى ظل عينيك.. آت/ وردة أزهرت في شفاه الصواعق، قبلة أينعت في دخان الحرائق فاذكريني.. إذا ما رسمت القمر فوق وجهي، وفوق جذوع الشجر مثلما تذكرين المطر وكما تذكرين الحصى والحديقة واذكريني، كما تذكرين العناوين في فهرس الشهداء. أنا صادقت أحذية الصبية الضعفاء أنا قاومت كل عروش القياصرة الأقوياء لم أبع مهرتي في مزاد الشعار المساوم لم أذق خبز نائم لم أساوم لم أدق الطبول لعرس الجماجم و أنا ضائع فيك بين المراثي وبين الملاحم بين شمسي وبين الدم المستباح جئت عينيك حين تجمد ظلي والأغاني اشتهت قائليها أريد مزيداً من العمر كي يعرف القلب أهله، وكي أستطيع الرجوع إلى... ساعة من تراب. (ورد أقل)
[[[
من أنا؟ أنشيد الأناشيد أم حكمة الجامعة؟ وكلانا أنا وأنا شاعر وملك وحكيم على حافة البئر، لا غيمة في يدي ولا أحد عشر كوكباً على معبدي. ضاق بي جسدي ضاق بي أبدي وغدي...
وكلما صادقت أو آخيت سنبلة تعلمت البقاء من الفناء وضده: »أنا حبة القمح التي ماتت لكي تحضر ثانية. وفي موتي حياة ما...
فنم هادئاً إذا ما استطعت إلى ذلك سبيلا / ونم هادئاً في كلامك واحلم بأنك تحلم، نم هادئاً ما استطعت، سأطرد عنك البعوض ودمع التماسيح، والأصدقاء الذين أحبوا جروحك وانصرفوا عنك حين جعلت صليبك طاولة للكتابة.
نم هادئاً قرب نفسك/ نم هادئاً، سوف أحرس حلمك، وحدي ووحدك في هذه الساعة/ الأرض عالية كالخواطر عالية والسماء مجازية كالقصيدة زرقاء، خضراء، بيضاء، بيضاء، بيضاء، بيضاء. (في حضرة الغياب).
(النصوص من اختيار هنادي سلمان)
عن جريدة السفير