السوري محمد أبو لبن في (عمّا قليل) مدوّنة شخصية للعابر
خليل صويلح
2006-04-07
ينشغل محمد أبو لبن في مجموعته الشعرية الأولى"عمّا قليل" (دار كنعان-دمشق-2005)، بتأمل عالم شخصي مرتهن للغياب، مثلما هو عصي على التفسير والفحص، فيمضي باحتجاج طفيف إلى شأنه مندحراً إلى ذكريات عابرة وحميمة، ليعلّق آماله عمّا يأتي بعد قليل، فالحياة حسب تعبيره "قاب قوسين أو أدنى"، لكن هذه الانتظارات تذهب سدى في عالم يفر من يديه، ويعجز عن فهم مفرداته، وكأن هذا الشاعر السوري الشاب في إطلالته الأولى يرغب في إحصاء حجم خساراته بنوع من الدهشة والارتباكات والاغتراب،
خصوصاً أنه حمل حقائبه وهاجر إلى مدريد لدراسة المسرح، ما جعل قصائده تتشظى بين خرائط متباعدة تمتد من دمشق إلى لندن وباريس ومدريد وبروكسل. ولعل هذا التنوع في مجرى حياته، أقحم نصه بأسئلة متضاربة، أسئلة تمحو الإجابات الأكيدة لشاعر جوّال أو مشّاء، يرسم خطواته تبعاً لمحطات عمره التي تتكشف عن حساسية مفرطة اتجاه ما هو عابر، فتتحول القصيدة لديه في المآل الأخير إلى عدسة مثبّتة على منظر أو ذكرى أو حنين في تقابلات قسرية بين صورة الأمس وصورة اليوم المغلفة بحنين ملتبس إلى ما هو غائب وغير محقق "على مقعد هناك جلس عمري ينتظر، أشياء لم تأت أبداً. على مقعد هناك خطر لي أنني سأخاف كثيراً عما قليل".
وتتناوب نصوص محمد أبو لبن مفردات عمومية، ما تنفك أن تنكمش وتندحر إلى ما هو ذاتي وتأملي ومفتقد، وهذه المسافة بين ما هو عمومي وما هو خاص، تفرز أسئلة معلّقة على شجرة الانتظارات التي غالباً ما تسفر عن هباء "أترك للأشياء الصغيرة من حولي استرخاءها لتصير مجازاً مغلقاً لا يدل على شيء، وأترك نفسي تنفرط مثل حفنة رمل".
هكذا تثقل مفردات مثل "الخوف، القسوة، الكآبة" عالمه الوجداني في تحولاته واحتداماته، فيلجأ إلى السرد البصري والذهني بآن معاً، ما يؤكد على اضطراب بوصلته تجاه عالم وبلاد "تجلس على حافة الوقت"، ثم "أهرم مثقلاً بماض لم أورثه لأحد، عابقاً بعطر الكآبة، جافاً كخريف".
ويسعى محمد أبو لبن إلى تأطير قصائده بثيمة تؤكد عنوان الديوان "عمّا قليل"، إذ أن ما يبرر خيباته وانكساراته الحياتية هو أمل ما غامض بما سوف يأتي "عمّا قليل"، فالحياة قاب قوسين أو أدنى، و"العالم ملء كفيه، والأغاني تنتظره بعد شارعين".
وهذه الانكسارات الذاتية، هي سمة شعرية لجيل الألفية الثالثة عموماً، بفقدان اليقين وتشظي الأحلام وانسداد الأفق، لكن ما يؤكد خصوصية هذا الشاعر بين أقرانه في المشهد الشعري السوري الجديد، درايته البلاغية لجماليات العابر والملتبس، ومحاولته تشكيلها على نحو مبتكر من دون إدعاء بالاختلاف، كما أنه يلجأ إلى مزج بعض نصوصه بمقاطع مقتبسة من الشعر القديم والأغاني الشعبية ومزاج "البوب" في ارتجالات مباغتة تستدرج الذكريات والأمكنة والأصدقاء بنبرة شجن شخصية تمنح الغياب مشروعية للسرد والوقائع، من دون ضجيج أو هتاف، وكأن محمد أبو لبن ليس معنياً على الطلاق بما يحدث خارج مفارقات حياته وخرائط ذكرياته التي لا تحتمل المواربة أو المحسنات البديعية الفائضة، كما لو أنه يكتب مدونة شخصية قابلة للمحو والتعديل والإضافة، تبعاً لتجوال مشاعره واستدراكاته هو "الغريب العابر"، طالما أن "كل شيء ثابت، سميك، فاقد للأمل، خشن الملمس".