خالد خليفة في (مديح الكراهية): شهوة الرائحة وتجليات الحكي المراوغ
خليل صويلح
2006-04-07
تنهض رواية خالد خليفة "مديح الكراهية" (دار أميسا- دمشق -2006 ) على التذكر والرائحة لنبش تاريخ مدينة، وهي هنا حلب، وقد اختار حقبة استثنائية وضعت هذه المدينة العريقة بتقاليدها في مهب البارود والموت اليومي، خلال ثمانينات القرن المنصرم (المواجهة بين الإسلاميين والسلطة)، وعلى رغم أن الوصف أوقع السرد بالإسهاب والتشظي إلا أن ما يلملم هذه الخيوط في نسيج واحد، هو رائحة الكراهية، هذه الرائحة التي أفقدت البشر تسامحهم التاريخي، في مدينة تعاقبت عليها حضارات مختلفة، أكسبتها عطراً سرياً لنشوة الحياة، وكيف تلاشت رائحة العطر تدريجياً لمصلحة هواء أسود عفن أطاح بشموسها ليحولها في نهاية المطاف إلى مدينة للموت.
تتوزع الرواية على أربعة فصول تنغلق على حكاية، وتنفتح على أخرى، على لسان راوية، سوف تظل مجهولة الاسم، فيما تنهمك بتدوين حكايات الآخرين بتفاصيل دقيقة، غالباً ما تذهب بعيداً من بؤرة الحكي، فيما يشبه التداعي، إلى حكايات جانبية تثقل بهجة السرد ورشاقته، خصوصاً أن الراوية جاءت إلى مكان الحدث بقرار قسري حين انتقلت من بيت الأب إلى بيت الجد، بناء على رغبة خالتها الكبرى "مريم" لتدخل في متاهة منزل نساء يقودهن أعمى، فتكتشف في هذا الفضاء السحري معنى الرائحة، طالما أن رضوان الأعمى الذي التقطه الجد من فناء الجامع الأموي ذات يوم، ليصير فرداً في العائلة، يعمل في تحضير العطور، مثلما تكتشف رائحة أجساد الخالات وقبل ذلك كله، رائحة صور العائلة في ألبوم عتيق، سوف يكون هذا الألبوم مفتاحها لرواية حكايتها. هكذا تستعيد صورتها الأولى في ملاءة سوداء، وهي تحاول أن تغتصب ابتسامة أمام العدسة، لكنها اليوم لا تذكر سوى رائحة نفتلين ثقيلة تهب من مشجب ألبسة استديو التصوير. الرائحة ذاتها تشمها في الخزائن العتيقة في بيت الجد، وتالياً تتشكل روائح أخرى عفنة، في المعتقل الذي تساق إليه بعد أن تكتشف السلطة، انتسابها إلى جماعات الإسلاميين المحظورة. وتتواشج سيرة الراوية بسيرة المدينة جنباً إلى جنب، في عنفها وفوضاها، وكأن الراوية شهرزاد أخرى تؤجل موتها بالحكي، الأمر الذي يقودها إلى سرديات متعددة لمصائر الآخرين في اندحاراتهم المتتالية، وخصوصاً سير خالاتها، وهن يتأرجحن بين جذوة اشتعال الجسد وانطفاءه. فسيرة مريم (الخالة الكبرى) تنتهي بالنوم في تابوت بدلاً من السرير في غرفتها الباردة بانتظار موت أبيض، بعد سلسلة انتظارات خائبة، فيما تكسر مروة تقاليد العائلة بالهروب مع نذير المنصوري الضابط في سرايا الموت، أما صفاء فتوافق على الزواج من عبد الله اليمني لينتهي بها المطاف في قندهار برفقة زوجها المجاهد في أفغانستان. هذه الخطوط المتعددة ليست هي القماشة الوحيدة للرواية، إنما تواكبها قماشة أخرى تتناغم مع الأولى لتختزل سيرة العائلة كلها، هذه العائلة الحلبية العريقة التي تشتغل في تجارة السجاد، لذلك فأن السرد يستعير ألوان السجاد وزخرفته ورسوماته في استكمال جداريته الضخمة، على رغم أن بعض الألوان تبهت هنا وهناك حين تحمّل الراوية ثقلاً معرفياً في والوصف والاستعارة والبلاغة، من خارج مقدرتها الحكائية وكأن رغبة الروائي باستعارة دور الراوية من موقعه الذكوري بالضرورة، تلح عليه، أثناء عملية الكتابة كاشتغال لغوي في الدرجة الأولى "دهش ابن السمرقندي بمنزلنا الواسع، بأقواسه الحجرية وقناطره الداخلية، المزينة بعموديين من طراز كورنثي أضافهما جدي ليصبح مدخلاً افتراضياً لغرفته الخاصة"، مثل هذا الوصف الباهظ، لا تستدعيه ذاكرة شابة حلبية محافظة خصوصاً أنها كانت تنتسب إلى كلية الطب في جامعة حلب وليست إلى كلية الآداب مثلاً، ولعل الإشكال السردي الفاضح، يتجلى في اشتغال الراوية على سرد مضاد لثقافتها الفقهية والطهرانية، طالما أنها تحضر أسبوعياً دروساً دينية في بيت سري، وتوزع منشورات تدعو للإطاحة بالسلطة، لكن شهوة الحكي والاستطراد أوقعت الراوية (أم الراوي؟) في تخيل إضافي وطليق، قاد الحكاية إلى مسارب بعيدة من المكان الأول "حلب" فمصائر أبطالها تمتد من حلب إلى استنبول وباريس وسمرقند، على حساب وحدة المكان وعمارة الرواية في مقترحها الأول، وكذلك مكمن القيمة الأصلية "الكراهية"، فالكراهية قلادة في عنق الراوية، كي تنتصر على أعدائها، كما باحت أكثر من مرة إذ ما تنفك تستعيدها كتعويذة تحمي خطواتها المتعثرة نحو المجهول، قبل أن تنتهي رحلتها في لندن كطبيبة متدربة في مشفى، بعد أن فقدت نصف عائلتها في المجازر والموت، من دون أن تفارقها رائحة البهار في أسواق حلب وشوارعها "وحيدة أبحث عن صور الموتى واستعارات كي أتبادلها مع الآخرين كسحلية دميمة وعذراء". وإذا كانت " مديح الكراهية " افتتحت السرد بصورة قديمة للراوية، تحيل إلى تاريخ رمزي، يشير إلى ولادتها في مطلع صعود حزب البعث إلى السلطة ( 1963 )، فإن الصورة الأخيرة لها، تؤرخ في العام( 1995)، نهاية كتابة الرواية، وهذه المرة بتوقيع خالد خليفة نفسه، وكأن السرد المراوغ في المآل الأخير كان مجرد ذريعة لتأريخ أربع عقود من تاريخ سورية الحديثة، ولو على جناح التخييل .